نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (38)

ولما أعلموا بالعداوة اللازمة كان كأنه قيل : فما وجه الخلاص منها ؟ فقيل : اتباع شرعنا المشروع للتوبة والرحمة فإنا { قلنا }{[1930]} كما تقدم {[1931]}{ اهبطوا }{[1932]} ولما كان الهبوط الماضي يحتمل أن يكون من مكان من الجنة إلى أدنى منه ولم يخرجوا منها فكرره هنا للتأكيد{[1933]} تصويراً لشؤم المعصية وتبشيعاً لها قال : { منها }{[1934]} أي الجنة{[1935]} { جميعاً }{[1936]} أي لا يتخلف منكم أحد سواء كان ذلك قِران{[1937]} واحد أو على التعاقب ، وعهدنا إليهم عند الهبوط إلى دار التكليف أنا نأتيهم بالهدى ليؤديهم{[1938]} {[1939]}إلى الجنة مرة أخرى واعدين من اتبع متوعدين من امتنع فقلنا : { فإما يأتينكم } ، وقال الحرالي : {[1940]}مورد هذه الآية{[1941]} بغير عطف إشعار بأن ظاهرها افتتاح لم{[1942]} يتقدمه إيجاء بباطن كما تقدم في السابقة ، وتكرر الإهباطان من حيث إن الأول إهباط لمعنى القرار{[1943]} في الدنيا والاغتذاء{[1944]} فيها وذرء{[1945]} الذرية وأعمال أمر العداوة التي استحكمت بين الخلقين من آدم وإبليس ، وهذا الإهباط الثاني إهباط عن مكانة الرتبة الآمرية الدينية التي كانت خفية في أمر آدم ظاهرة في أمر إبليس ، وفي قوله : { جميعاً } إشعار بكثرة ذرء{[1946]} الخلقين وكثرة الأحداث في أمر الديانة من النقلين - انتهى .

وخص في إبراز الضمير بمحض الإفراد من غير إيراد بمظهر العظمة إبعاداً عن الوهم فقال : { مني هدى } {[1947]}أي بالكتب والرسل ، {[1948]}ولما كان الهدى الذي هو البيان لا يستلزم الاهتداء قال{[1949]} : { فمن تبع } أي أدنى اتباع يعتد به ، ولذلك اكتفى في جزائه بنفي الخوف الذي قد يكون عن توبة من ضلال بخلاف ما في طه{[1950]} كما يأتي إن شاء الله تعالى . والتبع السعي أثر عَلَم الهدى - قاله الحرالي . { هداي } أي المنقول أو المعقول ، فالثاني أعم من الأول . لأنه أعم من أن يكون منقولاً عن الرسل أو معقولاً بالقياس على المنقول عنهم ، أو بمحض العقل كما وقع لورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما المشار إليهم بالقليل في قوله تعالى :

{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً{[1951]} }[ النساء : 83 ] قال العارف شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه رشف النصائح الإيمانية : فالعقل حجة الله الباطنة{[1952]} والقرآن {[1953]}حجة الله{[1954]} الظاهرة . قال الحرالي : وجاء { هداي } شائعاً ليعم رفع الخوف والحزن من تمسك بحق ما من الحق الجامع ، وأدناه من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فيما بينه وبين الحق وفيما بينه وبين الخلق - انتهى .

{[1955]}ولما كان الخوف أشد لأنه يزداد بمر الزمان ، والحزن يحفّ ، قدّمه فقال{[1956]} : { فلا خوف عليهم } أي من{[1957]} شيء آت فإن الخوف اضطراب النفس من توقع فعل ضارّ - قاله الحرالي . { ولا هم يحزنون } أي على شيء فات ، {[1958]}لأنهم ينجون من النار ويدخلون الجنة{[1959]} و{[1960]}الحزن كما قال الحرالي : توجع القلب لأجل نازح قد كان في الوصلة به{[1961]} رَوح ، والقرب منه راحة ، وجاء في الحزن بلفظ { هم } لاستبطانه ، وبالفعل لأنه باد من باطن تفكرهم في فائتهم ، وجاء نفي الخوف منعزلاً عن فعلهم لأنه من خوف{[1962]} باد عليهم من غيرهم{[1963]} - انتهى{[1964]} .


