سورة   الفاتحة
 
المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

هذه السورة مكية ، نزلت في مكة قبل الهجرة ، وسميت الفاتحة لأنها أولي السور في ترتيب المصحف الشريف ، وهي تشتمل علي مجمل ما في القرآن ، وكأنها إجمال يحلو بعده التفصيل .

ومقاصد القرآن هي : بيان التوحيد ، وبيان الوعد والبشرى للمؤمن المحسن ، وبيان الوعيد والإنذار للكافر والمسيء ، وبيان العبادة ، وبيان طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، وقصص الذين أطاعوا الله ففازوا ، وقصص الذين عصوه فخابوا .

والفاتحة تشتمل ، بطريق الإيجاز والإشارة ، علي هذه المقاصد ، ولذلك سميت أم الكتاب .

1- تبتدئ باسم الله الذي لا معبود بحق سواه ، والمتصف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وهو صاحب الرحمة الذي يفيض بالنعم جليلها ودقيقها ، عامها وخاصها ، وهو المتصف بصفة الرحمة الدائمة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفاتحة :

ولها ثلاثة أسماء معروفة : فاتحة الكتاب ، وأم القرآن ، والسبع المثاني .

سميت فاتحة الكتاب : لأنه تعالى بها افتتح القرآن .

وأم الكتاب : لأنها أصل القرآن منها بدئ القرآن ، وأم الشيء : أصله ، ويقال لمكة أم القرى لأنها أصل البلاد دحيت الأرض من تحتها . وقيل : لأنها مقدمة وإمام لما يتلوها من السور يبدأ بكتابتها في الصحف ، وبقراءتها في الصلاة .

والسبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق العلماء . وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كل ركعة . وقال مجاهد : سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة فذخرها لهم .

وهي مكية على قول الأكثرين . وقال مجاهد : مدنية . وقيل : نزلت مرتين ، مرة بمكة ومرة بالمدينة ؛ ولذلك سميت مثاني . والأول أصح ، أنها مكية ، لأن الله تعالى من على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : " ولقد آتيناك سبعاً من المثاني " والمراد منها فاتحة الكتاب ، وسورة الحجر مكية فلم يكن يمن عليه بها قبل نزولها .

قوله : { بسم الله } الباء زائدة يخفض ما بعدها مثل : من وعن ، والمتعلق به محذوف لدلالة الكلام عليه ، تقديره أبدأ بسم الله ، أو قل بسم الله ، وأسقطت الألف من الاسم طلباً للخفة ، لكثرة استعمالها ، وطولت الباء ، قال القطيبي : ليكون افتتاح كلام كتاب الله بحرف معظم ، كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، يقول لكتابه : طولوا الباء ، وأظهروا السين ، وفرجوا بينهما ، أو دوروا الميم تعظيماً لكتاب الله عز و جل ، وقيل لما أسقطوا الألف ردوا طول الألف على الباء ليكون دالاً على سقوط الألف ، ألا ترى أنه لما كتب الألف في ( اقرأ باسم ربك ) ردت الباء إلى صيغتها ، ولا يحذف الألف إذا أضيف الاسم إلى غير الله ، ولا مع غير الباء . والاسم هو المسمى ، وعينه وذاته قال تعالى ( إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ) أخبر أن اسمه يحيى ، ثم نادى الاسم فقال : " يا يحيى " وقال ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ) وأراد الأشخاص المعبودة لأنهم كانوا يعبدون المسميات وقال : ( سبح اسم ربك ) و( تبارك اسم ربك ) ثم يقال للتسمية أيضاً اسم ، فاستعماله في التسمية أكثر من المسمى . فإن قيل : ما معنى التسمية من الله لنفسه ؟ قيل : هو تعليم العباد كيف يستفتحون القراءة واختلفوا في اشتقاقه ، قال المبرد في البصريين ، هو مشتق من السمو ، وهو العلو ، فكأنه علا على معناه وظهر عليه وصار معناه لا تحته ؛ وقال ثعلب في الكوفيين : هو من الوسم والسمة وهي العلامة ، وكأنه علامة لمعناه وعلامة للمسمى ، والأول أصح لأنه يصغر على سمي ، ولو كان من السمت لكان يصغر على الوسيم ، كما يقال في الوعد وعيد ويقال في تصريفه سميت ولو كان في الوسم لقيل وسمت . قوله تعالى : { الله } قال الخليل وجماعة : هو اسم علم خاص لله عز وجل لا اشتقاق له كأسماء الأعلام للعباد مثل زيد وعمرو ، وقال جماعة : هو مشتق . ثم اختلفوا في اشتقاقه فقيل : من أله إلاهة أي عبد عبادة ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ( ويذرك وآلهتك ) أي عبادتك ، معناه أنه مستحق للعبادة دون غيره ، وقيل أصله إله ، قال الله عز وجل : ( وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ) قال المبرد : هو من قول العرب ، ألهت إلى فلان أي سكنت إليه قال الشاعر :

ألهت إليها والحوادث جمة*** . . . . . . . .

فكان الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره ، ويقال ألهت إليه أي فزعت إليه قال الشاعر :

ألهت إليها والركائب وقف*** . . . . . . . .

وقيل أصل الإله ولاه ، فأبدلت الواو بالهمزة ، مثل وشاح وإشاح ، اشتقاقه من الوله ، لأن العباد يولهون إليه أي يفزعون إليه في الشدائد ، ويلجئون إليه في الحوائج ، كما يوله كل طفل إلى أمه ، وقيل هو من الوله وهو ذهاب العقل لفقد من يعز عليك . قوله : { الرحمن الرحيم } .

