( قوله ) { قلنا اهبطوا } الآية . قيل : فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان : الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض . وضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله { ولكم في الأرض مستقر } عقيب الهبوط الثاني أولى . وأيضاً قوله { منها } يدل على أن الهبوط الثاني أيضاً من الجنة والأوجه أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة وتابا بعد الأمر بالهبوط ، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة ، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باقٍ تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله تعالى { إني جاعل في الأرض خليفة } ووجه ثالث وهو أن يكون التكرير للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قوله { فإما يأتينكم } روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند ، وحواء بجدة من أرض الحجاز ، وإبليس بالأيلة من نواحي البصرة ، والحية بأصفهان ، فلم يتلاقيا مائة سنة ، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة ، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفات يوم عرفة ، وتمنيا على الله تعالى المغفرة والتوبة بمنى ، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني . وما في { إما } مزيدة لتأكيد الشرط ويؤيده لحوق النون المؤكدة والشرط الثاني وجزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول . تبع واتبع بمعنى ، وإنما جاء في طه { فمن اتبع } [ طه : 123 ] موافقة لقوله فيها { يتبعون الداعي } [ طه : 108 ] وفي الهدى وجهان : أحدهما المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي ، وفيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال : وإذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى : إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع . عن الحسن : لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه : يا آدم ، أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك : واحدة لي ، وواحدة لولدك ، وواحدة بيني وبينك ، وواحدة بينك وبين الناس . أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فإذا عملت آجرتك ، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلى الإجابة ، وأما التي بينك وبين الناس فأن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به . وقيل : هو رسول وكتاب بدليل { والذين كفروا كذبوا بآياتنا } [ البقرة : 39 ] في مقابلة { فمن تبع هداي } في الإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها ولا حزن . وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني ، لأن قوله { فإما يأتينكم مني هدى } دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادة البيان ، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكين . وجمع قوله { فمن تبع هداي } تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ، وجمع قوله { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه ، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه ، أو انتظار محذور ، وزواله يتضمن السلامة من جميع الآفات . والحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب ، ونفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات . وإنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي ، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف عند الموت ، ولا في القبر ، ولا عند البعث ، ولا عند حضور الموقف ، ولا عند تطاير الكتب ، ولا عند نصب الميزان ، ولا عند الصراط
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } [ فصلت : 30 ] وقال قوم من المتكلمين : إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار والفساق والمؤمنين بدليل قوله تعالى { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } [ الحج : 2 ] { فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً } [ المزمل : 17 ]
{ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ] { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وفي الحديث " تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه " وحديث الشفاعة وقول كل نبي " نفسي نفسي " إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه يقول : " أمتي أمتي " مشهور . قلت : لا ريب أن وعد الله حق ، فمن وعده الأمن يكون آمناً لا محالة ، إلا أن الإنسان خلق ضعيفاً لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل إلى الجنة ، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين ، وأيضاً إن جلال الله وعظمته يدهش الإنسان براً كان أو فاجراً . وأيضاً ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة ، فلا عمل إلا بالإخلاص ، ولا حكم بالإخلاص إلا لله تعالى ، لأنه من عمل القلب وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبه كيف يشاء . ولهذا جاء " والمخلصون على خطر عظيم " وكان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف ، والرغبة بالرهبة ،
{ يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] { ويدعوننا رغباً ورهباً } [ الأنبياء : 90 ] وقيل : { لا خوف عليهم } [ يونس : 62 ] أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فآمنهم الله تعالى ثم سلاهم فقال لهم { ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا . ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف والحزن بالآخرة ، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف والحزن . وقال صلى الله عليه وسلم " خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل " قلنا : المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يرى شيئاً من المكاره مكروهاً ، وإنما مراده مراد حبيبه { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } [ النساء : 65 ] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية ، وبالرضوان يحصل مفاتيح الجنان ، وتنكشف الهموم والأحزان ، ويتساوى الفقر والوجدان ، وتثبت حقيقة الإيمان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.