4- يسألك المؤمنون - أيها الرسول - ماذا أحل الله لهم من طعام وغيره فقل لهم : أحلّ الله لكم كل طيب تستطيبه النفوس السليمة ، وأحلّ لكم ما تصطاده الجوارح التي علمتموها الصيد بالتدريب ، مستمدين ذلك مما علمكم الله . فكلوا من صيدها الذي أرسلتموها إليه وأمسكته عليكم ، واذكروا اسم الله عند إرسالها ، واتقوا الله بالتزام ما شرع لكم ، ولا تتجاوزوه ، واحذروا مخالفة الله فيه ، فإنه سريع الحساب .
قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } الآية . قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم ، وزيد بن المهلهل الطائيين ، وهو زيد الخيل ، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت هذه الآية . وقيل : سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت هذه الآية . فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الزيادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية ، أو صيد ، أو زرع ، انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، والأول أصح في نزول الآية .
قوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } . يعني الذبائح على اسم الله تعالى ، وقيل : كل ما تستطيبه العرب وتستلذه ، من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة .
قوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } . يعني : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح . واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضحاك والسدي : هي الكلاب دون غيرها ، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن تدرك ذكاته ، وهذا غير معمول به ، بل عامة أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسب من السباع البهائم ، كالفهد ، والنمر ، والكلب . ومن سباع الطير كالبازي ، والعقاب ، والصقر ، ونحوها مما يقبل التعليم ، فيحل صيد جميعها . سميت جارحة : لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد ، أي : كسبها ، يقال : فلان جارحة أهله أي : كاسبهم .
قوله تعالى : { مكلبين } . والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد ، ويقال للذي يعلمها أيضاً مكلب ، والكلاب صاحب الكلاب ، ويقال : الصائد بها أيضا كلاب ، ونصب مكلبين على الحال ، أي : في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغرائكم إياها على الصيد ، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم ، والمراد جميع جوارح الصيد .
قوله تعالى : { تعلمونهن } . تؤدبونهن آداب أخذ الصيد .
قوله تعالى : { مما علمكم الله } . أي : من العلم الذي علمكم الله . قال السدي : أي كما علمكم الله ، فمن بمعنى الكاف .
قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } . أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها ، فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً ، والتعليم هو : أن يوجد بها ثلاثة أشياء ، إذا أشليت استشلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكت ، ولم تأكل ، وإذا وجد ذلك منه مراراً ، وأقله ثلاث مرات ، كانت معلمة يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أن ثابت ابن زيد ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت ، فأمسك وقتل فكل ، وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه ، وإذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل ، فإنك لا تدري أيها قتل ، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل ، وإن وقع في الماء فلا تأكل .
واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئاً : فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ، روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء ، وطاووس ، والشعبي ، وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وهو أصح قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه " . ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وقال مالك : لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك ، وذكرت اسم الله تعالى فكل ، وإن أكل منه " .
أما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيداً ، والمعلم إذا جرح بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل ، فلا يكون حلالاً ، إلا أن يدركه صاحبه حياً فيذبحه ، فيكون حلالاً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن يزيد ، أنا حيوة ، أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي ، عن أبي إدريس ، عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : قلت : يا نبي الله ، إنا بأرض قوم أهل الكتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ، وبكلبي المعلم ، فما يصح لي ؟ قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوا وامسكوا فيها ، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " .
قوله تعالى : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } ، ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح ، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال : أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة ، حدثنا عمر بن شيبة ، أنا أبو عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، قال : رأيته واضعاً قدمه على صفاحهما ، ويذبحهما بيده ويقول : بسم الله والله أكبر " .
( يسألونك : ماذا أحل لهم ؟ قل : أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله . فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه . واتقوا الله ، إن الله سريع الحساب . اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وطعامكم حل لهم ، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم - إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان - ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين ) . .
إن هذا السؤال من الذين آمنوا عما أحل لهم ؛ يصور حالة نفسية لتلك الجماعة المختارة ، التي سعدت بخطاب الله تعالى لها أول مرة ؛ ويشي بما خالج تلك النفوس من التحرج والتوقي من كل ما كان في الجاهلية ؛ خشية أن يكون الإسلام قد حرمه ؛ وبالحاجة إلى السؤال عن كل شيء للتثبت من أن المنهج الجديد يرتضيه ويقره .
والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية . . لقد هزها هزا عنيفا نفض عنها كل رواسب الجاهلية . . لقد أشعر المسلمين - الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة - أنهم يولدون من جديد ؛ وينشأون من جديد . كما جعلهم يحسون إحساسا عميقا بضخامة النقلة ، وعظمة الوثبة ، وجلال المرتقى ، وجزالة النعمة . فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركتة عليهم . وأن يحذروا عن مخالفته . . وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق ، وثمرة تلك الهزة العنيفة .
لذلك راحوا يسألون الرسول [ ص ] بعد ما سمعوا آيات التحريم :
ليكونوا على يقين من حلة قبل أن يقربوه .
( قل : أحل لكم الطيبات . . . ) . .
وهو جواب يستحق التأمل . . إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة : إنهم لم يحرموا طيبا ، ولم يمنعوا عن طيب ؛ وإن كل الطيبات لهم حلال ، فلم يحرم عليهم إلا الخبائث . . والواقع أن كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية . كالميتة والدم ولحم الخنزير . أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب ، أو كان الاستقسام فيه بالأزلام . وهو نوع من الميسر .
ويضيف إلى الطيبات - وهي عامة - نوعا منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم ؛ وهو ما تمسكه الجوارح المعلمه المدربة على الصيد كالصقر والبازي ، ومثلها كلاب الصيد ، أو الفهود والأسود . مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة : أي يكبلها ويصطادها :
( وما علمتم من الجوارح مكلبين ، تعلمونهن مما علمكم الله . فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله ، إن الله سريع الحساب ) . .
وشرط الحل فيما تمسكه هذه الجوارح المكبلة المعلمة المدربة ، أن تمسك على صاحبها : أي أن تحتفظ بما تمسكه من الصيد ؛ فلا تأكل منه عند صيده ؛ إلا إذا غاب عنها صاحبها ، فجاعت . فإنها إن أكلت من الفريسة عند إمساكها لها ، لا تكون معلمة ؛ وتكون قد اصطادت لنفسها لا لصاحبها فلا يحل له صيدها . ولو تبقى منها معظم الصيد لم تأكله ؛ ولو جاءت به حيا ولكنها كانت أكلت منه ؛ فلا يذكى ؛ ولو ذبح ما كان حلالا . .
والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة ؛ فقد علموها مما علمهم الله . فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح ؛ وأقدرهم على تعليمها ؛ وعلمهم هم كيف يعلمونها . . وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني ، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر ، ولا مناسبة تعرض ، حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى : حقيقية أن الله هو الذي أعطى كل شيء . هو الذي خلق ، وهو الذي علم ، وهو الذي سخر ؛ وإليه يرجع الفضل كله ، في كل حركة وكل كسب وكل إمكان ، يصل إليه المخلوق . . فلا ينسى المؤمن لحظة ، أن من الله ، وإلى الله ، كل شيء في كيانه هو نفسه ؛ وفيما حوله من الأشياء والأحداث ؛ ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه ، وكل هزة عصب ، وكل حركة جارحة . . ويكون بهذا كله " ربانيًا " على الاعتبار الصحيح .
والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح . ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره ؛ فيكون هذا كالذبح له ؛ واسم الله يذكر عند الذبح ، فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء .
ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله ؛ ويخوفهم حسابه السريع . . فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن ؛ والذي يحول الحياة كلها صلة بالله ، وشعورا بجلاله ، ومراقبة له في السر والعلانية :
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها ، إما في بَدَنِه ، أو في دينه ، أو فيهما ، واستثنى ما استثناه في حالة{[9084]} الضرورة ، كما قال : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] قال بعدها : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } كما [ قال ]{[9085]} في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم : أنه { يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } [ الآية : 157 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني عبد الله بن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن عَدِيّ بن حاتم ، وزيد بن المهَلْهِل الطائيين{[9086]} سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا يا رسول الله ، قد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } قال سعيد [ بن جبير ]{[9087]} يعني : الذبائح الحلال الطيبة لهم . وقال مقاتل : [ بن حيان ]{[9088]} [ في قوله : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ]{[9089]} فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه{[9090]} وهو الحلال من الرزق . وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال : ليس هو من الطيبات .
رواه ابن أبي حاتم{[9091]} وقال ابن وَهْبٍ : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس . فقال : ليس هو من الطيبات .
وقوله تعالى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أي : أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق ، وأحل لكم ما اصطدتموه{[9092]} بالجوارح ، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك ، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة ، وممن قال ذلك : علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } وهن{[9093]} الكلاب المعلمة{[9094]} والبازي ، وكل طير يعلم للصيد{[9095]} والجوارح : يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها .
رواه ابن أبى حاتم ، ثم قال : وروي عن خَيْثَمَة ، وطاوس ، ومجاهد ، ومكحول ، ويحيى بن أبي كثير ، نحو ذلك . وروي عن الحسن أنه قال : الباز والصقر من الجوارح . وروي عن علي بن الحسين مثله . ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله ، وقرأ قول الله [ عز وجل ]{[9096]} { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } قال : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك .
ونقله ابن جرير عن الضحاك والسُّدِّي ، ثم قال : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن جُرَيْجٍ ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير البُزاة وغيرها من الطير ، فما أدركتَ فهو لك ، وإلا فلا تطعمه .
قلت : والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب{[9097]} ؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها{[9098]} كما تكلبه الكلاب ، فلا فرق . وهذا{[9099]} مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد ، حدثنا عيسي بن يونس ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ، فقال : " ما أمسك عليك فَكُلْ " . {[9100]}
واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود ؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه ؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ " فقلت : ما بال الكلب الأسود من الأحمر{[9101]} ؟ فقال : " الكلب الأسود شيطان " {[9102]} وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال : " ما بالهم وبال الكلاب ، اقتلوا{[9103]} منها كل أسود بَهِيم " . {[9104]}
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن : جوارح ، من الجرح ، وهو : الكسب . كما تقول{[9105]} العرب : فلان جَرح أهله خيرا ، أي : كسبهم خيرا . ويقولون : فلان لا جارح له ، أي : لا كاسب له ، وقال الله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] أي : ما كسبتم من خير وشر .
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني موسى بن عبيدة ، حدثني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت{[9106]} بقتلها ؟ قال : فسكت ، فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسل الرجل كلبه وسَمَّى ، فأمسك عليه ، فليأكل ما لم يأكل " .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن زيد بن الحباب بإسناده ، عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن{[9107]} عليه ، فأذن له فقال : قد أذنا لك يا رسول الله . قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ، قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت ، حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ }
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبَان بن صالح ، به . وقال : صحيح ولم يخرجاه . {[9108]}
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن عِكْرَمة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا{[9109]} رافع في قتل الكلاب ، حتى بلغ العَوالي فدخل{[9110]} عاصم بن عَدِيٍّ ، وسعد بن خَيْثَمةَ ، وعُوَيْم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } [ الآية ]{[9111]}
ورواه الحاكم من طريق سِمَاك ، عن عكرمة{[9112]} وهكذا قال محمد بن كعب القُرَظِيّ في سبب نزول هذه الآية : إنه في قتل الكلاب .
وقوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } يحتمل أن يكون حالا من الضمير في { عَلَّمْتُمْ } فيكون حالا من الفاعل ، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو { الْجَوَارِحِ } أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد ، وذلك أن تقتنصه{[9113]} [ الجوارح ]{[9114]} بمخالبها أو أظفارها{[9115]} فيستدل بذلك - والحالة هذه - على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنه لا يحل ، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ؛ ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا أشلاه استشلى{[9116]} وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه ؛ ولهذا قال تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فمتى كان{[9117]} الجارحة معلما وأمسك على صاحبه ، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد ، وإن قتله بالإجماع .
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، كما ثبت في الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرسل الكلاب المعلَّمة وأذكر اسم الله . فقال : " إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك{[9118]} عليك " . قلت : وإن قتلن ؟ قال : " وإن قتلن ما لم يشركها كلب{[9119]} ليس منها ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " . قلت له : فإني أرمي بالمِعْرَاض الصيد فأصيب ؟ فقال : " إذا رميت بالمعراض فَخَزق{[9120]} فكله ، وإن أصابه بعَرْض فإنه وَقِيذٌ ، فلا تأكله " . وفي لفظ لهما : " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخْذ الكلب ذكاته " . وفي رواية لهما : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه . " {[9121]} فهذا دليل للجمهور{[9122]} وهو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث . وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا .
قال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا وَكِيع ، عن شُعْبَة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : قال سلمان الفارسي : كل وإن أكل ثلثيه{[9123]} - يعني الصيد - إذا أكل منه الكلب . وكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبَة ، وعمر{[9124]} بن عامر ، عن قتادة . وكذا رواه محمد بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان .
ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن{[9125]} موسى ، عن يزيد ، عن بكر بن عبد الله المُزَنِيّ{[9126]} والقاسم ؛ أن{[9127]} سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه .
وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني مَخْرَمَة بن بُكَيْر{[9128]} عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خُثَيْم{[9129]} الدؤلي ؛ أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كل ، وإن لم يبق منه إلا حِذْيَة{[9130]} - يعني : [ إلا ]{[9131]} بضعة .
ورواه شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن بكير بن الأشَجِّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص قال : كل وإن أكل ثلثيه .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المُثَنَّى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن أبي هريرة قال : لو أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المُعْتَمِر قال : سمعت عُبَيد الله{[9132]} وحدثنا هناد ، حدثنا{[9133]} عبدة ، عن عبيد الله{[9134]} بن عمر - عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله{[9135]} فكل ما أمسك عليك ، أكل أو لم يأكل .
وكذا رواه عبيد الله{[9136]} بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد ، عن نافع .
فهذه الآثار ثابتة عن سلمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وابن عمر . وهو محكي عن علي ، وابن عباس . واختلف فيه عن عطاء ، والحسن البصري . وهو قول الزهري ، وربيعة ، ومالك . وإليه ذهب الشافعي في القديم ، وأومأ إليه في الجديد .
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا ، فقال ابن جرير : حدثنا عمران بن بَكَّار الكُلاعِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني ، حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس معاوية بن قُرَّة ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه ، وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي " .
ثم قال ابن جرير : وفي إسناد هذا الحديث نظر ، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان ، والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع . {[9137]}
وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح ، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر ، فقال أبو داود : حدثنا محمد بن مِنْهال الضرير ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا حبيب المعلم ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن أعرابيا - يقال له : أبو ثعلبة - قال : يا رسول الله ، إن لي كلابا مُكَلَّبة ، فأفتني في صيدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك " . فقال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : " نعم " . قال : وإن أكل منه ؟ قال : " نعم ، وإن أكل منه " . قال : يا رسول الله ، أفتني في قوسي . فقال : " كُلْ ما ردت عليك قوسك " قال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : " وإن تغيب عنك ما لم يصل ، أو تجد فيه أثر غير سهمك " . قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها . قال : " اغسلها وكل فيها " . {[9138]} .
هكذا رواه أبو داود{[9139]} وقد أخرجه النسائي . وكذا رواه أبو داود ، من طريق بُسْر بن عبيد الله{[9140]} عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ، وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك " {[9141]}
وهذان إسنادان جيدان ، وقد روى الثوري ، عن سِماك بن حَرْب ، عن عَدِيٍّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كان من كلب ضار أمسك عليك ، فكل " . قلت : وإن أكل ؟ قال : " نعم " .
وروى عبد الملك بن حبيب : حدثنا أسد بن موسى ، عن ابن أبي زائدة ، عن الشعبي ، عن عَدي مثله . {[9142]}
فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب . وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، كما تقدم عمن حكيناه عنهم ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم . وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع{[9143]} فأكل من الصيد لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم . وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِيّ ، وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين صحيح . وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجُوَيني في كتابه " النهاية " أن لو فصل مفصل هذا التفصيل ، وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم ، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة ، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عَدِيّ ، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم ؛ لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن حماد ، عن{[9144]} إبراهيم ، عن ابن عباس ؛ أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل ، فإن الكلب إذا ضربته لم يَعُدْ ، وإن تَعَلّم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب ، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل . {[9145]}
وكذا قال إبراهيم النَّخَعِي ، والشعبي ، وحماد بن أبي سليمان .
وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي ، حدثنا مُجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فما يحل لنا منها ؟ قال : " يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه " ثم قال : " ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه ، فكل مما أمسك عليك " . قلت : وإن قتل ؟ قال : " وإن قتل ، ما لم يأكل " . قلت : يا رسول الله ، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها ؟ قال : فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك " . قال : قلت : إنا قوم نرمي ، فما يحل لنا ؟ قال : " ما ذكرت اسم الله عليه وخزَقَتْ فكل " .
فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل ، ولم يشترط ذلك في البزاة ، فدل على التفرقة بينهما في الحكم ، والله أعلم .
وقوله : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } أي : عند الإرسال ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : " إذا أرسلت كلبك المعلم{[9146]} وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك " . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا : " إذا أرسلت كلبك ، فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله " ؛ ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كأحمد [ بن حنبل ]{[9147]} - في المشهور عنه{[9148]} - التسمية - عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث ، وهذا القول هو المشهور عن{[9149]} الجمهور ، أن{[9150]} المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال ، كما قال{[9151]} السُّدِّي وغير واحد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : باسم الله ، وإن نسيت فلا حرج .
وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّم رَبِيبه عمر بن أبي سلمة فقال : " سَمّ الله ، وكُل بيمينك ، وكل مما يليك " . {[9152]} وفي صحيح البخاري : عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا - حديث عهدهم بكفر - بلُحْمانٍ لا ندري أذكر اسم الله عليها{[9153]} أم لا ؟ فقال : " سَمّوا الله أنتم وكلوا . " {[9154]}
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هشام ، عن بُدَيل ، عن عبد الله بن عُبَيد بن عُمَير ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه ، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه لو{[9155]} كان ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي أن يذكر اسم الله أوله فليقل : باسم الله{[9156]} أوله وآخره " .
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، به{[9157]} وهذا منقطع بين عبد الله{[9158]} بن عبيد بن عمير وعائشة ، فإنه لم يسمع منها هذا الحديث ، بدليل ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الوهاب ، أخبرنا هشام - يعني ابن أبي عبد الله الدَّسْتَوائي - عن بديل ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ؛ أن امرأة منهم - يقال لها : أم كلثوم - حدثته ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه ، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين ، فقال : " أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي اسم الله في أوله فليقل : باسم الله أوله وآخره " .
[ و ]{[9159]} رواه أحمد أيضا ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي من غير وجه ، عن هشام الدستوائي ، به{[9160]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
حديث آخر : وقال أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا جابر بن صبح{[9161]} حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي ، وصحبته إلى واسط ، فكان يسمي في أول طعامه{[9162]} وفي آخر لقمة يقول : بسم الله أوله وآخره .
فقلت له : إنك تسمي في أول ما تأكل ، أرأيت{[9163]} قولك في آخر ما تأكل : باسم الله أوله وآخره ؟ فقال : أخبرك عن ذلك إن جدي أمية بن مخشى{[9164]} - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول : إن رجلا كان يأكل ، والنبي ينظر ، فلم يسم ، حتى كان في آخر طعامه لقمة ، فقال : باسم الله أوله وآخره . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سَمّى ، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه " .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث جابر بن صبح{[9165]} الراسبي أبي بشر البصري{[9166]} ووثقه ابن مَعِين والنسائي ، وقال أبو الفتح الأزدي : لا تقوم به الحجة . {[9167]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن خَيْثَمَة ، عن أبي حذيفة قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد : واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب - من أصحاب ابن مسعود - عن حذيفة قال : كنا إذا حضرنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[9168]} على طعام ، لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9169]} فيضع يده ، وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية ، كأنما تُدفع ، فذهبت تضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، وجاء أعرابي كأنما يُدفع ، فذهب يضع يده في الطعام ، فأخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9170]} بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يَسْتَحِلُّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل{[9171]} بها ، فأخذت بيدها ، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به ، فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده ، إن يده في يدي مع يدهما{[9172]} يعني الشيطان . وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث الأعمش به . {[9173]}
حديث آخر : روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي{[9174]} من طريق ابن جُرَيْج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل الرجل بيته ، فذكر الله{[9175]} عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مَبِيت لكم ولا عَشَاء ، وإذا دخل فلم{[9176]} يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم{[9177]} المبيت ، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم{[9178]} المبيت والعشاء " . لفظ أبي داود .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وَحْشِيّ بن حَرْب بن وَحْشِي بن حَرْب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رجل{[9179]} تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله ، يبارك لكم فيه " .
ورواه أبو داود ، وابن ماجه ، من طريق الوليد بن مسلم . {[9180]}