غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (38)

34

( قوله ) { قلنا اهبطوا } الآية . قيل : فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان : الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض . وضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله { ولكم في الأرض مستقر } عقيب الهبوط الثاني أولى . وأيضاً قوله { منها } يدل على أن الهبوط الثاني أيضاً من الجنة والأوجه أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة وتابا بعد الأمر بالهبوط ، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة ، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باقٍ تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله تعالى { إني جاعل في الأرض خليفة } ووجه ثالث وهو أن يكون التكرير للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قوله { فإما يأتينكم } روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند ، وحواء بجدة من أرض الحجاز ، وإبليس بالأيلة من نواحي البصرة ، والحية بأصفهان ، فلم يتلاقيا مائة سنة ، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة ، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفات يوم عرفة ، وتمنيا على الله تعالى المغفرة والتوبة بمنى ، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني . وما في { إما } مزيدة لتأكيد الشرط ويؤيده لحوق النون المؤكدة والشرط الثاني وجزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول . تبع واتبع بمعنى ، وإنما جاء في طه { فمن اتبع } [ طه : 123 ] موافقة لقوله فيها { يتبعون الداعي } [ طه : 108 ] وفي الهدى وجهان : أحدهما المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي ، وفيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال : وإذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى : إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع . عن الحسن : لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه : يا آدم ، أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك : واحدة لي ، وواحدة لولدك ، وواحدة بيني وبينك ، وواحدة بينك وبين الناس . أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فإذا عملت آجرتك ، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلى الإجابة ، وأما التي بينك وبين الناس فأن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به . وقيل : هو رسول وكتاب بدليل { والذين كفروا كذبوا بآياتنا } [ البقرة : 39 ] في مقابلة { فمن تبع هداي } في الإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها ولا حزن . وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني ، لأن قوله { فإما يأتينكم مني هدى } دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادة البيان ، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكين . وجمع قوله { فمن تبع هداي } تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ، وجمع قوله { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه ، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه ، أو انتظار محذور ، وزواله يتضمن السلامة من جميع الآفات . والحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب ، ونفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات . وإنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي ، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف عند الموت ، ولا في القبر ، ولا عند البعث ، ولا عند حضور الموقف ، ولا عند تطاير الكتب ، ولا عند نصب الميزان ، ولا عند الصراط

{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } [ فصلت : 30 ] وقال قوم من المتكلمين : إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار والفساق والمؤمنين بدليل قوله تعالى { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } [ الحج : 2 ] { فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً } [ المزمل : 17 ]

{ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ] { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وفي الحديث " تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه " وحديث الشفاعة وقول كل نبي " نفسي نفسي " إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه يقول : " أمتي أمتي " مشهور . قلت : لا ريب أن وعد الله حق ، فمن وعده الأمن يكون آمناً لا محالة ، إلا أن الإنسان خلق ضعيفاً لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل إلى الجنة ، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين ، وأيضاً إن جلال الله وعظمته يدهش الإنسان براً كان أو فاجراً . وأيضاً ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة ، فلا عمل إلا بالإخلاص ، ولا حكم بالإخلاص إلا لله تعالى ، لأنه من عمل القلب وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبه كيف يشاء . ولهذا جاء " والمخلصون على خطر عظيم " وكان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف ، والرغبة بالرهبة ،

{ يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] { ويدعوننا رغباً ورهباً } [ الأنبياء : 90 ] وقيل : { لا خوف عليهم } [ يونس : 62 ] أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فآمنهم الله تعالى ثم سلاهم فقال لهم { ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا . ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف والحزن بالآخرة ، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف والحزن . وقال صلى الله عليه وسلم " خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل " قلنا : المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يرى شيئاً من المكاره مكروهاً ، وإنما مراده مراد حبيبه { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } [ النساء : 65 ] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية ، وبالرضوان يحصل مفاتيح الجنان ، وتنكشف الهموم والأحزان ، ويتساوى الفقر والوجدان ، وتثبت حقيقة الإيمان .

/خ39