قوله تعالى : { قلنا اهبطوا منها جميعاً } . يعني هؤلاء الأربعة . وقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض .
قوله تعالى : { فإما يأتينكم } . أي فإن يأتكم يا ذرية آدم .
قوله تعالى : { مني هدى } . أي رشد وبيان شريعة ، وقيل كتاب ورسول .
قوله تعالى : { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . قرأ يعقوب : فلا خوف بالفتح في كل القرآن ، والآخرون بالضم والتنوين فلا خوف عليهم فيما يستقبلهم ولا هم يحزنون على ما خلفوا ، وقيل : لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة .
يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتى{[1621]} أهبطهم من الجنة ، والمراد الذرية : أنه سينزل الكتب ، ويبعث الأنبياء والرسل ؛ كما قال أبو العالية : الهُدَى الأنبياء والرسل والبيان ، وقال مقاتل بن حَيَّان : الهدى محمد صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : الهدى القرآن . وهذان القولان صحيحان ، وقول أبي العالية أعَمّ .
{ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ } أي : من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : فيما يستقبلونه من أمر الآخرة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما فاتهم من أمور الدنيا ، كما قال في سورة طه : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [ طه : 123 ] قال ابن عباس : فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة . { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ طه : 124 ] كما قال هاهنا : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
القول في تأويل قوله : { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
وقد ذكرنا القول في تأويل قوله ( قلنا اهبطوا منها جميعا ) فيما مضى فلا حاجة بنا إلى إعادته ، إذ كان معناه في هذا الموضع هو معناه في ذلك الموضع . وقد :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح في قوله : اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعا قال : آدم ، وحوّاء ، والحية ، وإبليس .
القول في تأويل قوله تعالى : فإمّا يَأْتِيَنّكُمْ مِنّي هُدًى .
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : فإمّا يأتِيَنّكُمْ فإن يأتكم ، و«ما » التي مع «إن » توكيد للكلام ، ولدخولها مع «إن » أدخلت النون المشددة في «يأتينكم » تفرقة بدخولها بين «ما » التي تأتي بمعنى توكيد الكلام التي تسميها أهل العربية صلة وحشوا ، وبين «ما » التي تأتي بمعنى «الذي » ، فتؤذن بدخولها في الفعل ، أن «ما » التي مع «إن » التي بمعنى الجزاء توكيد ، وليست «ما » التي بمعنى «الذي » .
وقد قال بعض نحويي البصريين : إنّ «إما » «إن » زيدت معها «ما » ، وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة ، وقد يكون بغير نون . وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته «ما » ، لأن «ما » نفي ، فهي مما ليس بواجب ، وهي الحرف الذي ينفي الواجب ، فحسنت فيه النون ، نحو قولهم : «بعين ما أرينك » حين أدخلت فيها «ما » حسنت النون فيما هنا . وقد أنكر جماعة من أهل العربية دعوى قائلي هذه المقالة أن «ما » التي مع «بعين ما أرينّك » بمعنى الجحد ، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام .
وقال آخرون : بل هو حشو في الكلام ، ومعناها الحذف ، وإنما معنى الكلام : بعين أراك ، وغير جائز أن يجعل مع الاختلاف فيه أصلاً يقاس عليه غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : مِنّي هُدًى فَمَنْ تَبِع هُداي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .
قال أبو جعفر : والهدى في هذا الموضع البيان والرشاد ، كما :
حدثنا المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : فإمّا يَأتِيَنكُمْ مِنّي هُدًى قال : الهدى : الأنبياء والرسل والبيان .
فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال ، فالخطاب بقوله : اهْبِطُوا وإن كان لاَدم وزوجته ، فيجب أن يكون مرادا به آدم وزوجته وذرّيتهما . فيكون ذلك حينئذٍ نظير قوله : فَقالَ لَهَا وللأرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين . ونظير قوله في قراءة ابن مسعود : «رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنا أمةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِهِمْ مَناسِكَهُمْ » فجمع قبل أن تكون ذرية ، وهو في قراءتنا : وأرِنا مَناسِكنَا وكما يقول القائل لاَخر : كأنك قد تزوّجت وولد لك وكثرتم وعززتم . ونحو ذلك من الكلام .
وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية لأن آدم كان هو النبي صلى الله عليه وسلم أيام حياته بعد أن أهبط إلى الأرض ، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده ، فغير جائز أن يكون معنيا وهو الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : فإما يَأتَيّنَكُمْ مِنّي هُدًى خطابا له ولزوجته : فإما يأتينكم مني هدى أنبياء ورسل إلا على ما وصفت من التأويل .
وقول أبي العالية في ذلك وإن كان وجها من التأويل تحتمله الآية ، فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبه بظاهر التلاوة أن يكون تأويلها : فإما يأتينكم مني يا معشر من أهبطته إلى الأرض من سمائي ، وهو آدم وزوجته وإبليس ، كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها : إما يأتينكم مني بيان من أمري وطاعتي ورشاد إلى سبيلي وديني ، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلاف لأمري وطاعتي . يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائب على من تاب إليه من ذنوبه ، والرحيم لمن أناب إليه كما وصف نفسه بقوله : إنه هُوَ التّوّاب الرّحِيمُ .
وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه : اهْبِطُوا مِنْهَا جِمِيعا والذين خوطبوا به هم من سمينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدمنا الرواية عنهم . وذلك وإن كان خطابا من الله جل ذكره لمن أهبط حينئذٍ من السماء إلى الأرض ، فهو سنة الله في جميع خلقه ، وتعريف منه بذلك للذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله : إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وفي قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وبالْيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وأن حكمه فيهم إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله ، على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، أنهم عنده في الاَخرة ، ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأنهم إن هلكوا على كفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة ، كانوا من أهل النار المخلدين فيها .
وقوله : فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ يعني فمن اتبع بياني الذي أبينه على ألسن رسلي أو مع رسلي ، كما :
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ يعني بياني .
وقوله : فَلاَ خَوْف عَلَيْهِمْ يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله غير خائفين عذابه ، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمره وهداه وسبيله ولا هم يحزنون يومئذٍ على ما خالفوا بعد وفاتهم في الدنيا ، كما :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يقول لا خوف عليكم أمامكم ، وليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فأمّنهم منه وسلاّهم عن الدنيا ، فقال : وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .