قوله تعالى : { وترى كل أمة جاثيةً } باركة على الركب ، وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء من الله . قال سلمان الفارسي : إن في القيامة ساعة هي عشر سنين ، يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إبراهيم عليه السلام ينادي ربه : لا أسألك إلا نفسي . { كل أمة تدعى إلى كتابها } الذي فيه أعمالها ، وقرأ يعقوب : { كل أمة } نصب ، ويقال لهم : { اليوم تجزون ما كنتم تعملون* }
ثم ننظر من خلال الكلمات فإذا ساحة العرض الهائلة ، وقد تجمعت فيها الأجيال الحاشدة التي عمرت هذا الكوكب في عمره الطويل القصير ! وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة . في ارتقاب الحساب المرهوب . . وهو مشهد مرهوب بزحامه الهائل يوم تتجمع الأجيال كلها في صعيد واحد . ومرهوب بهيئته والكل جاثون على الركب . ومرهوب بما وراءه من حساب . ومرهوب قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر ، والمنعم المتفضل ، الذي لم تشكر أنعمه ولم تعرف أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين !
ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة بريق جاف ونفس مخنوق . يقال لها :
ثم قال : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي : على ركبها من الشدة والعظمة ، ويقال : إن هذا [ يكون ]{[26351]} إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، حتى إبراهيم الخليل ، ويقول : نفسي ، نفسي ، نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي ، وحتى أن عيسى ليقول : لا أسألك اليوم إلا نفسي ، لا أسألك [ اليوم ] {[26352]} مريم التي ولدتني .
قال مجاهد ، وكعب الأحبار ، والحسن البصري : { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي : على الركب . وقال عِكْرِمة : { جاثية } متميزة على ناحيتها ، {[26353]} وليس على الركب . والأول أولى .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عبد الله بن باباه{[26354]} ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] {[26355]} قال : " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " {[26356]} .
وقال إسماعيل بن رافع المديني{[26357]} ، عن محمد بن كعب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، مرفوعا في حديث الصورة{[26358]} : فيتميز الناس وتجثو الأمم ، وهي التي يقول الله : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } {[26359]} .
وهذا فيه جمع بين القولين : ولا منافاة ، والله أعلم .
وقوله : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } يعني : كتاب أعمالها ، كقوله : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] ؛ ولهذا قال : { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : تجازون بأعمالكم خيرها وشرها ، كقوله تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ . بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة : 13 - 15 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَىَ كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَىَ إِلَىَ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وترى يا محمد يوم تقوم الساعة أهل كل ملة ودين جاثية : يقول : مجتمعة مستوفزة على ركبها من هول ذلك اليوم . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةً قال على الركب مستوفِزِين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد ، في قوله : وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةً قال : هذا يوم القيامة جاثية على ركبهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَتَرَى كُلّ أمّةٍ جاثِيَةً يقول : على الركب عند الحساب .