قال ابن عباس رضي الله عنهما ، هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر ، واختلفوا فيهما ، منهم من قال : هما بمعنى واحد مثل ندمان ونديم ومعناهما ذو الرحمة ، وذكر أحدهما بعد الآخر تطميعاً لقلوب الراغبين ، وقال المبرد : هو إنعام بعد إنعام ، وتفضل بعد تفضل ، ومنهم من فرق بينهما فقال : للرحمن بمعنى العموم ، وللرحيم بمعنى الخصوص . فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا ، وهو على العموم لكافة الخلق . والرحيم بمعنى المعافي في الآخرة ، والعفو في الآخرة للمؤمنين على الخصوص . ولذلك قيل في الدعاء " يا رحمن الدنيا ، ورحيم الآخرة " فالرحمن : من يصل رحمته إلى الخلق على العموم . والرحيم من يصل رحمته إليهم على الخصوص . ولذلك يدعى غير الله رحيماً ، ولا يدعى رحمن ؛ فالرحمن عام المعنى ، خاص اللفظ . والرحيم ، عام اللفظ خاص المعنى . والرحمة إرادة الله تعالى الخير لأهله ، وقيل :هي ترك عقوبة من يستحقها ، وإسداء الخير إلى من لا يستحق . فهي على الأول صفة ذات ، وعلى الثاني صفة فعل . واختلفوا في آية التسمية : فذهب قراء المدينة ، والبصرة ، وفقهاء الكوفة ، إلى أنها ليست من فاتحة الكتاب ، ولا من غيرها من السور ، والافتتاح بها للتيمن والتبرك . وذهب قراء مكة ، والكوفة ، وأكثر فقهاء الحجاز ، إلى أنها من الفاتحة ، وليست من سائر السور . فإنما كتبت للفصل . وذهب جماعة إلى أنها من الفاتحة ومن كل سورة إلا سورة التوبة -وهو قول الثوري ، و ابن المبارك ، و الشافعي - في قول لأنها كتبت في المصحف بخط سائر القرآن . واتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات ، والآية الأولى عند من يعدها من الفاتحة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وابتداء الآية الأخيرة ( صراط الذين ) ومن لم يعدها من الفاتحة قال : ابتداؤها ( الحمد لله رب العالمين ) وابتداء الآية الأخيرة ( غير المغضوب عليهم ) . واحتج من جعلها من الفاتحة ، ومن السور ، بأنها كتبت في المصحف بخط القرآن . وبما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي ، أنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، وأنا الربيع بن سليمان ، أنا الشافعي ، أنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، أخبرني أبي عن سعيد بن جرير ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ) وهي : أم القرآن ، قال أبي وقرأها علي سعيد بن جبير حتى ختمها ثم قال : " بسم الله الرحمن الرحيم " الآية السابعة . قال سعيد : قرأها علي ابن عباس ، كما قرأتها عليك ، ثم قال ( بسم الله الرحمن الرحيم ) الآية السابعة قال ابن عباس فذخرها لكم فما أخرجها لأحد قبلكم ، ومن لم يجعلها من الفاتحة احتج بما ثنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي . أخبرنا زاهر بن أحمد ، ثنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال " قمت وراء أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، كلهم كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة " .

قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة حتى ينزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .

عن أبي مسعود قال : كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى ينزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .

وقال الشعبي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب في بدء الأمر على رسم قريش " باسمك اللهم " حتى نزل ( وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ) فكتب " بسم الله الرحمن " حتى نزلت : ( قل ادعوا الله أو أدعوا الرحمن ) . فكتب " بسم الله الرحمن " حتى نزلت . ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) فكتب مثلها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

الفاتحة مكية وآياتها سبع

يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع ، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى ؛ وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن ؛ وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا ، غير الفرائض والسنن . ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول الله [ ص ] من حديث عبادة بن الصامت : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " .

إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية ، وكليات التصور الإسلامي ، وكليات المشاعر والتوجيهات ، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة ، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها . .

بسم الله الرحمن الرحيم :

تبدأ السورة : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . . ومع الخلاف حول البسملة : أهي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة ، فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة ، وبها تحتسب آياتها سبعا . وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) . . هو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات ( من المثاني )لأنها يثنى بها وتكرر في الصلاة .

والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه [ ص ] في أول ما نزل من القرآن باتفاق ، وهو قوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك . . . ) . . وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) . . فهو - سبحانه - الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجود وجوده ، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه . فباسمه إذن يكون كل ابتداء . وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه .

ووصفه - سبحانه - في البدء بالرحمن الرحيم ، يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها . . وهو المختص وحده باجتماع هاتين الصفتين ، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن . فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم ؛ ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن . ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان . . ومهما يختلف في معنى الصفتين : أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة ، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال ؛ إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها .

وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي . . فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي الرحمن الرحيم يمثل الكلية الثانية في هذا التصور ، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفاتحة مكِيّة وآياتها سَبْع

-القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب-

قال أبو جعفر : صَحَّ الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما : -

حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : هي أمّ القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني .

فهذه أسماءُ فاتحة الكتاب .

وسمّيت " فاتحة الكتاب " ، لأنها يُفتتح بكتابتها المصاحف ، ويُقرأ بها في الصلوات ، فهي فَواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة .

وسمّيت " أم القرآن " لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها ، وتأخُّر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة . وذلك من معناها شبيهٌ بمعنى فاتحة الكتاب . وإنما قيل لها -بكونها كذلك- أمَّ القرآن ، لتسمية العرب كل جامع أمرًا -أو مقدِّمٍ لأمر إذا كانت له توابعُ تتبعه ، هو لها إمام جامع- " أمًّا " . فتقول للجلدة التي تجمع الدّماغ : " أم الرأس " . وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش - " أمًّا " . ومن ذلك قول ذي الرُّمة ، يصف رايةً معقودة على قناة يجتمع تحتها هو وصحبُه :

وَأَسَمْرَ ، قَوَّامٍ إذَا نَام صُحْبَتِي ، *** خَفِيفِ الثِّيابِ لا تُوَارِي لَهُ أَزْرَا

عَلَى رَأْسِه أمٌّ لنا نَقْتَدِي بِهَا ، *** جِماعُ أمورٍ لا نُعاصِي لَهَا أمْرَا

إذَا نزلتْ قِيلَ : انزلُوا ، وإذا غدَتْ *** غَدَتْ ذاتَ بِرْزيقٍ نَنَال بِهَا فَخْرَا

يعني بقوله : " على رأسه أمٌّ لنا " ، أي على رأس الرمح رايةٌ يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدوّ .

وقد قيل إن مكة سميت " أمّ القُرى " ، لتقدُّمها أمامَ جميعِها ، وجَمْعِها ما سواها . وقيل : إنما سُميت بذلك ، لأن الأرض دُحِيَتْ منها فصارت لجميعها أمًّا . ومن ذلك قولُ حُميد بن ثَوْر الهلاليّ :

إذا كانتِ الخمسُونَ أُمَّكَ ، لَم يكنْ *** لِدَائك ، إلا أَنْ تَمُوت ، طَبِيبُ

لأن الخمسين جامعةٌ ما دونها من العدد ، فسماها أمًّا للذي قد بلغها .

وأما تأويل اسمها أنها " السَّبْعُ " ، فإنها سبعُ آيات ، لا خلاف بين الجميع من القرَّاء والعلماء في ذلك .

وإنما اختلفوا في الآي التي صارت بها سبع آيات :

فقال عُظْمُ أهل الكوفة : صارت سبع آيات ب { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ورُوي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين .

وقال آخرون : هي سبع آيات ، وليس منهن { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ولكن السابعة " أنعمت عليهم " . وذلك قول عُظْم قَرَأةِ أهل المدينة ومُتْقنيهم .

قال أبو جعفر : وقد بيَّنا الصواب من القول عندنا في ذلك في كتابنا : ( اللطيف في أحكام شرائع الإسلام ) بوجيز من القول ، ونستقصي بيان ذلك بحكاية أقوال المختلفين فيه من الصحابة والتابعين والمتقدمين والمتأخرين في كتابنا : ( الأكبر في أحكام شرائع الإسلام ) إن شاء الله ذلك .

وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم آياتها السبعَ بأنهن مَثان ، فلأنها تُثْنَى قراءتها في كل صلاة وتطوُّع ومكتوبة . وكذلك كان الحسن البصري يتأوّل ذلك .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُليَة ، عن أبي رَجاء ، قال سألت الحسن عن قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }[ سورة الحجر : 87 ] قال : هي فاتحة الكتاب . ثم سئل عنها وأنا أسمع فقرأها : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } حتى أتى على آخرها ، فقال : تثنى في كل قراءة - أو قال - في كل صلاة . الشك من أبي جعفر الطبري .

والمعنى الذي قلنا في ذلك قصد أبو النجم العجلي بقوله :

الحمدُ لله الذي عَافَانِي *** وكلَّ خَيْر بعدَهُ أَعْطانِي

*** مِنَ القُرَآن ومِنَ المَثَاني***

وكذلك قول الراجز الآخر :

نَشَدْتُكم بِمُنزل الفُرقانِ *** أمِّ الكِتَاب السَّبع من مَثَانِي

ثُنِّينَ مِنْ آيٍ من القُرْآنِ *** والسَّبعِ سبعِ الطُّوَل الدَّوانِي

وليس في وجوب اسم " السبع المثاني " لفاتحة الكتاب ، ما يدفع صحة وجوب اسم " المثاني " للقرآن كله ، ولما ثَنَّى المئين من السور . لأن لكلٍّ وجهًا ومعنًى مفهومًا ، لا يَفْسُد - بتسميته بعضَ ذلك بالمثاني - تسميةُ غيره بها .

فأما وجه تسمية ما ثَنَّى المئينَ من سور القرآن بالمثاني ، فقد بينا صحته ، وسندُلّ على صحة وجه تسمية جميع القرآن به عند انتهائنا إليه في سورة الزُّمَر ، إن شاء الله .

القول في تأويل الاستعاذة :

تأويل قوله : { أَعُوذُ } .

قال أبو جعفر : والاستعاذة : الاستجارة . وتأويل قول القائل : { أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أستجيرُ بالله - دون غيره من سائر خلقه - من الشيطان أن يضرَّني في ديني ، أو يصدَّني عن حق يلزَمُني لرَبي .

تأويل قوله : { مِنَ الشَّيْطَانِ }

قال أبو جعفر : والشيطان ، في كلام العرب : كل متمرِّد من الجن والإنس والدوابِّ وكل شيء . وكذلك قال ربّنا جل ثناؤه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ } [ سورة الأنعام : 112 ] ، فجعل من الإنس شياطينَ ، مثلَ الذي جعل من الجنّ .

وقال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ، وركب بِرذَوْنًا فجعل يتبختر به ، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا ، فنزل عنه ، وقال : ما حملتموني إلا على شيطانٍ ! ما نزلت عنهُ حتى أنكرت نَفسي .

حدثنا بذلك يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر .

قال أبو جعفر : وإنما سُمي المتمرِّد من كل شيء شيطانًا ، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاقَ سائر جنسه وأفعاله ، وبُعدِه من الخير . وقد قيل : إنه أخذ من قول القائل : شَطَنَتْ دَاري من دارك - يريد بذلك : بَعُدت . ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان :

نأتْ بِسُعَادَ عَنْك نَوًى شَطُونُ *** فبانَت ، والفؤادُ بها رَهِينُ

والنوى : الوجه الذي نَوَتْه وقصَدتْه . والشَّطونُ : البعيد . فكأن الشيطان - على هذا التأويل - فَيعَال من شَطَن . ومما يدلّ على أن ذلك كذلك ، قولُ أميّة ابن أبي الصّلت :

أَيُّمَا شاطِن عَصَاه عَكاهُ *** ثُم يُلْقَى في السِّجْن والأكْبَالِ

ولو كان فَعلان ، من شاطَ يشيط ، لقال أيُّما شائط ، ولكنه قال : أيما شاطنٍ ، لأنه من " شَطَن يَشْطُنُ ، فهو شاطن " .

تأويل قوله : ( الرَّجِيمِ ) .

وأما الرجيم فهو : فَعيل بمعنى مفعول ، كقول القائل : كفٌّ خضيبٌ ، ولحيةٌ دهين ، ورجل لَعينٌ ، يريد بذلك : مخضوبة ومدهونة وملعون . وتأويل الرجيم : الملعون المشتوم . وكل مشتوم بقولٍ رديء أو سبٍّ فهو مَرْجُوم . وأصل الرجم الرَّميُ ، بقول كان أو بفعل . ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم لإبراهيم صلوات الله عليه : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ } [ سورة مريم : 46 ] .

وقد يجوز أن يكون قِيل للشيطان رجيمٌ ، لأن الله جل ثناؤه طرَده من سَمواته ، ورجمه بالشُّهب الثَّواقِب .

وقد رُوي عن ابن عباس ، أن أول ما نزل جبريلُ على النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمه الاستعاذة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سَعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمَارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحّاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أول ما نزل جبريلُ على محمد قال : " يا محمد استعذ ، قل : أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم " ، ثم قال : قل : " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ثم قال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] . قال عبد الله : وهي أول سورة أنزلها الله على محمد بلسان جبريل .

فأمره أن يتعوذ بالله دون خلقه .

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

القول في تأويل بِسْمِ .

قال أبو جعفر : إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه ، أدّب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله ، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته ، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه سنةً يستنون بها ، وسبيلاً يتبعونه عليها ، في افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل «بسم الله » ، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف .

وذلك أن الباء من «بسم الله » مقتضيةٌ فعلاً يكون لها جالبا ، ولا فعل معها ظاهر ، فأغنت سامع القائل «بسم الله » معرفته بمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولاً ، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به ، إما معه وإما قبله بلا فصل ، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قيله به . فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه ، نظير استغنائه إذا سمع قائلاً قيل له : ما أكلت اليوم ؟ فقال : طعاما ، عن أن يكرّر المسئول مع قوله «طعاما » أكلت لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل . فمعقول إذا أن قول القائل إذا قال : «بِسم الله الرحمن الرحيم » ثم افتتح تاليا سورة ، أن إتباعه «بسم الله الرحمن الرحيم » تلاوةَ السورة ، ينبىء عن معنى قوله : «بسم الله الرحمن الرحيم » ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأُ بسم الله الرحمن الرحيم .

وكذلك قوله : «بسم الله » عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله ، ينبىء عن معنى مراده بقوله «بسم الله » ، وأنه أراد بقيله «بسم الله » : أقوم بسم الله ، وأقعد بسم الله وكذلك سائر الأفعال .

وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك ، هو معنى قول ابن عباس ، الذي :

حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : إن أول ما نزل به جبريل على محمد ، قال : يا محمد ، قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال : قل بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قال : قال له جبريل : قل بسم الله يا محمد . يقول : اقرأ بذكر الله ربك ، وقم واقعد بذكر الله .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فإن كان تأويل قوله «بسم الله » ما وصفت ، والجالب «الباء » في «بسم الله » ما ذكرت ، فكيف قيل «بسم الله » ، بمعنى «اقرأ بسم الله » ، أو «أقوم أو أقعد بسم الله » ؟ وقد علمت أن كل قارىء كتاب الله ، فبعون الله وتوفيقه قراءتُه ، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعل فعلاً ، فبالله قيامُه وقعوده وفعله ؟ وهلاّ إذا كان ذلك كذلك ، قيل : «بسم الله الرحمن الرحيم » ، ولم يقل «بسم الله » فإن قول القائل : أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم ، أو أقرأ بالله ، أوضح معنى لسامعه من قوله «بسم الله » ، إذ كان قوله أقوم وأقعد بسم الله ، يوهم سامعه أن قيامه وقعوده بمعنى غير الله .

قيل له : إن المقصود إليه من معنى ذلك ، غير ما توهمته في نفسك . وإنما معنى قوله «بسم الله » : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء ، أو أقرأ بتسمية الله ، أو أقوم وأقعد بتسمية الله وذكره لا أنه يعني بقيله «بسم الله » : أقوم بالله ، أو أقرأ بالله فيكون قول القائل : «أقرأ بالله » ، و«أقوم وأقعد بالله » ، أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله «بسم الله » .

فإن قال : فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ ، فكيف قيل «بسم الله » وقد علمت أن الاسم اسم ، وأن التسمية مصدر من قولك سَمّيت ؟ .

قيل : إن العرب قد تخرج المصادر مبهمةً على أسماء مختلفة ، كقولهم : أكرمت فلانا كرامةً ، وإنما بناء مصدر «أفعلتُ » إذا أُخرج على فعله : «الإفعالُ » ، وكقولهم : أهنت فلانا هوانا ، وكلمته كلاما . وبناء مصدر «فعّلت » التفعيل ، ومن ذلك قول الشاعر :

أكُفْرا بَعْدَ رَدّ المَوْتِ عَنّي *** وبَعْدَ عَطائِكَ المِائَةَ الرّتاعا

يريد : إعطائك . ومنه قول الاَخر :

وَإنْ كانَ هَذا البُخْلُ مِنْكَ سَجِيّةً *** لَقَدْ كُنْتُ في طَوْلي رَجاءَكَ أشْعَبا

يريد : في إطالتي رجاءك . ومنه قول الاَخر :

أظَلُومُ إنّ مُصَابكُمْ رَجُلا *** أهْدَى السّلامَ تَحِيّةً ظُلْمُ

يريد إصابتكم ، والشواهد في هذا المعنى تكثر ، وفيما ذكرنا كفاية ، لمن وفق لفهمه . فإذا كان الأمر على ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الأفعال على غير بناء أفعالها كثيرا ، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودا فاشيا ، تبين بذلك صواب ما قلنا من التأويل في قول القائل : «بسم الله » ، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول : أبدأ بتسمية الله ، قبل فعلي ، أو قبل قولي .

وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن : «بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ » إنما معناه : أقرأ مبتدئا بتسمية الله ، أو أبتدىء قراءتي بتسمية الله فجعل الاسم مكان التسمية ، كما جعل الكلام مكان التكليم ، والعطاء مكان الإعطاء .

وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك ، رُوي الخبر عن عبد الله بن عباس .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : يا محمد ، قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم .

قال ابن عباس : «بسم الله » ، يقول له جبريل : يا محمد اقرأ بذكر الله ربك ، وقم واقعد بذكر الله .

وهذا التأويل من ابن عباس ينبىء عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتحا قراءته : «بسم الله الرحمن الرحيم » : أقرأ بتسمية الله وذكره ، وافتتح القراءة بتسمية الله ، بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى وفسادِ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله : بالله الرحمن الرحيم في كل شيء ، مع أن العباد إنما أمروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورهم بتسمية الله لا بالخبر عن عظمته وصفاته ، كالذي أمروا به من التسمية على الذبائح والصيد ، وعند المطعم والمشرب ، وسائر أفعالهم ، وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله وصدور رسائلهم وكتبهم .

ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة ، أن قائلاً لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام : «بالله » ، ولم يقل «بسم الله » ، أنه مخالف بتركه قيل «بسم الله » ما سُنّ له عند التذكية من القول . وقد علم بذلك أنه لم يرد بقوله «بسم الله » ، «بالله » كما قال الزاعم أن اسم الله في قول الله : «بسم الله الرحمن الرحيم » ، هو الله لأن ذلك لو كان كما زعم ، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحته «بالله » قائلاً ما سُنّ له منّ القول على الذبيحة . وفي إجماع الجميع على أن قائل ذلك تارك ما سُنّ له من القول على ذبيحته ، إذْ لم يقل «بسم الله » ، دليل واضح على فساد ما ادعى من التأويل في قول القائل «بسم الله » وأنه مراد به بالله ، وأن اسم الله هو الله .

وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم ، أهو المسمى أم غيره أم هو صفة له ؟ فنطيل الكتاب به ، وإنما هو موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله ، أهو اسم أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل : فما أنت قائل في بيت لبيد بن ربيعة :

إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُمَا *** وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقَدِ اعْتَذَرْ

فقد تأوّله مقدم في العلم بلغة العرب ، أنه معنيّ به : ثم السلام عليكما ، وأن اسم السلام هو السلام .

قيل له : لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأوّل ، لجاز أن يقال : رأيت اسم زيد ، وأكلت اسم الطعام ، وشربت اسم الشراب . وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبىء عن فساد تأويل من تأوّل قول لبيد : «ثم اسم السلام عليكما » ، أنه أراد : ثم السلام عليكما ، وادعائه أن ادخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز ، إذْ كان اسم المسمى هو المسمى بعينه .

ويُسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا ، فيقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يقال أكلت اسم العسل ، يعني بذلك أكلت العسل ، كما جاز عندكم اسم السلام عليك ، وأنتم تريدون السلام عليك ؟ فإن قالوا : نعم خرجوا من لسان العرب ، وأجازوا في لغتها ما تخطئه جميع العرب في لغتها . وإن قالوا لا سئلوا الفرق بينهما ، فلن يقولوا في أحدهما قولاً إلاّ ألزموا في الاَخر مثله .

فإن قال لنا قائل : فما معنى قول لبيد هذا عندك ؟ قيل له : يحتمل ذلك وجهين ، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله . أحدهما : أن «السلام » اسم من أسماء الله فجائز أن يكون لبيد عنى بقوله : «ثم اسم السلام عليكما » : ثم الْزَمَا اسم الله وذكره بعد ذلك ، ودعا ذكري والبكاء عليّ على وجه الإغراء . فرفع الاسم ، إذْ أخّر الحرف الذي يأتي بمعنى الإغراء . وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الإغراء وقدمت المُغْرَى به ، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر . ومن ذلك قول الشاعر :

يا أيّها المَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا *** إني رأيْتُ النّاس يَحْمَدُونَكا

فأغرى ب«دونك » ، وهي مؤخرة وإنما معناه : دونك دلوي . فذلك قول لبيد :

إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُمَا

يعني : عليكما اسم السلام ، أي : الزما ما ذكر الله ، ودعا ذكري والوجد بي لأن من بكى حولاً على امرىء ميت فقد اعتذر . فهذا أحد وجهيه .

