قوله { الحمد لله } لفظه خبر كأنه ، يخبر عن المستحق للحمد هو الله عز وجل ، وفيه تعليم الخلق تقديره قولوا الحمد لله . والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة ، يقال حمدت فلاناً على ما أسدى إلي من نعمة ، وحمدته على علمه وشجاعته ، والشكر لا يكون إلا على النعمة ، والحمد أعم من الشكر ، إذ لا يقال شكرت فلاناً على علمه ، فكل حامد شاكر ، وليس كل شاكر حامدا . وقيل الحمد باللسان قولاً والشكر بالأركان فعلاً قال الله تعالى ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ) ( اعملوا آل داود شكراً ) . يعني اعملوا الأعمال لأجل الشكر ، فشكرا مفعول به وانتصب باعملوا . قوله : { لله } اللام فيه للاستحقاق كما يقال الدار لزيد . قوله { رب العالمين الرحمن الرحيم } فالرب يكون بمعنى المالك ، كما يقول لمالك الدار رب الدار ، ويقال رب الشيء إذا ملكه ، ويكون بمعنى التربية والإصلاح ، يقال : رب فلان الضيعة يربها إذا أتمها وأصلحها فهو رب ، مثل طب وبر ، فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم ولا يقال للمخلوق وهو الرب معرفاً ، إنما يقال رب كذا مضافاً لأن الألف واللام للتعميم ، وهو لا يملك الكل ، والعالمين جمع عالم والعالم ، جمع لا واحد له من لفظه ، واختلفوا في العالمين ، قال ابن عباس : هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب ، قال الله تعالى : { ليكون للعالمين نذيراً } وقال قتادة و مجاهد و الحسن : جميع المخلوقين . قال الله تعالى : ( قال فرعون وما رب العالمين ؟ قال رب السماوات والأرض وما بينهما ) واشتقاقه من العلم والعلامة سموا به لظهور أثر الصنعة فيهم . قال أبو عبيد : أربع أمم الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين ، مشتق من العلم ولا يقال للبهائم عالم ، لأنها لا تعقل ، واختلفوا في مبلغهم . قال سعيد بن المسيب : لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال مقاتل بن حيان : لله ثمانون ألف عالم ، أربعون ألفاً في البحر ، وأربعون ألفاً في البر ، وقال وهب : لله ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء ، وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين أحد إلا الله قال ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) .
وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين : ( الحمد لله رب العالمين ) .
والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله . . فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء . وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع ، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان . . ومن ثم كان الحمد لله ابتداء ، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر : ( وهو الله لا إله إلا هو ، له الحمد في الأولى والآخرة . . . . ) .
ومع هذا يبلغ من فضل الله - سبحانه - وفيضه على عبده المؤمن ، أنه إذا قال : الحمد لله . كتبها له حسنة ترجح كل الموازين . . في سنن ابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله [ ص ] حدثهم أن عبدا من عباد الله قال : " يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك " . فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها . فصعدا إلى الله فقالا : يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها . قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - : " وما الذي قال عبدي ؟ " قالا : يا رب ، إنه قال : لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما : " اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها " . .
والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله - كما أسلفنا - أما شطر الآية الأخير : ( رب العالمين ) فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي ، فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية . . والرب هو المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية . . والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين - أي جميع الخلائق - والله - سبحانه - لم يخلق الكون ثم يتركه هملا . إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه . وكل العوالم والخلائق تحفظ وتتعهد برعاية الله رب العالمين . والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة .
والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل ، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة . وكثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد للكون ، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة . ولقد يبدو هذا غريبا مضحكا . ولكنه كان وما يزال . ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة : ( ما نعبدهم إلاليقربونا إلى الله زلفى ) . . كما قال عن جماعة من أهل الكتاب : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) . . وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ، تعج بالأرباب المختلفة ، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون !
فإطلاق الربوبية في هذه السورة ، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعا ، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة . لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد ، تقر له بالسيادة المطلقة ، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة ، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب . . ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة . وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب ، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن الله أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به ، لأن الله أرقى من أن يفكر فيما هو دونه ! فهو لا يفكر إلا في ذاته ! وأرسطو - وهذا تصوره - هو أكبر الفلاسفة ، وعقله هو أكبر العقول !
لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار . . يختلط فيها الحق بالباطل ، والصحيح بالزائف ، والدين بالخرافة ، والفلسفة بالأسطورة . . والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون ، ولا يستقر منها على يقين .
وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور ، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها ، وصفاته وعلاقته بخلائقه ، ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص .
ولم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون ، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته ، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته ، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل .
ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام ، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري ، والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير . [ وسيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها ، مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا ] .
ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة ، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته ، وعلاقته بالخلائق ، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين .
ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل ، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد . . هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام ، وظل يجلوها في الضمير ، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد ، حتى يخلصها من كل غبش . ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور . . كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة . فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير . . مما يتعلق بهذا الأمر الخطير ، العظيم الأثر في الضمير الإنساني . وفي السلوك البشري سواء .
