قوله تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } ، يعني : مشركي العرب .
قوله تعالى : { ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } . لم يرد به جميع النصارى ، لأنهم في عدواتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين ، وأسرهم ، وتخريب بلادهم ، وهدم مساجدهم ، وإحراق مصاحفهم ، لا ولاء ، ولا كرامة لهم ، بل الآية فيمن أسلم منهم ، مثل النجاشي وأصحابه ، وقيل : نزلت في جميع اليهود ، وجميع النصارى ، لأن اليهود أقسى قلباً ، والنصارى ألين قلباً منهم ، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود . قال أهل التفسير : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ، ويعذبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله منهم من شاء ، ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ، ولم يقدر على منعهم ، ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، قال : ( إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً ) وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة ، وهو بالحبشية عطية ، وإنما النجاشي اسم الملك ، كقولهم قيصر ، وكسرى ، فخرج إليها سراً ، أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، وهم عثمان بن عفان ، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد وعبد الرحمن ابن عوف ، وأبو حذيفة بن عتبة ، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم ، فخرجوا إلى البحر ، وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار ، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى ، ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها ، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء ، والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي ، وبطارقته ، ليردوهم إليهم ، فعصمه الله ، وذكرت القصة في سورة آل عمران في قوله تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم } إلى آخر الآية ، فلما انصرفا خائبين ، أقام المسلمون هناك بخير دار ، وأحسن جوار ، إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره ، وذلك في سنة ست من الهجرة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها ، فمات زوجها ويبعث إليه من عنده من المسلمين ، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأعطتها أوضاحاً لها ، سروراً بذلك ، فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار ، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله ، فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة ، فلما جاءتها بها أعطتها خمسين ديناراً ، فردته وقالت : أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئاً ، وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه ، وقد صدقت محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنت به ، وحاجتي منك أن تقرئيه مني السلام ، قالت : نعم . قالت أبرهة : وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عندها فلا ينكر ، قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فخرج من خرج إليه ، وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه ، وكان يسألني عن النجاشي ، فقرأت عليه من أبرهة السلام ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام ، وأنزل الله عز وجل : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً } يعني : أبا سفيان ( مودة ) ، يعني : بتزويج أم حبيبة ، ولما جاء أبا سفيان تزوج أم حبيبة قال : ذلك الفحل لا يجدع أنفه ، وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابنه أزهى بن أصحمة بن أبحر في ستين رجلاً من الحبشة ، وكتب إليه ، يا رسول الله ، أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً ، وقد بايعتك ، وبايعت ابن عمك ، وأسلمت لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك ابني أزهى ، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت ، والسلام عليك يا رسول الله . فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه ، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً ، عليهم ثياب الصوف ، منهم اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، وقالوا : آمنا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ، يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر ، وهم السبعون ، وكانوا أصحاب الصوامع ، وقال مقاتل ، والكلبي : كانوا أربعين رجلاً ، اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام . وقال عطاء : كانوا ثمانين رجلاً ، أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية روميون من أهل الشام . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم صدقوه ، وآمنوا به ، فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم .
قوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين } ، أي علماء ، قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم .
قوله تعالى : { ورهباناً } ، الرهبان : العباد أصحاب الصوامع ، واحدهم راهب ، مثل فارس وفرسان ، وراكب وركبان ، وقد يكون واحداً وجمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين .
قوله تعالى : { وأنهم لا يستكبرون } ، لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق .
هذه البقية من الحديث عن اليهود والنصارى والمشركين ، ومواقفهم من الرسول [ ص ] ومن الأمة المسلمة ؛ هي طرف من الحديث الطويل الذي تضمنته السورة من قبل خلال أكثر من [ ربعين ] فقد تناولت الحديث عن فساد عقيدة اليهود والنصارى معاً ، وسوء طوية اليهود وسوء فعلهم ، سواء مع أنبيائهم من قبل أو مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصرة المشركين عليه . . كما تناولت الحكم على عقيدة اليهود والنصارى التي انتهوا إليها بأنها " الكفر " لتركهم ما جاء في كتبهم وتكذيبهم بما جاءهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتوكيد بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . ثم وجه الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ ما أنزل إليه من ربه إلى الجميع مشركين ويهودا ونصارى ؛ فكلهم ليسوا على شيء من دين الله ؛ وكلهم مخاطب بالإسلام للدخول فيه . كما وجه الحديث إلى الأمة المسلمة لتتولى الله والرسول والذين آمنوا ، ولا تتولى اليهود والنصارى ، فإن بعضهم أولياء بعض ؛ واليهود يتولون الذين كفروا ؛ وقد لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم . . . الخ . . .
فالآن تجيء هذه البقية لتقرير مواقف هذه الطوائف جميعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الأمة المسلمة . ولتقرير الجزاء الذي ينتظر الجميع في الآخرة . .
لقد كانت هذه الأمة تتلقى هذا القرآن لتقرر - وفق توجيهاته وتقريراته - خطتها وحركتها ، ولتتخذ - وفق هذه التوجيهات والتقريرات - مواقفها من الناس جميعاً . فهذا الكتاب كان هو موجهها ومحركها ورائدها ومرشدها . . ومن ثم كانت تَغلب ولا تُغلب ، لأنها تخوض معركتها مع أعدائها تحت القيادة الربانية المباشرة ؛ مذ كان نبيها يقودها وفق الإرشادات الربانية العلوية . .