والوجه الاَخر منهما : ثم تسميتي الله عليكما ، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه : «اسم الله عليك » يعوّذه بذلك من السوء ، فكأنه قال : ثم اسم الله عليكما من السوء . وكأن الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد .

ويقال لمن وجّه بيت لبيد هذا إلى أن معناه : «ثم السلام عليكما » : أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزا ، أو أحدهما ، أو غير ما قلت فيه ؟ فإن قال : لا أبان مقداره من العلم بتصاريف وجوه كلام العرب ، وأغنى خصمه عن مناظرته . وإن قال : بلى قيل له : فما برهانك على صحة ما ادّعيت من التأويل أنه الصواب دون الذي ذكرت أنه محتمله من الوجه الذي يلزمنا تسليمه لك ؟ ولا سبيل إلى ذلك . وأما الخبر الذي :

حدثنا به إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه عن ابن مسعود ، ومسعر بن كدام ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أسْلَمَتْهُ أُمّهُ إلى الكُتّابِ لِيُعَلّمَهُ ، فَقالَ لَهُ المُعَلّمُ : اكْتُبْ بِسْمِ فَقَالَ له عِيسَى : وَما بِسْمِ ؟ فَقالَ لَهُ المُعَلّمُ : ما أدْرِي فَقالَ عِيسىَ : الباءُ : بَهاءُ اللّهِ ، وَالسّينُ : سَناؤُهُ ، وَالمِيمُ : مَمْلَكَتُهُ » .

فأخشى أن يكون غلطا من المحدث ، وأن يكون أراد : «ب س م » ، على سبيل ما يعلم المبتدى من الصبيان في الكتاب حروفَ أبي جاد . فغلط بذلك ، فوصله فقال : «بسم » لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي «بسم الله الرحمن الرحيم » على ما يتلوه القارىء في كتاب الله ، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها ، إذا حمل تأويله على ذلك .

القول في تأويل قوله تعالى : { الله } .

قال أبو جعفر : وأما تأويل قول الله : «الله » ، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس : هو الذي يَأْلَهه كل شيء ، ويعبده كل خلق . وذلك أن أبا كريب :

حدثنا قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : الله ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين .

فإن قال لنا قائل : فهل لذلك في «فَعَلَ ويَفْعَل » أصل كان منه بناء هذا الاسم ؟ قيل : أما سماعا من العرب فلا ، ولكن استدلالاً .

فإن قال : وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة ، وأن الإله هو المعبود ، وأن له أصلاً في فعل ويفعل ؟ قيل : لا تمانُعَ بين العرب في الحكم لقول القائل يصف رجلاً بعبادة وبطلب مما عند الله جل ذكره : تألّه فلان بالصحة ولا خلاف . ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج :

لِلّهِ دَرّ الغانِياتِ المُدّةِ *** سَبّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألّهِي

يعني من تعبدي وطلبي الله بعمل . ولا شك أن التأله «التفعّل » من : أَلَهَ يَأْلَهُ ، وأن معنى «أَلَه » إذا نُطق به : عَبَد الله . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب«فَعَل يفعل » بغير زيادة . وذلك ما :

حدثنا به سفيان بن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن نافع بن عمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، أنه قرأ : «وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ » قال : عبادتك ، ويُقال : إنه كان يُعْبَد ولا يَعْبَد .

وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن ابن عباس : «وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ » قال : إنما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبد . وكذلك كان عبد الله يقرؤها ومجاهد .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( «وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ » ) قال : وعبادتك . ولا شك أن الإلاهة على ما فسره ابن عباس ومجاهد ، مصدرٌ من قول القائل أَلَهَ اللّهَ فلانٌ إلاهةً ، كما يقال : عبد الله فلانٌ عبادة ، وعَبَر الرؤيا عبارةً . فقد بيّن قول ابن عباس ومجاهد هذا أن أله : عبد ، وأن الإلاهة مصدره .

فإن قال : فإن كان جائزا أن يقال لمن عبد الله : ألهه ، على تأويل قول ابن عباس ومجاهد ، فكيف الواجب في ذلك أن يقال ، إذا أراد المخبر الخبر عن استيجاب الله ذلك على عبده ؟ قيل : أما الرواية فلا رواية عندنا ، ولكن الواجب على قياس ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :

حدثنا به إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، ومسعر بن كدام ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ عِيسَى أسْلَمَتْهُ أُمّهُ إلى الكُتّابِ لِيُعَلّمَهُ ، فَقالَ لَهُ المُعَلّمُ : اكْتُبْ اللّهُ ، فَقالَ لَهُ عِيسَى : أَتَدْرِي ما اللّهُ ؟ اللّهُ إلَهُ الاَلِهَةِ » .

أن يقال : الله جل جلاله أَلَهَ العَبْدَ ، والعبدُ ألهه . وأن يكون قول القائل «الله » من كلام العرب أصله «الإله » .

فإن قال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك مع اختلاف لفظيهما ؟ قال : كما جاز أن يكون قوله : لَكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي أصله : «لكن أنا هو الله ربي » كما قال الشاعر :

وَتَرْمِيننِي بالطّرْفِ أيْ أنْتَ مُذْنِب *** وتَقْلِينَنِي لَكِنّ إيّاكِ لا أَقْلِي

يريد : «لكنْ أنا إياك لا أقلي » فحذف الهمزة من «أنا » ، فالتقت نون «أنا » ونون «لكن » وهي ساكنة ، فأدغمت في نون أنا ، فصارتا نونا مشددة ، فكذلك الله ، أصله الإله ، أسقطت الهمزة ، التي هي فاء الاسم ، فالتقت اللام التي هي عين الاسم ، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة ، وهي ساكنة ، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم ، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله : لَكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي .

القول في تأويل قوله تعالى : الرّحْمنِ الرّحِيمِ .

قال أبو جعفر : أما الرحمن ، فهو «فعلان » ، من رحم ، والرحيم فعيل منه . والعرب كثيرا ما تبني الأسماء من فعل يفعل على فعلان ، كقولهم من غضب غضبان ، ومن سكر سكران ، ومن عطش عطشان ، فكذلك قولهم رحمَن من رحم ، لأن «فَعِلَ » منه : رَحِمَ يَرْحم .

وقيل «رحيم » وإن كانت عين فعل منها مكسورة ، لأنه مدح . ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء إذا كان فيها مدح أو ذمّ على فعيل ، وإن كانت عين فَعِلَ منها مكسورة أو مفتوحة ، كما قالوا من عَلِمَ : عالم وعليم ، ومن قدَر : قادر وقدير . وليس ذلك منها بناءً على أفعالها لأن البناء من «فَعِلَ يَفْعَل » «وَفَعَلَ يَفْعَلُ » فاعل . فلو كان الرحمن والرحيم خارجين على بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم .

فإن قال قائل : فإذا كان الرحمَن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة ، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤّد عن معنى الاَخر ؟

قيل له : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤَدي الأخرى منهما عنها . فإن قال : وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما ، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى ؟ قيل : أما من جهة العربية ، فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب أن قول القائل «الرحمن » عن أبنية الأسماء من «فَعِلَ يَفْعَل » أشد عدولاً من قوله «الرحيم » . ولا خلاف مع ذلك بينهم أن كل اسم كان له أصل في «فَعِلَ يَفْعَل » ، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشدّ عدولاً ، أن الموصوف به مفضل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من «فَعِلَ يَفْعل » إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما . فهذا ما في قول القائل «الرحمَن » من زيادة المعنى على قوله : «الرحيم » في اللغة .

وأما من جهة الأثر والخبر ، ففيه بين أهل التأويل اختلاف .

فحدثني السريّ بن يحيى التميمي ، قال : حدثنا عثمان بن زفر ، قال : سمعت العرزمي يقول : «الرحمن الرحيم » قال : الرحمن بجميع الخلق . «الرحيم » قال : بالمؤمنين .

وحدثنا إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، ومسعر بن كدام ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد يعني الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قالَ : الرّحْمَنُ : رَحْمَنُ الاَخِرَةِ والدّنْيَا ، والرّحِيمُ : رَحِيمُ الاَخِرَةِ » .

فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو «رحمن » ، وتسميته باسمه الذي هو «رحيم » . واختلاف معنى الكلمتين ، وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق ، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا ، ودل الاَخر على أنه في الاَخرة .

فإن قال : فأيّ هذين التأويلين أولى عندك بالصحة ؟ قيل : لجميعهما عندنا في الصحة مخرج ، فلا وجه لقول قائل : أيهما أولى بالصحة . وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن ، دون الذي في تسميته بالرحيم هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه ، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه ، إما في كل الأحوال ، وإما في بعض الأحوال . فلا شكّ إذا كان ذلك كذلك ، أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه ، في الدنيا كان ذلك أو في الاَخرة ، أو فيهما جميعا . فإذا كان صحيحا ما قلنا من ذلك وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم في توفيقه إياهم لطاعته ، والإيمان به وبرسله ، واتباع أمره واجتناب معاصيه مما خذل عنه من أشرك به فكفر ، وخالف ما أمره به وركب معاصيه ، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد في أجل الاَخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين لمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصا دون من أشرك وكفر به ، كان بيّنا أن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والاَخرة ، مع ما قد عمهم به والكفار في الدنيا ، من الإفضال والإحسان إلى جميعهم ، في البسط في الرزق ، وتسخير السحاب بالغيث ، وإخراج النبات من الأرض ، وصحة الأجسام والعقول ، وسائر النعم التي لا تحصى ، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون . فربنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والاَخرة ، ورحيم المؤمنين خاصة في الدنيا والاَخرة .

فأما الذي عمّ جميعهم به في الدنيا من رحمته ، فكان رحمانا لهم به ، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه ، كما قال جل ثناؤه : ( وإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها ) . وأما في الاَخرة ، فالذي عم جميعهم به فيها من رحمته . فكان لهم رحمانا . تسويته بين جميعهم جل ذكره في عدله وقضائه ، فلا يظلم أحدا منهم مِثْقَالَ ذَرّةٍ ، وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرا عَظِيما ، وتُوفّى كل نفس ما كسبت . فذلك معنى عمومه في الاَخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحمانا في الاَخرة .

وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته الذي كان به رحيما لهم فيها ، كما قال جل ذكره : وكانَ بالمُؤْمِنِينَ رَحِيما فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم ، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به .

وأما ما خصهم به في الاَخرة ، فكان به رحيما لهم دون الكافرين . فما وصفنا آنفا مما أعدّ لهم دون غيرهم من النعيم والكرامة التي تقصر عنها الأماني . وأما القول الاَخر في تأويله ، فهو ما :

حدثنا به أبو كريب . قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : الرحمن الفعلان من الرحمة ، وهو من كلام العرب . قال : الرحمن الرحيم : الرقيق الرفيق بمن أحبّ أن يرحمه ، والبعيد الشديد على من أحبّ أن يعنف عليه . وكذلك أسماؤه كلها .

وهذا التأويل من ابن عباس ، يدل على أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيم ، وإن كان لقوله «الرحمن » من المعنى ما ليس لقوله «الرحيم » لأنه جعل معنى الرحمن بمعنى الرقيق على من رقّ عليه ، ومعنى الرحيم بمعنى الرفيق بمن رفق به .

والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي ، أشبه بتأويله من هذا القول الذي روينا عن ابن عباس وإن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك ، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم ، وأن للرحيم تأويلاً غير تأويل الرحمن .

والقول الثالث في تأويل ذلك ، ما :

حدثني به عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا يحيى بن صالح ، قال : حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللخمي من أهل فلسطين ، قال : سمعت عطاء الخراساني ، يقول : كان الرحمن ، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم .

والذي أراد إن شاء الله عطاء بقوله هذا : أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه ، فلما تسمى به الكذّاب مسيلمة وهو اختزاله إياه ، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيم ، ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه ، إذ كان لا يُسمّى أحد الرحمن الرحيم فيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره وإنما تسمى بعض خلقه إما رحيما ، أو يتسمى رحمن ، فأما «رحمَن رحيم » ، فلم يجتمعا قط لأحد سواه ، ولا يجمعان لأحد غيره . فكأن معنى قول عطاء هذا : أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن بين اسمه واسم غيره من خلقه ، اختلف معناهما أو اتفقا .

والذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى ، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين إبانة لها من خلقه ، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه ، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الاَخر منهما .

وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَمَا الرّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لما تَأْمُرُنَا } إنكارا منهم لهذا الاسم . كأنه كان محالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته ، أو كأنه لم يتل من كتاب الله قولَ الله : الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعني محمدا كَما يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ وهم مع ذلك به مكذبون ، ولنبّوته جاحدون . فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستحكمت لديهم معرفته . وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء :

ألاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الفَتاةُ هَجِينَها *** ألاَ قَضَبَ الرّحْمَنُ رَبّي يَمِينَها

وقال سلامة بن جندل الطهوي :

عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنا عَلَيْكُمُ *** وَما يَشاء الرّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ

وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل ، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير ، أن «الرحمن » مجازه «ذو الرحمة » ، و«الرحيم » مجازه «الراحم » . ثم قال : قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد ، وذلك لاتساع الكلام عندهم . قال : وقد فعلوا مثل ذلك ، فقالوا : ندمان ونديم . ثم استشهد بقول بُرْج بن مسهر الطائي :

ونَدْمانٍ يَزِيدُ الكأسَ طِيبَا *** سَقَيْتُ وقَدْ تَغَوّرَتِ النّجُومُ

واستشهد بأبيات نظائر له في النديم والندمان . ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل ، لقوله : الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم : الراحم . وإن كان قد ترك بيان تأويل معنييهما على صحته . ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد ، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين ، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ . ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصح أنها له صفة ، وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم ، أو قد رحم فانقضى ذلك منه ، أو هو فيه . ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة ، كالدلالة على أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة . فأين معنى الرحمن الرحيم على تأويله من معنى الكلمتين يأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ؟

ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه كان واضحا عُوَارُه .

وإن قال لنا قائل : ولم قدم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن ، واسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم ؟

قيل : لأن من شأن العرب إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه ، ثم يُتبعوه صفاته ونعوته . وهذا هو الواجب في الحكم : أن يكون الاسم مقدما قبل نعته وصفته ، ليعلم السامع الخبر عمن الخبر فإذا كان ذلك كذلك ، وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم ، ذلك مثل «الله » ، و«الرحمن » و«الخالق » وأسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها ، وذلك كالرحيم ، والسميع ، والبصير ، والكريم ، وما أشبه ذلك من الأسماء كان الواجب أن يقدم أسماءه التي هي له خاصة دون جميع خلقه ، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد والتمجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره ، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعاني .

فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو الله لأن الألوهية ليست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه ، لا من جهة التسمي به ، ولا من جهة المعنى . وذلك أنا قد بينا أن معنى الله هو المعبود ، ولا معبود غيره جل جلاله ، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه ، وإن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمي بسعيد وهو شقيّ ، وبحَسَن وهو قبيح .

أَوَ لا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه : ( أإله مَعَ الله ) فاستكبر ذلك من المقرّ به ، وقال تعالى في خصوصية نفسه بالله وبالرحمن : ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أو ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا ما تَدْعُو فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنَى ) ثم ثنّى باسمه ، الذي هو الرحمن ، إذْ كان قد منع أيضا خلقه التسمي به ، وإن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه ببعض صفات الرحمة ، وغير جائز أن يستحق بعض الألوهية أحد دونه فلذلك جاء الرحمَن ثانيا لاسمه الذي هو الله » .

وأما اسمه الذي هو «الرحيم » فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به . والرحمة من صفاته جل ذكره ، فكان إذ كان الأمر على ما وصفنا ، واقعا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هن توابعها بعد تقدم الأسماء عليها . فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو «الله » على اسمه الذي هو «الرحمن » ، واسمه الذي هو «الرحمن » على اسمه الذي هو «الرحيم » .

وقد كان الحسن البصري يقول في الرحمن مثل ما قلنا ، أنه من أسماء الله التي منع التسمي بها لعباده .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : الرحمن اسم ممنوع .

مع أن في إجماع الأمة مِن منع التسمي به جميع الناس ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره .