5- وربكم الذي خلق السماوات والأرض ، والذي جعل الشمس تشع الضياء ، والقمر يرسل النور ، وجعل للقمر منازل ينتقل فيها ، فيختلف نوره تبعاً لهذه المنازل ، لتستعينوا بهذا في تقدير مواقيتكم ، وتعلموا عدد السنين والحساب{[89]} ، وما خلق الله ذلك إلا بالحكمة ، وهو سبحانه يبسط في كتابه الآيات الدالة على ألوهيته وكمال قدرته ، لكي تتدبروها بعقولكم وتستجيبوا لما يقتضيه العلم .
قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء } ، بالنهار ، { والقمر نورا } بالليل . وقيل : جعل الشمس ذات ضياء ، والقمر ذا نور ، { وقدره منازل } أي : قدر له ، يعنى هيأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها ، ولم يقل : قدرهما . قيل : تقدير المنازل ينصرف إليهما غير أنه اكتفى بذكر أحدهما ، كما قال : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة-62 ] . وقيل : هو ينصرف إلى القمر خاصة لأن القمر يعرف به انقضاء الشهور والسنين ، لا بالشمس . ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ، وأسماؤها : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنسر ، والطرف ، والجبهة ، والزبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزباني ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعايم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود وسعد الأخبية ، وفرع الدلو المقدم ، وفرع الدلو المؤخر ، وبطن الحوت . وهذه المنازل مقسومة على البروج ، وهي اثنا عشر برجا : الحمل والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . ولكل برج منزلان وثلث منزل ، فينزل القمر كل ليلة منزلا منها ، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين ، وإن كان تسعا وعشرين فليلة واحدة ، فيكون تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوما ، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها . قوله تعالى : { لتعلموا عدد السنين } ، أي : قدر المنازل { لتعلموا عدد السنين } دخولها وانقضاءها ، { والحساب } ، يعني : حساب الشهور والأيام والساعات . { ما خلق الله ذلك } رده إلى الخلق والتقدير ، ولو رده الأعيان المذكورة لقال : تلك . { إلا بالحق } ، أي : لم يخلقه باطلا بل إظهار الصنعة ودلالة على قدرته . { يفصل الآيات لقوم يعلمون } ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ويعقوب : يفصل بالياء ، لقوله : { ما خلق } وقرأ الباقون : نفصل بالنون على التعظيم .
وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده ، الذي إليه المرجع وعنده الجزاء . . يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض :
( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق الله ذلك إلا بالحق . يفصل الآيات لقوم يعلمون ) . .
فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون ، ننساهما لطول الألفة ، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار .
وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب ، وأول مطلع قمر وأول مغيب ?
هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما ، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة ، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي ، والتأمل الذي لم يبلده التكرار ، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم :
( هو الذي جعل الشمس ضياء ) . .
ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة ، كما هو مشهود في القمر ، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون .
( لتعلموا عدد السنين والحساب ) . .
وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس .
هل هذا كله عبث ? هل هذا كله باطل ? هل هذا كله مصادفة ?
كلا ما يكون كل هذا النظام ، وكل هذا التناسق ، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة . ما يكون هذا كله عبثا ولا باطلا ولا مصادفة عابرة :
( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) . .
الحق قوامه . والحق أداته . والحق غايته . والحق ثابت راجح راسخ . وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة :
( يفصل الآيات لقوم يعلمون ) . .
فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر .
{ هُوَ الّذِي جَعَلَ الشّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاّ بِالْحَقّ يُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض هُوَ الّذِي جَعَلَ الشّمْسَ ضِياءً بالنهار والقَمَرَ نُورا بالليل ، ومعنى ذلك : هو الذي أضاء الشمس وأنار القمر ، وَقَدّرَهُ مَنازِلَ يقول : قضاه فسوّاه منازل لا يجاوزها ، ولا يقصر دونها على حال واحدة أبدا . وقال : وَقَدّرَهُ مَنازِلَ فوحده ، وقد ذكر الشمس والقمر ، فإن في ذلك وجهين : أحدهما أن تكون الهاء في قوله : وَقَدّرَهُ للقمر خاصة ، لأن بالأهلّة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس . والاَخر : أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الاَخر ، كما قال في موضع آخر : وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ وكما قال الشاعر :
رَمانِي بأمْر كُنْتُ مِنْهُ وَوَالدِي *** بَرِيّا وَمِنْ جُولِ الطّوِيّ رَمانِي
وقوله : لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ والحسابَ يقول : وقدّر ذلك منازل لتعلموا أنتم أيها الناس عدد السنين : دخول ما يدخل منها ، وانقضاء ما يستقبل منها وحسابها ، يقول : وحساب أوقات السنين وعدد أيامها وحساب ساعات أيامها . ما خَلَقَ اللّهُ ذلكَ إلا بالحَقّ يقول جلّ ثناؤه : لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحقّ ، يقول الحقّ تعالى ذكره : خلقت ذلك كله بحقّ وحدي بغير عون ولا شريك . يُفَصّلُ الاَياتِ يقول : يبين الحجج والأدلة لِقَوْم يَعْلَمُونَ إذا تدبروها ، حقيقة وحدانية الله ، وصحة ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم من خلع الأنداد والبراءة من الأوثان .
{ هو الذي جعل الشمس ضياء } أي ذات ضياء وهو مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط والياء فيه منقلبة عن الواو . وقرأ ابن كثير برواية قنبل هنا وفي " الأنبياء " وفي " القصص " " ضئاء " بهمزتين على القلب بتقديم اللام على العين . { والقمر نورا } أي ذا نورا أو سمي نورا للمبالغة وهو أعم من الضوء كما عرفت ، وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور ، وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيرا بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها . { وقدّره منازل } الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل ، أو قدره ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منزله وإناطة أحكام الشرع به ولذلك علله بقوله : { لتعلموا عدد السنين والحساب } حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم . { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة . { يفصل الآيات لقوم يعلمون } فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها وقرأ ابن كثير والبصريان وحفص " يفصل " بالياء .