وقوله : كُلّ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها يقول : كل أهل ملة ودين تُدعى إلى كتابها الذي أملت على حفظتها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كُلُ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها ، يعلمون أنه ستدعى أُمة قبل أُمة ، وقوم قبل قوم ، ورجل قبل رجل . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يُمَثّلُ لِكُلّ أُمّةٍ يَوْمَ القِيامَةِ ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ حَجَرٍ ، أوْ وَثَنٍ أوْ خَشَبَةٍ ، أوْ دَابّةٍ ، ثُمّ يُقالُ : مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلْيَتْبَعْهُ ، فَتَكُونُ ، أوْ تُجْعَلُ تِلْكَ الأوْثانُ قادَةً إلى النّارِ حتى تَقْذِفَهُمْ فِيها ، فَتَبْقَى أُمّةُ مُحَمّدٍ صَلى اللّهُ عَليهِ وَسلّمَ وأهْلُ الكِتاب ، فَيَقُولُ للْيَهُودِ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَعُزَيْرا إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ، فَيُقالُ لَهَا : أمّا عُزَيْرٌ فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشّمالِ ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يسْتَطِيعُونَ مُكُوثا ، ثُمّ يُدْعَى بالنّصَارَى ، فَيُقالُ لَهُمْ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَالمَسِيحَ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَيُقالُ : أمّا عِيسَى فلَيسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشمّالِ ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يسْتَطِيعُونَ مُكُوثا ، وَتَبْقَى أُمّةُ مُحَمّدٍ صَلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ ، فَيُقالُ لَهُمْ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ ، وإنّمَا فارَقْنا هَؤُلاءِ فِي الدّنيْا مَخافَةَ يَوْمِنا هَذَا ، فَيُؤْذَنُ للْمُؤْمِنِينَ فِي السّجُودِ ، فَيَسْجُدُ المُؤْمِنُونَ ، وَبينَ كُلّ مُؤْمِنٍ مُنافِقٌ ، فَيْقْسُو ظَهْرُ المُنافِقِ عَنِ السّجُودِ ، وَيجْعَلُ اللّهُ سُجُودَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ تَوْبِيخا وَصَغارا وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهريّ ، عن عطاء بن يزيدالليثي ، عن أبي هريرة ، قال : «قَالَ الناسُ : يا رسُولَ اللّهِ هَلْ نَرَى ربّنَا يومَ القيامَةِ ؟ قال : «هَلْ تُضَامّونَ فِي الشّمْسِ لَيْسَ دُونَها سَحَابٌ ، قالُوا : لاَ يَا رسُولَ اللّهِ ، قال : «هَلْ تُضَارّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ » قالوا : لا يا رسُول الله ، قَالَ : فإنّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كَذَلكَ . يَجْمَعُ اللّهُ النّاسَ فَيَقُولُ : مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلْيَتْبَعْهُ ، فَيَتْبَعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ القَمَرَ القَمَرَ ، وَمَنْ كانَ يَعْبُدُ الشّمْسَ الشّمْسَ ، وَيَتْبَع مَنْ كانَ يَعْبُدُ الطّوَاغِيتَ الطّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمّةُ فِيها مُنافِقُوها ، فيَأتِيهِمْ رَبّهُمْ فِي صورَةٍ ، وَيُضْرَبُ جِسْرٌ على جَهَنّمَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَأكُونُ أوّلَ مَنْ يُجِيزَ ، وَدَعْوَةُ الرّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللّهُمّ سَلّمْ ، اللّهُمّ سَلّمْ وَبها كَلالِيبُ كَشَوْكِ السّعْدانِ هَلْ رَأيْتُمْ شَوْكَ السّعْدانِ ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : فإنّها مِثْلُ شَوْكِ السّعْدانِ غَيرَ أنّهُ لا يَعْلَمُ أحَدٌ قَدْرَ عِظَمِها إلاّ اللّهُ ويُخْطَفُ النّاسُ بأعمالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ المُوبَقُ بعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ ثُمّ يَنْجُو ، ثُمّ ذَكَرَ الحدِيثَ بِطُولِه » .
وقوله : اليَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . يقول تعالى ذكره : كلّ أُمة تُدعى إلى كتابها ، يقال لها : اليوم تجزون : أي تثابون وتعطون أجور ما كنتم في الدنيا من جزاء الأعمال تعملون بالإحسان الإحسانَ ، وبالإساءة جزاءها .
وقوله تعالى : { وترى كل أمة جاثية كل أمة } وصف حال القيامة وهولها . والأمة : الجماعة العظيمة من الناس التي قد جمعها معنى أو وصف شامل لها . وقال مجاهد : الأمة : الواحد من الناس ، وهذا قلق في اللغة ، وإن قيل في إبراهيم عليه السلام أمة{[10281]} ، وقالها النبي عليه السلام في قس بن ساعدة{[10282]} فذلك تجوز على جهة التشريف والتشبيه . و : { جاثية } معناه على الركب ، قاله مجاهد والضحاك ، وهي هيئة المذنب الخائف المعظم ، وفي الحديث : «فجثا عمر على ركبتيه »{[10283]} . وقال سلمان : في القيامة ساعة قدر عشر سنين يخر الجميع فيها جثاة على الركب .
وقرأ جمهور الناس : «كلُّ أمة » بالرفع على الابتداء . وقرأ يعقوب الحضرمي : «كلَّ أمة تدعى » بالنصب على البدل من «كل » الأولى ، إذ في «كل » الثانية إيضاح موجب الجثو . وقرأ الأعمش : «وترى كل أمة جاثية تدعى » بإسقاط { كل أمة } الثاني .
واختلف المتأولون في قوله : { إلى كتابها } فقالت فرقة : أراد { إلى كتابها } المنزل عليها فتحاكم إليه هل وافقته أو خالفته .
وقالت فرقة : أراد { إلى كتابها } الذي كتبته الحفظة على كل واحد من الأمة ، فباجتماع ذلك قيل له { كتابها } ، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره : يقال لهم اليوم تجزون .
والخطاب في { ترى } لكل من يصلح له الخطاب بالقرآن فلا يقصد مخاطب معين ، ويجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم والمضارع في { ترى } مراد به الاستقبال فالمعنى : وترى يومئذٍ .
والأمة : الجماعة العظيمة من الناس الذين يَجمعهم دين جاء به رسول إليهم .
و { جاثية } اسم فاعل من مصدر الجُثُوِّ بضمتين وهو البروك على الرُكبتين باستئفاز ، أي بغير مباشرة المقعدة للأرض ، فالجاثي هو البارك المستوفز وهو هيئة الخضوع .
وظاهر كون { كتابها } مفرداً غير معرف باللام أنه كتاب واحد لكل أمة فيقتضي أن يراد كتاب الشريعة مثل القرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، وصحف إبراهيم وغير ذلك لا صحائف الأعمال ، فمعنى { تدعى إلى كتابها } تدعى لتعرض أعمالها على ما أُمرت به في كتابها كما في الحديث « القرآن حجةٌ لك أو عليك » وقيل : أريد بقوله : { كتابها } كتاب تسجيل الأعمال لكل واحد ، أو مراد به الجنس وتكون إضافته إلى ضمير الأمة على إرادة التوزيع على الأفراد لأن لكل واحد من كل أمة صحيفة عمله خاصة به كما قال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] ، وقال : { وَوضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه } [ الكهف : 49 ] أي كل مجرم مشفق مما في كتابه ، إلا أن هذه الآية الأخيرة وقع فيها الكتاب معرفاً باللام فقبل العمومَ . وأما آية الجاثية فعمومها بدليّ بالقرينة . فالمراد : خصوص الأمم التي أرسلت إليها الرسل ولها كتب وشرائع لقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] .
ومسألة مؤاخذة الأمم التي لم تجئها الرسل بخصوص جحد الإله أو الإشراكِ به مقررة في أصول الدين ، وتقدمت عند قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } في سورة الإسراء ( 15 ) .
وقرأ الجمهور { كل أمة تدعى إلى كتابها } برفع { كل } على أنه مبتدأ و { تدعى } خبر عنه والجملة استئناف بياني لأن جُثو الأمة يثير سؤال سائل عما بعد ذلك الجثوّ . وقرأه يعقوب بنصب { كلَّ } على البدل من قوله : { وترى كل أمة } . وجملة { تدعى } حال من { كل أمة } فأعيدت كلمة { كل أمة } دون اكتفاء بقوله { تدعَى } أو يدعون للتهويل والدعاء إلى الكتاب بالأمم تجثو ثم تدعى كل أمة إلى كتابها فتذهب إليه للحساب ، أي يذهب أفرادها للحساب ولو قيل : وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها لأوهم أن الجثو والدعاء إلى الكتاب يحصلان معاً مع ما في إعادة الخبر مرة ثانية من التهويل .
وجملة { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } بدل اشتمال من جملة { تدعى إلى كتابها } بتقدير قول محذوف ، أي يقال لهم اليوم تجزون ، أي يكون جزاؤكم على وفق أعْمالِكم وجريها على وفق ما يوافق كتاب دينكم من أفعالكم في الحسنات والسيئات ، وهذا البدل وقع اعتراضاً بين جملة { وترى كل أمة جاثية } وجملة { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية : 30 ] الآيات .