[1930]:ليست في ظ.
[1931]:ليست في ظ.
[1932]:العبارة من هنا إلى "قال" ليست في ظ.
[1933]:قال البيضاوي: كرر التأكيد أو لاختلاف المقصود/ فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف، فمن اهتدى الهدى نجا ومن ضله هلك، والتنبيه على أن مخافة الإهباط المقترن بأحد هذين الأمرين وحدها كافية للحازم أن تعوقه عن مخالفة حكم الله تعالى فكيف بالمقترن بهما ولكنه نسى ولم نجد له عزما وأن كل واحد منهما كفى به نكالا لمن أراد أن يذكر ، وقيل الأول من الجنة إلى سماء الدنيا والثاني منها إلى الأرض وهو كما ترى، "وجميعا" حال في اللفظ تأكيد في المعنى كأنه قيل: اهبطوا منهم أجمعون، ولذلك تستدعي اجتماعهم إلى الهبوط في زمان واحد كقولك: جاؤا جميعا – انتهى كلامه. قال المهائمي: "قلنا اهبطوا" أي استقروا بمكان الهبوط "منها" أي من أثر تلك المعصية "جميعا" أي مجتمعين مع ما بينكم من العداوة لأن المقصود بالذات من الإهباط إلى دار الابتلاء هو الابتلاء بالتكليف.
[1934]:ليست في ظ.
[1935]:ليست في ظ.
[1936]:العبارة من هنا إلى "التعاقب" ليست في ظ.
[1937]:في مد: في أنّ.
[1938]:ليس في ظ.
[1939]:ليست في ظ.
[1940]:زيد في مد: في.
[1941]:قال القاضي ثناء الله العثماني: الفاء للعطف، وإن حرف شرط، وما زائدة أكدت به إن، ولذا حسن تأكيد الفعل بالنون وإن لم يكن فيه معنى الطلب، يعني إن يأتي لكم من هدى يعني رسولا، وكتابا، الخطاب به إلى ذرية آدم. وقال البيضاوي: والمعنى إن يأتينكم منى هدى بإنزال أو إرسال فمن تبعه منكم نجا وفاز، وإنما جيء بحرف الشك لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلا، وكرر لفظ الهدى ولم يضمره لأنه أراد بالثاني أعم من الأول وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل، أي فمن تبع ما أتاه مراعيا فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم فضلا من أن يحل بهم مكروه ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه، والخوف على المتوقع، والحزن على الواقع، نفى عنهم العقاب وأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه – انتهى كلامه.
[1942]:في ظ: لما.
[1943]:في ظ: القران – كذا.
[1944]:في ظ: الاغتدأ – كذا ولا يتضح في مد.
[1945]:في ظ: ذراء.
[1946]:في ظ: ذراء
[1947]:قال أبو حيان "منى" متعلق بيأتينكم، وهذا شبيه بالالتفات لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع، أو المعظم نفسه إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد، وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى، فناسب الضمير الخاص، كونه لا هادي إلا هو تعالى، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى، وفي قوله "منى" إشارة إلى أن الخير كله منه، ولذلك جاء "قد جاءكم برهان من ربكم" و "قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء" فأتى بكلمة من الدالة على الابتداء في الأشياء لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى، وأتى بأداة الشرط في قوله "فأما يأتينكم منى هدى" وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه والذي انبهم زمان وقوعه، وإتيان الهدى واقع لا محالة لأنه انبهم وقت الإتيان، أو لأنه آذن لك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطا فيه إتيان رسل منه ولا إنزال كتب بذلك بل لو لم يبعث رسلا ولا أنزل كتبا لكان الإيمان به واجبا وذلك لما ركبت فيهم من العقل ونصب لهم من الأدلة ومكن لهم من الاستدلاء كما قال: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واعد.
[1948]:ليست في ظ.
[1949]:ليست في ظ.
[1950]:كتب فوقه في الأصل: من قوله "اتبع هداي"
[1951]:سورة 4 آية 83.
[1952]:في ظ: الباطن.
[1953]:في مد وظ: حجته.
[1954]:في مد وظ: حجته.
[1955]:ليست في ظ.
[1956]:ليست في ظ.
[1957]:ليس في مد.
[1958]:ليست في ظ.
[1959]:ليست في ظ.
[1960]:في ظ: فإن.
[1961]:ليس في ظ.
[1962]:في مد: مخوف.
[1963]:قال المهائمي: و "فأما يأتينكم منى هدى" أي فإن تحقق لكم إتيان هدى علمتم بالدلائل العقلية والمعجزات القولية والفعلية أنه مني "فمن تبع هداي" أي ذلك الهدى بعد ما علم كونه هدى في نفسه لا يصح نسبته إلى مضل "فلا خوف عليهم" بكونه تلبيسا مني أو من فعل الشيطان أو من الاطلاع على بعض الأمور السماوية أو الأرضية إذ علم انتفاء جميع ذلك بالعادة "ولا هم يحزنون" لما يفوتهم من الدنيا بعده - انتهى كلامه. وقال أبو حيان: وفي قوله "فمن تبع هداي" تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه وهو الهدى فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن، وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معرفا بالألف واللام، والإضافة تؤدى معنى الألف واللام من التعريف ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف.
[1964]:ليس في ظ.