وهذه الإرشادات الربانية ما تزال ؛ والتقريرات التي تضمنها ذلك الكتاب الكريم ما تزال . والذين يحملون دعوة الاسلام اليوم وغداً خليقون أن يتلقوا هذه التقريرات وتلك الإرشادات كأنهم يخاطبون بها اللحظة ؛ ليقرروا على ضوئها مواقفهم من شتى طوائف الناس ؛ ومن شتى المذاهب والمعتقدات والآراء ، ومن شتى الأوضاع والأنظمة وشتى القيم والموازين . . اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . .
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . . }
إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطاباً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن تكون كذلك خطاباً عاما خرج مخرج العموم ، لأنه يتضمن أمرا ظاهرا مكشوفا يجده كل إنسان . وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم . . وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهر الذي تؤديه . .
فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا ؛ وأن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى ، ويجده كل من يتأمل !
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا . . ولكن تقديم اليهود هنا ، حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أصلا أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأنا خاصا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي ! إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة ، وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا ! ونقول : إن هذا " على الأقل " . ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا . .
وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة ، فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمدا من عداء الذين أشركوا !
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة . وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة . وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام [ ص ] وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل ، والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا ، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا .
لقد عقد الرسول [ ص ] أول مقدمه إلى المدينة ، معاهدة تعايش مع اليهود ؛ ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة . . ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل ، حتى قال الله فيهم : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون . أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام ، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج ، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله [ ص ] فلم تعد لليهود فرصة للتسلط !
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية ، وأفادتها من قرون السبي في بابل ، والعبودية في مصر ، والذل في الدولة الرومانية . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة ؛ وراحوا يجمعون القبائل المتفرقةلحرب الجماعة المسلمة : ( ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) .
ولما غلبهم الاسلام بقوة الحق - يوم أن كان الناس مسلمين - استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه - ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين ، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في انحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الارض ؛ وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة ، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين ، ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !
وصدق الله العظيم : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) . .
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة ؛ وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم ؛ وبين قريش في مكة ، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . يهودي . .
والذي ألب العوام ، وجمع الشراذم ، وأطلق الشائعات ، في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما تلاها من النكبات . . يهودي . .
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله [ ص ] وفي الروايات والسير . . يهودي . .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ؛ ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال " الدستور " بها في عهد السلطان عبدالحميد ، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي " البطل " أتاتورك . . يهودي . .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية . . يهودي . . ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي . . ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود !
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا ، وأعرض مجالا ، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا . . إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها . . وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول . وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ؛ ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية . . [ التي تعد الماركسية مجرد فرع لها ] وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية ، التي سنتعرض لها في الفقرة التالية .
فإذا سمعنا الله - سبحانه - يقول :
( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) . .
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا . . ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي ، فإننا ندرك طرفا من حكمة الله في تقديم اليهود الذين أشركوا !
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة ، التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام وعلى نبي الإسلام ، فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها . . ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله ! . . ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه . .
( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ، وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون : ربنا آمنا ، فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء المحسنين . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) . .
إن هذة الآيات تصور حالة ، وتقرر حكما في هذه الحالة . . تصور حالة فريق من أتباع عيسى - عليه السلام - : ( الذين قالوا : إنا نصارى ) . . وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . .
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالا للشك في أنها تصور حالة معينة ، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين ، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها ، ويجعلون منها مادة للتميع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة ، وموقف هذه المعسكرات منهم . . لذلك نجد من الضروري - في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص :
إن الحالة التي تصورها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس ، قالوا : إنا نصارى . هم أقرب مودة للذين آمنوا : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) . . فمنهم من يعرفون حقيقة دين النصارى فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم . .
{ لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنّ أَقْرَبَهُمْ مّوَدّةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّا نَصَارَىَ ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لَتَجِدَنّ يا محمد أشَدّ النّاسِ عَدَاوَةٍ للذين صدّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام ، اليَهُودَ والّذِينَ أشْرَكُوا يعني عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله . وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةٍ للّذِينَ آمَنُوا يقول : ولتجدنّ أقرب الناس مودّة ومحبة . والمودّة : المفعلة ، من قول الرجل : وَدِدْتُ كذا أودّه وُدّا ووِدّا ووَدّا ومودّة : إذا أحببته . للذين آمنوا ، يقول : للذين صدّقوا الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم . الّذِينَ قالوا إنّا نَصَارَى ذَلكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحقّ واتباعه والإذعان به . وقيل : إن هذه الاَية والتي بعدها نزلت في نفر قِدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة ، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحاب له أسلموا معه .
حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خَصِيف ، عن سعيد بن جبير ، قال : بعث النجاشيّ وفدا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا . قال : فأنزل الله تعالى فيهم : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالّذِينَ أشْرَكُوا . . . إلى آخر الاَية . قال : فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه ، فأسلم النجاشيّ ، فلم يزل مسلما حتى مات . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ أخاكُمُ النّجاشِي قَدْ ماتَ ، فَصلّوا عَلَيْهِ » فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشيّ بالحبشة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشيّ ملك الحبشة فلما بلغ ذلك المشركين ، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ ، فقالوا : إنه خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها زعم أنه نبيّ ، وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم . قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون . فقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا بباب النجاشي ، فقالوا : أتأذن لأولياء الله ؟ فقال : ائذن لهم ، فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال له الرهط من المشركين : ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك ، لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها ؟ فقال لهم : ما منعكم أن تحيّوني بتحيتي ؟ فقالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة . قال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قال : يقول : هو عبد الله وكلمة من الله ألقاها إلى مريم وروح منه ، ويقول في مريم : إنها العذراء البتول . قال : فأخذ عودا من الأرض ، فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود فكره المشركون قوله ، وتغيرت وجوههم . قال لهم : هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم . قال : اقرأءوا فقرأوا ، وهنالك منهم قسيسون ورهبان وسائر النصارى ، فعرفوا كلّ ما قرأوا ، وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحقّ . قال الله تعالى ذكره : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسيّسِينَ وَرُهْبانا وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ . . . الاَية .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى . . . الاية . قال : بعث النجاشيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلاً من الحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ، ينظرون إليه ويسألونه . فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : وإنّهُمْ لا يَسْتَكبرُونَ وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ يَقُولُونَ رَبّنا آمَنّا فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ فآمنوا ، ثم رجعوا إلى النجاشيّ . فهاجر النجاشيّ معهم ، فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء في قوله : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى . . . الاية ، هم ناس من الحبشة آمنوا ، إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين .
وقال آخرون : بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان فلما بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا ، فقرأ حتى بلغ : فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ : أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحقّ مما جاء به عيسى ، ويؤمنون به وينتهون إليه ، فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم صدّقوا به وآمنوا ، وعرفوا الذي جاء به أنه الحقّ ، فأثنى عليهم ما تسمعون .
والصواب في ذلك من القول عندي أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا : إنا نصارى ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسمّ لنا أسماءهم . وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشيّ ، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحقّ ، ولم يستكبروا عنه .
وأما قوله تعالى : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا فإنه يقول : قربت مودّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين من أجل أن منهم قسيسين ورهبانا . والقسيسون : جمع قسيس ، وقد يجمع القسيس : «قُسوس » ، لأن القسّ والقسيس بمعنى واحد . وكان ابن زيد يقول في القسيس بما :
حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : القسيسين : عُبّادهم .
وأما الرّهبان ، فإنه يكون واحدا وجمعا فأما إذا كان جمعا ، فإن واحدهم يكون راهبا ، ويكون الراهب حينئذ فاعلاً من قول القائل : رَهب الله فلان ، بمعنى : خافه ، يَرْهَبُه رَهَبا ورَهْبا ، ثم يجمع الراهب رهبان ، مثل راكب وركبان ، وفارس وفرسان . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول الشاعر :
رُهْبانُ مَدْيَنَ لَوْ رأوْكِ تَنَزّلُوا ***والعُصْمُ منْ شَعَفِ العُقولِ الفادِرِ
وقد يكون الرهبان واحدا ، وإذا كان واحدا كان جمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وجُردان وجرادين . ويجوز جمعه أيضا رهابنة إذا كان كذلك . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر :
لَوْ عايَنَتْ رُهْبانَ دَيْرٍ فِي القُلَلْ ***لانحَدَرَ الرّهْبانُ يَمْشِي وَنَزَلْ
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا فقال بعضهم : عني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم ، واتبعوه على شريعته . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين عمن حدّثه ، عن ابن عباس في قوله : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا قال : كانوا نَوَاتيّ في البحر يعني مَلاّحين قال : فمرّ بهم عيسى ابن مريم ، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه . قال : فذلك قوله : قِسّيسِينَ وَرُهْبانا .
وقال آخرون : بل عنى بذلك القوم الذين كان النجاشيّ بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، قال : حدثنا عنبسة عمن حدثه ، عن أبي صالح في قوله : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا قال : ستة وستون ، أو سبعة وستون ، أو اثنان وستون من الحبشة ، كلهم صاحب صومعة ، عليهم ثياب الصوف .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا قال : بعث النجاشيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم ، فجعلوا يبكون ، فقال : هم هؤلاء .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا قال : هم رسل النجاشيّ الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلاً اختارهم الخير فالخير . فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم : يس والقُرْآنِ الحَكِيمِ فبكوا وعرفوا الحقّ ، فأنزل الله فيهم : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا ، وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، وأنزل فيهم : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . . . إلى قوله : يُؤْتَوْنَ أجْرَهْمْ مَرّتينِ بِمَا صَبرُوا .
والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله ، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة وترهيب في الديارات والصوامع ، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها ، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحقّ إذا عرفوه ، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه ، لأنهم أهل دين واجتهاد فيه ونصيحة لأنفسهم في ذات الله ، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل ومعاندة الله في أمره ونهيه وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه .