37- قال لهما - يؤكد ما علماه عنه - لا يأتيكما طعام يُساق إليكما رزقاً مقدراً لكما إلا أخبرتكما بمآله إليكما قبل أن يأتيكما ، وذكرت لكما صنعته وكيفيته ، ذلكما التأويل للرؤيا والإخبار بالمغيبات مما علمني ربي وأوحى به إليّ . لأني أخلصت له عبادتي ، ورفضت أن أشرك به شيئاً ، وابتعدت عن دين قوم لا يصدقون بالله ، ولا يؤمنون به على وجه صحيح ، وهم بالآخرة وحسابها منكرون كافرون .
قوله تعالى : { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه } ، قيل : أراد به في النوم ، يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما ، { إلا نبأتكما بتأويله } ، في اليقظة . وقيل : أراد به في اليقظة ، يقول : لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه ، تطعمانه وتأكلانه ، إلا نبأتكما بتأويله بقدره ، وأوانه والوقت الذي يصل فيه إليكما . { قبل أن يأتيكما } ، قبل أن يصل إليكما ، وأي طعام أكلتم ؟ وكم أكلتم ؟ ومتى أكلتم ؟ فهذا مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [ آل عمران – 49 ] فقالا : هذا فعل العرافين والكهنة ، فمن أين لك هذا العلم ؟ فقال : ما أنا بكاهن وإنما { ذلكما } ، العلم ، { مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } ، وتكرار { هم } على التأكيد .
وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة ؛ فكونه سجينا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة ، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين ، وجعلهم بالخضوع لهم أربابا يزاولون خصائص الربوبية ، ويصبحون فراعين !
ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما ، فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم الرؤى ، لأن ربه علمه علما لدنيا خاصا ، جزاء على تجرده لعبادته وحده ، وتخلصه من عبادة الشركاء . هو وآباؤه من قبله . . وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما ، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه :
( قال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء . ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) . .
ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس ، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف . . وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها . .
( قال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ) . .
بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني ، يرى به مقبل الرزق وينبيء بما يرى . وهذا - فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف - وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى - وقوله : ( ذلكما مما علمني ربي )تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه ؛ وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه .
( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون ) . .
مشيرا بهذا إلى القوم الذين ربي فيهم ، وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم . والفتيان على دين القوم ، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما ، إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما - وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل .
وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر - كما قلنا من قبل - أن الإيمان بالآخرة كان عنصرا من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعا ؛ منذ فجر البشرية الأول ؛ ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة - بجملتها - متأخرا . . لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخرا فعلا ، ولكنه كان دائما عنصرا أصيلا في الرسالات السماوية الصحيحة . .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالَ يوسف للفتيين اللذين استعبراه الرؤيا: {لا يَأْتِيكُما}، أيها الفتيان في منامكما، {طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلاّ نَبّأْتُكُما بتأْوِيلِهِ}، في يقظتكما، {قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكُما}...
ويعني بقوله: {بِتَأْوِيلِهِ}: ما يؤول إليه ويصير ما رأيا في منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فيه.
وقوله: {ذَلِكُما مِمّا عَلّمَنِي رَبّي}، يقول: هذا الذي أذكر أني أعلمه من تعبير الرؤيا مما علمني ربي فعلّمته.
{إنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ}، وجاء الخبر مبتدأ، أي: تركت ملة قوم، والمعنى: ما ملت. وإنما ابتدأ بذلك لأن في الابتداء الدليل على معناه.
وقوله: {إنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ}، يقول: إني برئت من ملة من لا يصدّق بالله، ويقرّ بوحدانيته. {وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ}، يقول: وهم مع تركهم الإيمان بوحدانية الله لا يقرّون بالمعاد والبعث، ولا بثواب ولا عقاب...
فإن قال قائل: ما وجه هذا الخبر ومعناه من يوسف، وأين جوابه الفتيين عما سألاه من تعبير رؤياهما من هذا الكلام؟
قيل له: إن يوسف كره أن يجيبهما عن تأويل رؤياهما لما علم من مكروه ذلك على أحدهما، فأعرض عن ذكره، وأخذ في غيره، ليعرضا عن مسألته الجواب بما سألاه من ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) هذا، والله أعلم، كأن يقول لهم ذلك ليعرفهم أن عنده علم ما لا يحتاج إليه. فعلم ما يحتاج إليه أحرى أن يعلم ذلك. وهذا، والله أعلم، منه احتيال، لينزعهم عما هم فيه من عبادة الأوثان وعبادتهم لغير الله، ويرغبهم في توحيد الله وصرف العبادة إليه...
{قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ...} قال ابن جُرَيج: عدل عن تأويل الرؤيا إلى الإخبار بهذا لما رأى على أحدهما فيه من المكروه، فلم يدعاه حتى أخبرهما به. وقيل: إنما قدم هذا ليعلما ما خصّه الله تعالى به من النبوة وليُقْبِلا إلى طاعة الله. وقد كان يوسف عليه السلام فيما بينهم قبل ذلك زماناً فلم يَحْكِ الله عنه أنه ذكر لهم شيئاً من الدعاء إلى الله وكانوا قوماً يعبدون الأوثان؛ وذلك لأنه لم يطمع منهم في الاستماع والقبول، فلما رآهم مقبلين إليه عارفين بإحسانه أمل منهم القبول والاستماع فقال: {يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الوَاحِدُ القَهَّارُ} الآية؛ وهو من قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النمل: 125] وترقب وقت الاستماع والقبول من الدعاء إلى سبيل الله بالحكمة؛ وإنما حكى الله ذلك لنا لنقتدي به فيه...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال لهما: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في نومكما {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة. هذا قول أكثر المفسّرين.
وقال بعضهم: أراد به في اليقظة فقال: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} تطعمانه وتأكلانه {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} بتفسيره قال: إنّه أيّ طعام أكلتم ومتى أكلتُم وكم أكلتُم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
التَّثَبُّتُ في الجواب دون التسرع من أمارات أهل المكارم، كيوسف عليه السلام وعدهما أن يجيبهَما ولم يُسْرعْ الإجابةَ في الوقت. ويقال لمَّا أَخَّرَ الإجابة عَلَّقَ قلوبهمَا بالوعد؛ وإذا لم يكن نَقْدٌ فليكن وَعْدٌ. ويقال لمَّا فاتحوه بسؤالهم قدَّم على الجواب ما اقترحه عليهما من كلمة التوحيد فقال: {ذلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك، وفيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده -وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية.
{بِتَأْوِيلِهِ} ببيان ماهيته وكيفيته؛ لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه {ذلكما} إشارة لهما إلى التأويل، أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبّي} وأوحي به إليّ ولم أقله عن تكهن وتنجم. {إِنّي تَرَكْتُ} يجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، وأن يكون تعليلاً لما قبله، أي علمني ذلك وأوحى إليّ؛ لأني رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون: أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأنّ غيرهم كانوا قوماً مؤمنين بها، وهم الذين على ملة إبراهيم، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء، ويجوز أن يكون فيه تعريض بما مني به من جهتهم حين أودعوه السجن، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء...
اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلا بد ههنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام. والعلماء ذكروا فيه وجوها:
الأول: أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب، ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتدت نفرته عن سماع هذا الكلام، فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه، حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة.
الثاني: لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه، وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير، ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين، فبين لهما أنه يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه، وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقا على كل الناس في علم التعبير كان أولى، فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقا في علم التعبير واصلا فيه إلى ما لم يصل غيره،
والثالث: قال السدي: {لا يأتيكما طعام ترزقانه} في النوم، بيَّن ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره، ولذلك قال: {إلا نبأتكما بتأويله}.
الرابع: لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله: فأورد عليهما ما دل على كونه رسولا من عند الله تعالى، فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا.
والخامس: لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر، ولا يستوجب العقاب الشديد {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}.
والسادس: قوله: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله} محمول على اليقظة، والمعنى: أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو، وأي لون هو، وكم هو، وكيف يكون عاقبته؟ أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم... ثم قال تعالى: {ذلكما مما علمني ربي} أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم، وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله.
ثم قال: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: في قوله: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة. فنقول جوابه من وجوه: الأول: أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضا فيه. والثاني: وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبدا لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفا منهم على سبيل التقية، ثم إنه أظهره في هذا الوقت، فكان هذا جاريا مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
المسألة الثانية: تكرير لفظ {هم} في قوله: {وهم بالآخرة هم كافرون} لبيان اختصاصهم بالكفر، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد.
واعلم أن قوله: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} إشارة إلى علم المبدأ. وقوله: {وهم بالآخرة هم كافرون} إشارة إلى علم المعاد، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما رآهما بصيرين بالأمور {قال} إشارة إلى أنه يعرف ذلك وأدق منه، ليقبلا نصحه فيما هو أهم المهم لكل أحد، -وهو ما خلق العباد له من الاجتماع على الله- لتفريغهما للفهم لكلامه والقبول لكل ما يلقيه لاحتياجهما إلى إفتائهما، مؤكداً ما وصفاه به من الإحسان بما اتبعه من وصف نفسه بالعلم، انتهازاً لفرصة النصيحة عند هذا الإذعان بأعظم ما يكون النصح به من الأمر بالإخلاص في عبادة الخالق والإعراض عن الشرك، فعلى كل ذي علم إذا احتاج إلى سؤاله أحد أن يقدم على جوابه نصحه بما هو الأهم له، ويصف له نفسه بما يرغبه في قبول علمه إن كان الحال محتاجاً إلى ذلك، ولا يكون ذلك من باب التزكية بل من الإرشاد إلى الائتمام به بما يقرب إلى الله فيكون له مثل أجره: {لا يأتيكما} أي في اليقظة {طعام} وبين أنه خاص بهما دون أهل السجن بقوله: {ترزقانه} بناه للمفعول تعميماً {إلاّ نبأتكما} أي أخبرتكما إخباراً جليلاً عظيماً {بتأويله} أي به و بما يؤل ويرجع إليه أمره. ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله، نزع الخافض فقال: {قبل أن يأتيكما} أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا، فيكون سبباً لكذا، فإن المسبب الناشئ عن السبب هو المال. ولما وصف نفسه من العلم بما يدعو كل ذي همة إلى السعي في الأسباب التي حصل له ذلك بها ليصير مثله أو يقرب منه، وكان محل أن يقال: من علمك ذلك؟ قال مرشداً إلى الله داعياً إليه أحسن دعاء بما تميل إليه النفوس من الطمع في الفضل: {ذلكما} أي الأمر العظيم؛ ونبه على غزارة علمه بالتبعيض في قوله: {مما علمني ربي} أي الموجد لي والمربي لي والمحسن إليّ، ولم أقله عن تكهن ولا تنجيم، فكأنه قيل: ما لغيرك لا يعلّمه مثل ما علمك؟ فقال معللاً له مطمعاً كل من فعل فعله في فضل الله، مؤكداً إعلاماً بأن ذلك أمر عظيم يحق لمثله أن يفعل: {إني تركت ملة قوم} أي وإن كانوا أقوياء على محاولة ما يريدون، فلذلك قدروا على أذاي وسجني بعد رؤية الآيات الشاهدة لي، ونبه على أن ذلك لا يقدم عليه إلاّ من لا يحسب العاقبة بوجه، فقال: {لا يؤمنون} أي يجددون الإيمان لما لهم من العراقة في الكفر {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا يخفى أمره على ذي لب من أهل مصر وغيرهم؛ ثم لوح إلى التحذير من يوم الجزاء الذي لا يغنى فيه أحد عن أحد، منبهاً على أن الكفر به هو القاطع عن العلم وعن كل خير، فقال مؤكداً تأكيداً عظيماً، إشارة إلى أن أمرهم ينبغي أن ينكره كل من يسمعه، ولا يصدقه، لما على الآخرة من الدلائل الواضحة جداً الموجبة لئلا يكذب به أحد: {وهم بالآخرة} أي الدار التي لا بد من الجمع إليها، لأنها محط الحكمة {هم} أي بضمائرهم كما هم بظواهرهم، وفي تكرير الضمير تنبيه على أن هؤلاء اختصوا بهذا الجهل، وأن غيرهم وقفوا على الهدى {كافرون} أي عريقون في التغطية لها، فلذلك أظلمت قلوبهم فكانوا صوراً لا معاني لها؛ والملة: مذهب جماعة يحمي بعضها لبعض في الديانة، وأصله من المليلة، وهي حمى تلحق الإنسان -قاله الرماني. و في القاموس إن المليلة: الحر الكامن في العظم. وعبر ب {تركت} موضع "تجنبت "مثلاً مع كونه لم يلابس تلك الملة قط، تأنيساً لهما واستدراجاً إلى تركهما...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال لا يأتيكما طعام ترزقانه} وهو ما لا تدرون من حيث لا تدرون، وإني وإياكم في هذا السجن لمحجوبون {إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} أي أخبرتكما به وهو عند أهله وبما يريدون من إرساله وما ينتهي إليه بعد وصوله إليكما: أنبئكما بكل هذا من شأن هذا الطعام قبل أن يأتيكما، روي أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين أو المتهمين طعاما مسموما يقتلونهم به وأن يوسف أراد غذاء، وما قلته يشمل هذا إذا صح، وهو ما يفهم من تسمية إنبائهما به تأويلا، فإن التأويل الإخبار بما يؤول إليه الشيء، وهو ما يفهم من تسمية إنبائهما به تأويلا، فإن التأويل الإخبار بما يؤول إليه الشيء وهو فرع معرفته، ولذلك قال بعضهم: إنه سماه تأويلا من باب المشاكلة لما سألاه عنه من تأويل رؤاهما، وقال بعضهم: إن المراد لا تريان في النوم طعاما يأتيكما إلا نبأتكما بتأويله، وهو بعيد. وفسر الزمخشري ومن قلده تأويله [ببيان ماهيته وكيفيته لأن ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه] اه وهو تكلف سرى إليه من مفهوم التأويل في اصطلاح علماء الكلام وأصول الفقه لا من صميم اللغة.
{ذلكما مما علمني ربي} أي ذلك الذي أنبئكما به بعض ما علمني ربي بوحي منه إلي، لا بكهانة ولا عرافة ولا تنجيم، ولا ما يشبهما من طرق صناعية أو تعليم بشري يلتبس به الحق بالباطل، ويشتبه الصواب بالخطأ، فهو آية له كقول عيسى لبني إسرائيل من بعده {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} [آل عمران: 49] {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} خالق السماوات والأرض وما بينهما كما يجب له من التوحيد والتنزيه، أي تركت دخولها وإتباع أهلها من عابدي الأوثان المنتحلة على كثرة أهلها ودعوتهم إليها، وليس المعنى أنه كان متبعا لها ثم تركها، فقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة: 36] أي بعد موته فلا يبعث، ليس معناه أنه كان سدى قبله، فترك الشيء يصدق بعدم ملابسته مطلقا، وبالتحول عنه بعد التلبس به، ويفرق بينهما بقرينة الحال أو المقال أو كليهما كما هنا.
والمتبادر أنه أراد بهؤلاء القوم الكنعانيين وغيرهم من سكان أرض الميعاد التي نشأ فيها، والمصريين الذين هو فيهم وبينهم فإنهم اتخذوا من دون الله آلهة معروفة في التاريخ أعظمها الشمس واسمها عندهم [رع] ومنها فراعنتهم والنيل وعجلهم [أبيس] وإنما كان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم.
{وهم بالآخرة هم كافرون} أي وهم الآن يكفرون بالمعنى الصحيح للآخرة فإن المصريين وإن كانوا يؤمنون بالآخرة والحساب والجزاء الذي دعا إليه الأنبياء إلا أنه فشا فيهم تصوير هذا الإيمان بصور مبتدعة، ومنها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الأخرى بأجسادهم المحنطة، ويعود لهم السلطان والحكم، ولهذا كانوا يدفنون أو يضعون معهم جواهرهم وغيرها، ويبنون الأهرام لحفظ جثثهم وما معها، ولعله لهذا أكد الحكم بالكفر بها بإعادة الضمير "هم "ليبين أن إيمانهم بالآخرة على غير الوجه الذي جاءت به الرسل، فهو غير صحيح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة؛ فكونه سجينا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين، وجعلهم بالخضوع لهم أربابا يزاولون خصائص الربوبية، ويصبحون فراعين! ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما، فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم الرؤى، لأن ربه علمه علما لدنيا خاصا، جزاء على تجرده لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء. هو وآباؤه من قبله.. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه: (قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربي، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء. ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون).. ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف.. وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها.. (قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربي).. بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني، يرى به مقبل الرزق وينبيء بما يرى. وهذا -فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف- وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى -وقوله: (ذلكما مما علمني ربي) تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه؛ وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه. (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون).. مشيرا بهذا إلى القوم الذين ربي فيهم، وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم. والفتيان على دين القوم، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما، إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما- وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل. وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر -كما قلنا من قبل- أن الإيمان بالآخرة كان عنصرا من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعا؛ منذ فجر البشرية الأول؛ ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة -بجملتها- متأخرا.. لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخرا فعلا، ولكنه كان دائما عنصرا أصيلا في الرسالات السماوية الصحيحة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قال لا يأتيكما} جواب عن كلامهما ففصلت على أسلوب حكاية جمل التحاور. أراد بهذا الجواب أن يفترص إقبالَهما عليه وملازمة الحديث معه إذ هما يترقبان تعبيره الرؤيا فيدمج في ذلك دعوتهما إلى الإيمان الصحيح مع الوعد بأنّه يعبّر لهما رؤياهما غير بعيد، وجعل لذلك وقتاً معلوماً لهم، وهو وقت إحضار طعام المساجين إذ ليس لهم في السجن حوادث يوقتون بها، ولأن انطباق الأبواب وإحاطة الجدران يحول بينهم وبين رؤية الشمس، فليس لهم إلا حوادث أحوالهم من طعام أو نوم أو هبوب منه. ويظهر أن أمد إتيان الطعام حينئذٍ لم يكن بعيداً كما دل عليه قوله: {قبل أن يأتيكما} من تعجيله لهما تأويل رؤياهما وأنه لا يتريث في ذلك. ووصف الطعام بجملة {ترزقانه} تصريح بالضبط بأنه طعام معلوم الوقت لا ترقب طعام يهدى لهما بحيث لا ينضبط حصوله. وحقيقة الرزق: مَا به النفع، ويطلق على الطعام كقوله: {وجَد عندها رزقا} [سورة آل عمران: 37] أي طعاماً، وقوله في سورة الأعراف (50) {أو ممّا رزقكم الله} وقوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} [سورة مريم: 62]. ويطلق على الإنفاق المتعارف كقوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} [سورة النساء: 5]. ومن هنا يطلق على العطاء الموقت، يقال: كان بنو فلان من مرتزقة الجند، ورزق الجند كذا كل يوم. وضمير {بتأويله} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {بتأويله} [سورة يوسف: 36] الأول، وهو المرئي أو المنام. ولا ينبغي أن يعود إلى طعام إذ لا يحسن إطلاق التأويل عن الأنباء بأسماء أصناف الطعام خلافاً لما سلكه جمهور المفسرين. والاستثناء في قوله: إلاّ نَبّأتكما بتأويله} استثناء من أحوال متعددة تناسب الغرض، وهي حال الإنباء بتأويل الرؤيا وحال عدمه، أي لا يأتي الطعام المعتاد إلا في حال أني قد نبأتكما بتأويل رؤياكما، أي لا في حال عدمه. فالقصر المستفاد من الاستثناء إضافي. وجردت جملة الحال من الواو (وقَد) مع أنها مَاضية اكتفاء بربط الاستثناء كقوله تعالى: {ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم} [سورة التوبة: 121]. وجملة {ذلكما مما علمني ربي} استئناف بياني، لأنّ وعده بتأويل الرؤيا في وقت قريب يثير عجب السائلين عن قوة علمه وعن الطريقة التي حصل بها هذا العلم، فيجيب بأن ذلك مما علمه الله تخلصاً إلى دعوتهما للإيمان بإلهٍ واحد. وكان القبط مشركين يدينون بتعدد الآلهة. وقوله: {ممّا علمني ربي} إيذان بأنّه علّمه علوماً أخرى، وهي علوم الشريعة والحكمة والاقتصاد والأمانة كما قال: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [سورة يوسف: 55]. وزاد في الاستئناف البياني جملة {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} لأن الإخبار بأن الله علّمه التّأويل وعلوماً أخرى مما يثير السؤال عن وسيلة حصول هذا العلم، فأخبر بأن سبب عناية الله به أنّه انفرد في ذلك المكان بتوحيد الله وترك ملة أهل المدينة، فأراد الله اختياره لديهم، ويجوز كون الجملة تعليلاً. والملة: الدين، تقدم في قوله: {ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً} في سورة الأنعام (161). وأراد بالقوم الذين لا يؤمنون بالله ما يشمل الكنعانيين الذين نشأ فيهم والقبط الذين شبّ بينهم، كما يدلّ عليه قوله: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} [سورة يوسف: 39]، أو أراد الكنعانيين خاصة، وهم الذين نشأ فيهم تعريضاً بالقبط الذين ماثلوهم في الإشراك. وأراد بهذا أن لا يواجههم بالتشنيع استنزالاً لطائر نفورهم من موعظته. وزيادة ضمير الفصل في قوله: {هم كافرون} أراد به تخصيص قوم منهم بذلك وهم الكنعانيون، لأنهم كانوا ينكرون البعث مثل كفار العرب. وأراد بذلك إخراج القبط لأن القبط وإن كانوا مشركين فقد كانوا يثبتون بعث الأرواح والجزاء. والترك: عدم الأخذ للشيء مع إمكانه. أشار به إلى أنه لم يتبع ملة القبط مع حلوله بينهم، وكون مولاه متديناً بها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما}. التأويل هنا معرفة حقيقة الطعام، ومآله، وقال ليس ذلك بإعلام أحد، إنما هو من تعليم الله تعالى، ولذا قال: {ذلكما مما علمني ربي}، وإن ذلك إخبار بالغيب بتعليم الله تعالى، وليس من ذاته، وإنه لا يعلم الغيب إلا الله، وما يعطيه الله تعالى، كما أعطى عيسى ابن مريم، إذ كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان ذلك بعد يوسف بعشرات القرون. وإن هذا يدل على أن الله تعالى قد بعثه نبيا على ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقد كان قد بلغ أشده ليتحمل الرسالة، لقد تلونا من قبل قوله تعالى: {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين22} والنبوة هي الحكم والعلم. قبل أن يؤول تقدم بالنبوة، ودعا إلى إبطال الشرك وإنكار البعث، وابتدأ الدعوة النبوية بأن ذكر نفسه قدوة لهم، فقال: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون}، وقد وصفهم بحالين سلبيتين إحداهما: أنهم لا يؤمنون بالله، بل يعبدون الأوثان، والثانية: أنهم يكفرون بالعبث، وأكد كفرهم بالبعث بتقديم (الآخرة)، على الكفر، وذلك لمزيد الاهتمام بالكفر بالآخرة، وبتكرار {هم}، وكان التأكيد لغرابته عند أهل العقول المدركة، فالعقل يوجب الإيمان بالآخرة، لأن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى، ولأن فيه سلوان لمن لا يدرك حظه في الدنيا، ولأنه يتفق مع العلو الإنساني. بين أنه ترك أن يكون من ملة هؤلاء المشركين الكافرين باليوم الآخر، وبين بعد ذلك أنه لم يكن سلبيا، بل كان إيجابيا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا} لقد سألاه عن تفسير ما رأياه من الحلم فأجابهما بأنه يملك أن يخبرهما بما سيأتيهما من طعام، قبل إتيانهما به، لأن الله أمدّه بمعرفة بعض جوانب الغيب، وربما كان السبب في ذلك أنه يريد أن يؤكد لهما سعة المعرفة التي يملكها، كوسيلة من وسائل تعميق ثقتهما بشخصيته للتأثير عليهما وعلى قناعتهما الفكرية، لأن معرفته تلك ينبغي أن تمنحهما الثقة بالطاقة الروحية المميّزة التي توحي لهما بضرورة الاهتداء بهديه، والانسجام مع دعوته ومنهجه في الحياة، لا سيما وأنه يتصل في ذلك كله بالله من أقرب طريق. {بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} مما يعلّم به عباده الذين يُعدّهم لرسالته، فيلهمهم علم ما لم يعلمه الناس ويزيدهم معرفةً تجعلهم في مواقع القيادة والتوجيه، وذلك بعد أن يطّلع على قلوبهم فيجد فيهم صدق الإيمان به، والإخلاص له، وعمق المعرفة به، ورفض كل شريك له.
{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ} وانفصلت عن كل الأفكار التي يرتبطون بها، والمفاهيم التي يحملونها، والأوضاع التي يعيشونها لأن قضية الإيمان بالله واليوم الآخر ليست حالةً شعوريةً طارئةً تتمايز بها المشاعر الذاتية فقط، بل هي قاعدة للفكر وللحياة، لارتكازها على أسس العقيدة والشريعة والأخلاق، فهناك خطّان لحركة الإنسان في الحياة، لا يلتقيان في أيّ موقعٍ، خط الإيمان بالله واليوم الآخر، وخط الإلحاد أو الشرك به، فلكل واحد منهما منهجٌ للوعي وللسلوك وللعاطفة، وهذا ما جعلني أعيش الانفصال عن هذا المجتمع الذي اختار الابتعاد عن خط الإيمان بالله واليوم الآخر، والاقتراب من خط الكفر، {هُمْ كَافِرُونَ} ولا يمكن للمؤمن أن يلتقي بالكفر في طريق،...