والذي يراجع الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته ، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة . . الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه . . قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر ، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير . . ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول ، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة - وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه ؛ وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير !
وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها . . كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات ، والأساطير والفلسفات ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم . . عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة . رحمة حقيقية للقلب والعقل ، رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق ، وقرب وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .
{ الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ }
قال أبو جعفر : معنى : الحَمْدُ لِلّهِ : الشكر خالصا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعْبَد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الاَلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم لذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخرا .
وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه : الحَمْدُ لِلّهِ جاء الخبر عن ابن عباس وغيره :
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : «قل يا محمد : الحمد لله » .
قال ابن عباس : الحمد لله : هو الشكر ، والاستخذاء لله ، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه ، وغير ذلك .
وحدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذَا قُلْتَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ ، فَقَدْ شَكَرْتَ اللّهَ فَزَادَكَ » .
قال : وقد قيل إن قول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، وقوله : «الشكر لله » ثناء عليه بنعمه وأياديه .
وقد رُوي عن كعب الأحبار أنه قال : الحمد لله ثناء على الله . ولم يبين في الرواية عنه من أيّ معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثني عمر ابن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، قال : أخبرني السلولي ، عن كعب قال : من قال : «الحمد لله » فذلك ثناء على الله .
وحدثني عليّ بن الحسن الخراز ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي ، قال : حدثنا محمد بن مصعب القرقساني ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ الحَمْدُ مِنَ اللّهِ تَعالى ، ولِذَلِكَ أَثْنَى على نَفْسِهِ فَقالَ : الحَمْدُ لِلّهِ » .
قال أبو جعفر : ولا تَمَانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم لقول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ شكرا بالصحة . فقد تبين إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحا ، أن الحمد لله قد يُنْطَق به في موضع الشكر ، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد ، لأن ذلك لو لم يكن كذلك لما جاز أن يقال الحمد لله شكرا ، فيخرج من قول القائل «الحمد لله » مصدر «أشكُر » ، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد ، كان خطأ أن يصدر من الحمد غير معناه وغير لفظه .
فإن قال لنا قائل : وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد ؟ وهلاّ قيل : حمدا لله ربّ العالمين قيل : إن لدخول الألف واللام في الحمد معنى لا يؤديه قول القائل «حمدا » ، بإسقاط الألف واللام وذلك أن دخولهما في الحمد منبىءٌ على أن معناه : جميع المحامد والشكر الكامل لله . ولو أُسقطتا منه لما دلّ إلا على أن حَمْدَ قائلِ ذلك لله ، دون المحامد كلها . إذْ كان معنى قول القائل : «حمدا لله » أو «حمدٌ الله » : أحمد الله حمدا ، وليس التأويل في قول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ تاليا سورة أم القرآن أحمد الله ، بل التأويل في ذلك ما وصفنا قبل من أن جميع المحامد لله بألوهيته وإنعامه على خلقه ، بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كفء لها في الدين والدنيا والعاجل والاَجل .
ولذلك من المعنى ، تتابعت قراءة القراءة وعلماء الأمة على رفع الحمد من : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمينَ دون نصبها ، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك : أحمد الله حمدا . ولو قرأ قارىء ذلك بالنصب ، لكان عندي محيلاً معناه ومستحقّا العقوبة على قراءته إياه كذلك إذا تعمد قراءته كذلك وهو عالم بخطئه وفساد تأويله .
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : الحمد لله ؟ أَحَمَد اللّهُ نفسَه جل ثناؤه فأثنى عليها ، ثم عَلّمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه ؟ فإن كان ذلك كذلك ، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا : إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ وهو عز ذكره معبود لا عابد ؟ أم ذلك من قيل جبريل أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما .
قيل : بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل ، ثم عَلّم ذلك عباده وفرض عليهم تلاوته ، اختبارا منه لهم وابتلاء ، فقال لهم : قولوا «الحمد لله ربّ العالمين » وقولوا : «إياك نعبد وإياك نستعين » فقوله : إياك نعبد ، مما عَلّمَهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بمعناه . وذلك موصول بقوله الحمد لله ربّ العالمين ، وكأنه قال : قولوا هذا وهذا .
فإن قال : وأين قوله : «قولوا » فيكون تأويل ذلك ما ادّعيت ؟ قيل : قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة ولم تشك أن سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت ، حَذْفُ ما كفى منه الظاهر من منطقها ، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت قولاً أو تأويل قول ، كما قال الشاعر :
واعْلَمُ أنّني سأكُونُ رَمْسا *** إذَا سارَ النّوَاعجُ لا يَسيرُ
فَقالَ السّائلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ *** فَقالَ المُخْبرُونَ لَهُمْ وَزيرُ
قال أبو جعفر : يريد بذلك : فقال المخبرون لهم : الميت وزير ، فأسقط «الميت » ، إذ كان قد أتى من الكلام بما يدل على ذلك . وكذلك قول الاَخر :
ورَأيْتِ زَوْجَكِ في الوَغَى *** مُتَقَلّدا سَيْفا وَرُمْحَا
وقد علم أن الرمح لا يتقلد ، وإنما أراد : وحاملاً رمحا . ولكن لما كان معلوما معناه اكتفى بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه . وقد يقولون للمسافر إذا ودّعوه : مُصَاحَبا مُعافى ، يحذفون سِرْ واخْرُجْ إذْ كان معلوما معناه وإن أسقط ذكره . فكذلك ما حُذِف من قول الله تعالى ذكره : ( الحمدُ لِلّهِ ربّ العَالمينَ ) لمّا عُلِم بقوله جل وعزّ : ( إياك نَعْبُد ) ما أراد بقوله : الحمد لله ربّ العالمين من معنى أمره عباده ، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حُذف .
وقد روينا الخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ في تفسير قول الله : ( الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ ) عن ابن عباس ، وأنه كان يقول : إن جبريل قال لمحمد : قل يا محمد : الحمد لله ربّ العالمين . وبَيّنا أن جبريل إنما عَلّمَ محَمّدا صلى الله عليه وسلم ما أُمِر بتعليمه إياه . وهذا الخبر ينبىء عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ } .
قال أبو جعفر : قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو «الله » في «بسم الله » ، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع . وأما تأويل قوله «رَبّ » ، فإن الربّ في كلام العرب متصرف على معان : فالسيد المطاع فيها يدعى ربّا ، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة :
وأهْلَكْنَ يَوْما رَبّ كِنْدَةَ وابنَه *** *** وَرَبّ مَعَدّ بينَ خَبْتٍ وعَرْعَرِ
يعني بربّ كندة : سيدَ كندة . ومنه قول نابغة بني ذبيان :
تَخُبّ إلى النّعْمانِ حَتّى تَنالَهُ *** فِدًى لَكَ منْ رَبَ طَريفي وتالِدِي
والرجل المصلح للشيء يدعى رَبّا . ومنه قول الفرزدق بن غالب :
كانُوا كسَالِئَةٍ حَمْقاءَ إذْ حَقَنَت *** سِلأَها في أدِيمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ
يعني بذلك في أديم غير مصلح . ومن ذلك قيل : إن فلانا يَرُبّ صنيعته عند فلان ، إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها . ومن ذلك قول علقمة بن عبدة :
فكنْتَ امْرَأً أفْضَتْ إلَيْكَ رِبابَتي *** وقَبْلَكَ رَبّتْني فَضِعْتُ رُبُوبُ
يعني بقوله أفضت إليك : أي أوصلت إليك ربابتي ، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلحه لما خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ ، فضيعوا أمري وتركوا تفقده . وهم الرّبوب واحدهم رَبّ والمالك للشيء يدعى رَبّه . وقد يتصرّف أيضا معنى الرب في وجوه غير ذلك ، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة .
فربنا جل ثناؤه ، السيد الذي لا شِبْه له ، ولا مثل في سؤدده ، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه ، والمالك الذي له الخلق والأمر .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه ( رَبّ العالَمِينَ ) جاءت الرواية عن ابن عباس .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : «يا محمد قل الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ » . قال ابن عباس : يقول قل الحمد لله الذي له الخلق كله ، السموات كلهن ومن فيهن ، والأرَضون كلهن ومن فيهن وما بينهن ، مما يُعلم ومما لا يُعلم . يقول : اعلم يا محمد أن ربك هذا لا يشبهه شيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { العَالَمِينَ } .
قاله أبو جعفر : والعالمون جمع عالم ، والعالَم جمع لا واحد له من لفظه ، كالأنامِ والرهط والجيش ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جماع لا واحد له من لفظه . والعالَم اسم لأصناف الأمم ، وكل صنف منها عالَم ، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالَم ذلك القرن وذلك الزمان ، فالإنس عالم وكل أهل زمان منهم عالَم ذلك الزمان . والجن عالَم ، وكذلك سائر أجناس الخلق ، كل جنس منها عالم زمانه . ولذلك جُمِع فقيل «عالَمون » ، وواحده جمع لكون عالَم كل زمان من ذلك عالَم ذلك الزمان . ومن ذلك قول العجاج :
*** *** فَخِنْدِفُ هامَةُ هَذَا العالَمِ
فجعلهم عالم زمانه . وهذا القول الذي قلناه قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير ، وهو معنى قول عامة المفسرين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : { الحمد لله ربّ العالمين } الحمد لله الذي له الخلق كله ، السموات والأرض ومن فيهن وما بينهن ، مما يُعلم ولا يُعلم .
وحدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ربّ العالمين : الجنّ والإنس .
وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا مصعب ، عن قيس بن الربيع ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قول الله جل وعزّ : ربّ العالمين : قال : ربّ الجن والإنس .
وحدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { رب العالمين } قال : الجن والإنس .
وحدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قوله : رَبّ العالَمِينَ قال : ابن آدم ، والجن والإنس كل أمة منهم عالَم على حِدَته .
وحدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ قال : الإنس والجنّ .
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : بمثله .
وحدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : رَبّ العالَمِينَ قال : كل صنف : عالَم .
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { رَبّ العالَمِينَ } قال : الإنس عالَم ، والجن عالَم ، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعة عشر ألف عالم ( وهو يشك ) من الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم ، خلقهم لعبادته .
وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثنا حجاح ، عن ابن جريج ، في قوله : رَبّ العالَمِينَ قال : الجن والإنس .