المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

هذه السورة مكية نزلت في مكة ، وتشتمل على 109 آيات ، وقد ابتدأت بالإشارة إلى مكانة الكتاب الكريم ، وما يقوله المشركون في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر الكون وآيات الله تعالى فيه ، والجزاء يوم القيامة ، وسنة الله تعالى بالنسبة للكافرين ، والتنديد عليهم في عقائدهم ، وحال الناس في الضراء والسراء ، وقدرة الله تعالى على كل شيء ، وعجز الأوثان عن أي سيء . وفيها الإشارة إلى التحدي بأن يأتوا بسورة ولو مفتراة ، وفيها التهديد الشديد بعذاب الله تعالى ، وأحوال نفوس الناس ، ومراقبة الله تعالى لأعمالهم ، وانتقلت بعد ذلك إلى التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم لألمه من كفرهم ، مع قيام الحجة القاطعة عليهم ، وسري عنه بذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فجاءت قصة نوح ، وقصة موسى وهارون وفرعون وبني إسرائيل ، ثم إشارة إلى قصة يونس ، وبها سميت السورة ، واتجه البيان في السورة من بعد ذلك إلى النبي لتمام العظة والاعتبار .

1- هذه حروف بدأ الله تعالى بها السورة ، وهو أعلم بمراده منها ، وهي مع ذلك تشير إلى أن القرآن مُكَوَّن من مثل هذه الحروف ، ومع ذلك عجزتم عن أن تأتوا بمثله ، وهذه الحروف الصوتية تثير انتباه المشركين فيستمعون إليه ، وإن اتفقوا على عدم استماع هذه الآيات الكريمة ونحوها التي هي آيات القرآن المحكم في أسلوبه ومعانيه ، الذي اشتمل على الحكمة وما ينفع الناس في أمور دينهم ودنياهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة يونس عليه الصلاة والسلام مكية وآياتها تسع ومائة إلا ثلاث آيات من قوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك . . . } إلى آخرها .

قوله تعالى : { الر } . و { آلمر } قرأ أهل الحجاز ، والشام وحفص : بفتح الراء فيهما . وقرأ الآخرون : بالإمالة . قال ابن عباس والضحاك : { آلر } أنا الله أرى ، و والمراد أنا الله أعلم وأرى ، وقال سعيد بن جبير : { الر ، وحم ، ون } حروف اسم الرحمن ، وقد سبق الكلام في حروف التهجي . { تلك آيات الكتاب الحكيم } ، أي : هذه ، وأراد بالكتاب الحكيم القرآن ، وقيل : أراد بها الآيات التي أنزلها من قبل ذلك ، ولذلك قال : { تلك } ، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث ، والحكيم : المحكم بالحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، فعيل بمعنى مفعل ، بدليل قوله :{ كتاب أحكمت آياته } [ هود-1 ] . وقيل : هو بمعنى الحاكم ، فعيل بمعنى فاعل ، دليله قوله عز وجل : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس } [ البقرة-213 ] . وقيل : هو بمعنى المحكوم ، فعيل بمعنى المفعول ، قال الحسن : حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وبالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة يونس مكية وآياتها تسع ومائة

بسم الله الرحمن الرحيم

نعود مرة أخرى إلى الحياة مع القرآن المكي ، بجوه الخاص ، وظلاله وإيقاعاته وإيحاءاته . بعدما عشنا فترة في هذه الظلال مع سورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني .

والقرآن المكي ، ولو أنه قرآن من القرآن ، يشترك مع سائره في خصائصه القرآنية العامة ؛ وفي تفرده من كل قول آخر لا يحمل الطابع الرباني الفريد العجيب ، في الموضوع وفي الأداء سواء . . إلا أن له مع ذلك جوه الخاص ، ومذاقه المعين ، الذي يعينه موضوعه الأساسي [ وهو في اختصار : حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، وحقيقة العلاقات بينهما ؛ وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه ، ويتبعوا أمره وشرعه ؛ وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء ؛ ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته ] . . كما يعينه أسلوب العرض لهذا الموضوع . وهو أسلوب موح ، عميق الإيقاع ، بالغ التأثير ؛ حيث تشترك في أداء هذا الغرض كل خصائص التعبير ، من البناء اللفظي ، إلى المؤثرات الموضوعية على النحو الذي فصلناه من قبل ، في سورة الأنعام ، والذي سنلم به هنا إن شاء الله .

ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الظلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا . . والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وتلكما في الموضوع ، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك ! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها ، وتواجه الجاهلية بها ، وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا ، وعبادة وعملا . بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ . وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود . . في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا . . إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس ، بارتفاع وضخامة في الإيقاع ، وسرعة وقوة في النبض ، ولألاء شديد في التصوير والحركة . . بينما تمضي سورة يونس ، في إيقاع رخي ، ونبض هادئ ، وسلاسة وديعة ! . . فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا . . ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، بعد كل هذا التشابه والاختلاف !

والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة . . والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة ، التي تحدد شخصيتها وملامحها . . ونحن لا نملك - في هذا التقديم - إلا تلخيص هذه المحتويات واحداً واحداً في إجمال ، حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية :

إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول اللّه - [ ص ] - ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية ؛ فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه ، وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله : ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم . أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) . . ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ، قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله . قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ، أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون ) . . ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه ? قل : فأتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) . .

وتواجه طلبهم خارقة مادية - غير القرآن - واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه . فتقرر لهم أن آية هذا الدين هي هذا القرآن ؛ وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به . وأن الآيات في يد الله ومشيئته ؛ وأن موعدهم بالجزاء يتعلق بأجل يقدره اللّه ، والنبي لا يملك شيئا فهو عبد من عباد الله . - وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحق وحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - : ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ، لننظر كيف تعملون ) . . ( ولكل أمة رسول ، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون . ويقولون : متى هذا الوعد ، إن كنتم صادقين ? قل : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ، لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ? ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ! ) . . ( ويقولون : لولا أنزل عليه آية من ربه ! فقل : إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) .

وتواجه اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - الأمر الذي يحدثهم رسول الله [ ص ] فيه ، فيكذبون بالوحي أو يتشككون فيه ؛ ويطلبون قرآناً غيره ، أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته - بينما هم سادرون في عبادة مالا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء ، على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند الله ؛ كما يزعمون لله الولد سبحانه بلا علم ولا بينة . . فتقرر لهم صفات الإله الحق وآثار قدرته في الوجود من حولهم ، وفي وجودهم هم أنفسهم ، وفيما يتقلب بهم من ظواهر الكون ، وما يتقلب بهم هم من أحوالوهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحق عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا الله . . وهذه هي القضية الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة ؛ والتي تتفرع عنها سائر محتوياتها الأخرى : إن ربكم اللّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش يدبر الأمر ، ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه ، أفلا تذكرون ? إليه مرجعكم جميعاً ، وعد اللّه حقاً ، إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون . هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، يفصل الآيات لقوم يعلمون .

( إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ) . . ( ويعبدون من دون اللّه مالا يضرهم ولا ينفعهم ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه . قل : أتنبؤن اللّه بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ? سبحانه وتعالى عما يشركون ) . . ( هو الذي يسيركم في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ، يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . . ( قل : من يرزقكم من السماء والأرض ? أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون : اللّه . فقل : أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ! فأنى تصرفون ? ) . . ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? قل : الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، فأنى تؤفكون ? قل : هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ? قل : الله يهدي للحق . أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي ? فما لكم كيف تحكمون ? وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ، إن اللّه عليم بما يفعلون ) . . ( ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض ، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) . . ( قالوا : اتخذ الله ولداً - سبحانه - هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض ، إن عندكم من سلطان بهذا ? أتقولون على الله ما لا تعلمون ? قل : إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) . . ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض . ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون . هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ) .

وتصور لهم حضور الله - سبحانه - وشهوده لكل ما يهم به البشر ، وكل ما يزاولون من نية وعمل ؛ مما يملأ الحس البشري بالرهبة والروعة ، كما يملؤه بالحذر واليقظة . . وذلك في مثل قوله تعالى في هذه السورة :

وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن . ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه . وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، إلا في كتاب مبين .

كذلك تملأ نفوسهم بالتوجس والتوقع لبأس الله في كل لحظة ، ليخرجوا من الغفلة التي ينشئها الرخاء والنعمة ؛ ولا ينخدعوا بازدهار الحياة حولهم فيأمنوا بأس الله الذي يأتي بغتة : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ، مما يأكل الناس والأنعام . حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ، وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ، فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) . . ( قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ! ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ! ) .

وتواجه اطمئنانهم للحياة الدنيا ورضاهم بها عن الآخرة ، وتكذيبهم بلقاء الله ، بتحذيرهم من هذه الطمأنينة الخادعة ، ومن الخسارة في الصفقة الدون التي يرضونها ، وتعريفهم بأن هذه الحياة الدينا إنما هي للابتلاء ، وفي الآخرة الجزاء . . ثم تواجههم بعرض مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ؛ وخاصة ما يتصل منها بتخلي الشركاء عن عبادهم ، وتبرئهم منهم إلى اللّه ، وتعذر الفداء من العذاب مهما كبر الفداء : ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون . أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ، تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم . دعواهم فيها : سبحانك اللهم . وتحيتهم فيها سلام . وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) . . ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) . . ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وترهقهم ذلة ، مالهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا . من الليل مظلما ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . ( ويوم نحشرهم جميعا ، ثم نقول للذين أشركوا : مكانكم أنتم وشركاؤكم ! فزيلنا بينهم ، وقال شركاؤهم : ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ، إن كنا عن عبادتكم لغافلين . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ، وردوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . . ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم . قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) . . ( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وقضي بينهم بالقسط ، وهم لا يظلمون ) . .

ثم تواجه ما يترتب على اضطراب تصورهم للألوهية ؛ وما يترتب على تكذيبهم بالبعث والآخرة ، وما يترتب على تكذيبهم بالوحي والنذارة ، من انطلاقهم في واقع الحياة العملية يزاولون خصائص الربوبية في التشريع لحياتهم ، والتحليل والتحريم في أرزاقهم ومعاملاتهم وفق ما تصوره لهم وثنيتهم واعتقادهم بالشركاء الذين يجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله يأخذه السدنة والكهنة ليحلوا لهم ما يشاءون ويحرموا عليهم ما يشاءون . . وهي القضية الكبرى التي تلي قضية الاعتقاد وتنبثق منها : ( قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ? قل : آلله أذن لكم ? أم على الله تفترون ? وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ? إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثرهم لا يشكرون ) .

والسورة تحتشد - في إبلاغ تلك الحقائق التي تحتويها وتثبيتها وتعميقها واستجاشة القلوب والعقول لها - بشتى المؤثرات الموحية ، التي يحفل بها الأداء القرآني الفريد في الموضوع وفي التعبير عنه سواء . وهي مؤثرات - على عمقها وحيويتها وحركتها - تناسب شخصية السورة وطبيعتها التي تحدثنا في الفقرة الأولى عنها . . وهذه نماذج منها ، نلم بها هنا إجمالا ، حتى نستعرضها في السياق تفصيلا :

تحتشد السورة بمشاهد هذا الكون وظواهره ، الموحية للفطرة البشرية بحقيقة الألوهية ، الدالة على التدبير الحكيم ، والقصد المرسوم في بناء هذا الكون وتصريفه ، وفي الموافقات المبثوثة فيه لنشأة الحياةوالأحياء ، ولحياة الكائن الإنساني وتلبية حاجاته في حياته . . وقضية الألوهية يعرضها القرآن في هذه الصورة الحية الواقعية الموحية ؛ ولا يعرضها في أسلوب الجدل الفلسفي والمنطق الذهني ، والله خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم - سبحانه - أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة ! وتجاوباً أعمق من منطق الذهن البارد الجاف ؛ وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره ؛ وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي ؛ وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب . . ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية - في القرآن - بهذه اللغة المفهومة . . وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي :

إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يدبر الأمر ، ما من شفيع إلا من بعد إذنه . ذلكم الله ربكم فاعبدوه . أفلا تذكرون ? . .

( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً ، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق ، يفصل الآيات لقوم يعلمون . إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ) . .

( قل : من يرزقكم من السماء والأرض ؛ أم من يملك السمع والأبصار ? ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ? ومن يدبر الأمر ? فسيقولون الله ، فقل : أفلا تتقون ? فذلكم الله ربكم الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ? فأنى تصرفون ? ) .

( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) . .

( قل : انظروا ماذا في السماوات والأرض ، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) . .

وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم ؛ ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير ، والتصريف والتسيير . . ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب ؛ كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته ! وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد :

( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما . فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ! كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ! ) . .

( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا ! قل : الله أسرع مكرا ، إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك ، وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . .

وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين . آناً في صورة الخبر ، وآنا في صورة قصص بعض الرسل .

وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين ؛ وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم . فلا تغرنهم الحياة الدنيا ، فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء . أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس ، ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم !

( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا . كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) . .

( واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون . فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله ، وأمرت أن أكون من المسلمين . فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا . فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) . .

( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : إن هذا لسحر مبين . قال موسى : أتقولون للحق لما جاءكم . أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون ) . . إلى قوله تعالى في نهاية القصة : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا - حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين . آلآن ? وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ? ! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون . .

( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ? قل : فانتظروا إني معكم من المنتظرين . ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ، كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ) . .

وتحتشد بمشاهد القيامة ، تعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين ، عرضا حيا متحركا مؤثرا عميق الإيقاع في القلوب . فتعرض مع مشاهد المصارع في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين ، صفحتي الحياة في الدارين ، وبدء المطاف ونهايته حيث لا مهرب ولا فوت :

( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وترهقهم ذلة ، ما لهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .

( ويوم نحشرهم جميعا ، ثم نقول للذين أشركوا : مكانكم أنتم وشركاؤكم ! فزيلنا بينهم ، وقال شركاؤكم : ما كنتم إيانا تعبدون . فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين . هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ، وردوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . .

( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ! وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) . .

ومن المؤثرات التي تحتشد بها السورة تحدي المشركين المكذبين بالوحي ، أن يأتوا بآية من مثل هذا القرآن . . ثم توجيه الرسول [ ص ] بعد دعوتهم وتحديهم ، إلى تركهم ومصيرهم - وهو مصير المكذبين الظالمين من قبلهم - والمضي في طريقه المستقيم لا يحفلهم ولا يأبه لشأنهم . . والتحدي ثم المفاصلة والاستعلاء على هذا النحو مما يوقع في قلوبهم أن هذا النبي واثق من الحق الذي معه ، واثق من ربه الذي يتولاه . وهذا بدوره يهز القلوب ويزلزل العناد :

( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ؛ ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون افتراه ? قل : فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله . كذلك كذب الذين من قبلهم . فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) . .

قل : يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله . ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين . وأن أقم وجهك للدين حنيفا ، ولا تكونن من المشركين . ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده ، وهو الغفور الرحيم . . قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم . فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، وما أنا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله ، وهو خير الحاكمين . .

وبهذه المفاصلة تختم السورة ويختم هذا الحشد من المؤثرات التي سقنا نماذج منها لا تستقصي ما في السورة من هذا المنهج القرآني الفريد في مخاطبة القلوب والعقول .

هذه السورة نزلت بعد سورة الإسراء . وقد حمي الجدل من المشركين حول صدق الوحي ، وحول هذا القرآن ، وما يواجههم به من تسفيه لعقائدهم ، ومن تنديد بجاهليتهم ، ومن كشف لما في كيانها من تناقض واضح . تناقض بين ما يعتقدونه من أن الله - سبحانه - هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المدبر المتصرف في كل شيء ، القادر على كل شيء - وهي الجذور الباقية من حنيفية إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وبين ما يدعونه لله سبحانه من الولد ، حيث كانوا يدعون أن الملائكة بنات الله ، ويتخذونهم شفعاء عند الله ، ويعبدون تماثيلهم من الأصنام على هذا الاعتبار ! ثم ما ينشأ عن هذا الاضطراب العقيدي من آثار في حياتهم ؛ وفي أوله ما كان يزاوله الكهان والرؤساء فيهم من تحريم وتحليل في الثمار والأنعام ؛ وجعل نصيب منها لله ونصيب لآلهتهم المدعاة !

وعندئذ كانوا يواجهون حملة القرآن على عقائدهم المهلهلة وجاهليتهم المتناقضة بأن يكذبوا رسول الله [ ص ] في نبوته والوحي إليه من ربه ؛ ويزعمون أنه ساحر ! وأن يطلبوا منه أن يأتيهم بخارقة تدل على أن الله أوحى إليه ؛ ويفتتنون في طلب هذه الخوارق على ما ورد من ذلك في سورة الإسراء مما حكاه القرآن الكريم عنهم . في مثل قوله تعالى : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ! قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا ? . . وكما قال تعالى في هذه السورة : ( ويقولون : لولا أنزل عليه آية من ربه ! ! فقل : إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) . .

كذلك كانوا يطلبون من رسول الله [ ص ] أن يأتيهم بقرآن غير هذا ، لا يتعرض لآلهتهم وعقائدهم وجاهليتهم ؛ كي يستجيبوا له ويؤمنوا به ! كما قال الله عنهم في هذه السورة : ( وإذا تتلى عليهمآياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) . . وكان الرد على مثل هذا التعسف الساذج : ( قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ? فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? إنه لا يفلح المجرمون ) .

نزلت السورة في هذا الجو . وظاهر من سياقها أنها لحمة واحدة ، تواجه واقعا متصلا ؛ حتى ليصعب تقسيمها إلى قطاعات متميزة . وهذا ما ينفي الرواية التي أخذ بها المشرفون على المصحف الأميري من كون الآيات 40 ، 94 ، 95 ، 96 مدنية . . فهذه الآيات متشابكة مع السياق ، وبعضها لا يتسق السياق بدونه أصلا !

والترابط في سياق السورة يوحد بين مطلعها وختامها . فيجيء في المطلع قوله تعالى : ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم . أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ، عند ربهم قال الكافرون ! إن هذا لساحر مبين ) . . ويجيء في الختام : ( واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) . . فالحديث عن قضية الوحي هو المطلع وهو الختام . كما أنه هو الموضوع المتصل الملتحم بين المطلع والختام .

كذلك يبدو الترابط بين المؤثرات المختلفة في السورة . نذكر مثالا لذلك الرد على استعجالهم بالوعيد ، وتهديدهم بأنه يقع بغتة ، حيث لا ينفعهم وقتها إيمان ولا توبة . . ثم يجيء القصص بعد ذلك في السورة ، مصورا ذلك المشهد بعينه في مصارع الغابرين .

في الرد عليهم يقول : ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ، إلا ما شاء الله ، لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . قل : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ، ماذا يستعجل منه المجرمون ? أثم إذا ما وقع آمنتم به ? آلآن وقد كنتم به تستعجلون ? ! ثم قيل للذين ظلموا : ذوقوا عذاب الخلد ، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون . .

وفي نهاية قصة موسى في السورة يجيء هذا المشهد ، وكأنه الصورة الواقعية لذلك الوعيد : 10 وزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا ، حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل ، وأنا من المسلمين . آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون . .

ثم تتساوق في ثنايا السورة بين ذلك الرد وهذه القصة مشاهد المباغتة بأخذ الله للمكذبين ؛ من حيث لا يتوقعون ولا يدرون ؛ فترسم جوا واحدا متناسقا يبدو فيه الترابط بين المشاهد والموضوعات والأداء سواء .

كذلك يجيء في حكاية قول المشركين عن رسول الله [ ص ] في أول السورة : ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) . . ثم يجيء في حكاية فرعون وملئه عن موسى - عليه السلام - : ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : إن هذا لسحر مبين ) . .

وقد سميت السورة سورة يونس . بينما قصة يونس فيها لا تتجاوز إشارة سريعة على هذا النحو : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ! إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، ومتعناهم إلى حين ) . . ولكن قصة يونس - مع هذا - هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم ؛ فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة ؛ وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب ، فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم ، كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين .

وهكذا نجد الترابط بكل ألوانه في سياق السورة من مطلعها إلى ختامها ، مما يجعلها وحدة متكاملة متشابكة كما أسلفنا .

وواضح من المقتطفات التي سبقت من نصوص السورة - في هذا التقديم - أن القضية الأساسية التي يتكئ عليها السياق كله هي قضية الألوهية والعبودية ، وتجلية حقيقتهما ، وبيان مقتضيات هذه الحقيقة في حياة الناس . أما سائر القضايا الأخرى التي تعرضت لها السورة كقضية الوحي ، وقضية الآخرة ، وقضية الرسالات السابقة . . فقد جاءت في صدد إيضاح تلك الحقيقة الكبرى وتعميقها وتوسيع مدلولها ؛ وبيان مقتضياتها في حياة البشر واعتقادهم وعبادتهم وعملهم .

والواقع أن تلك القضية الكبرى هي قضية القرآن كله ، وقضية القرآن المكي بصفة خاصة . فتعريف الألوهية الحقة ؛ وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية ؛ وتعريف العبودية وحدودها التي لا تتعداها ؛ والوصول من هذا كله إلى تعبيد الناس لإلههم الحق ؛ واعترافهم بالربوبية والقوامة والحاكمية له وحده . . هذا هو الموضوع الرئيسي للقرآن كله . . وما وراءه إن هو إلا بيان لمقتضيات هذه الحقيقة الكبيرة في حياة البشر بكل جوانبها .

وهذه الحقيقة الكبيرة تستحق - عند التأمل العميق - كل هذا البيان الذي هو موضوع هذا القرآن . . تستحق أن يرسل الله من أجلها رسله جميعا ، وأن ينزل بها كتبه جميعا : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) . .

إن حياة البشر في الأرض لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وتصورهم ، واستقامت كذلك في حياتهم وواقعهم .

لا تستقيم أولاً إزاء هذا الكون الذي يعيشون فيه ، ويتعاملون مع أشيائه وأحيائه . . وهم حين يضطرب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية يروحون يؤلهون الأشياء والأحياء - بل يؤلهون الأشباح والأوهام ! - ويُعبدون أنفسهم لها في صور مضحكة ، ولكنها بائسة ! ، ويقدمون لها - بوحي من الكهان والمنتفعين بأوهام العوام في كل زمان وفي كل مكان - خلاصة كدهم من الرزق الذي أعطاهم اللّه . بل إنهم ليقدمون لها فلذات أكبادهم كما يقدمون لها أرواحهم في بعض الأحيان . . وهي أشياء وأحياء لا حول لها ولا قوة ، ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً . . وتضطرب حياتهم كلها ، وهم يعيشون بين الهلع والجزع من هذه الأشياء والأحياء ؛ وبين التقرب والزلفى لمخلوقات مثلهم ، عبوديتها للّه كعبوديتهم . . وذلك كما قال الله تعا : 136-5 ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا ! فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ! ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم - ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون - وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ! - سيجزيهم بما كانوا يفترون - وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ! سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم - قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ، قد ضلوا وما كانوا مهتدين .

فهذه نماذج من تكاليف العبودية لغير الله في الأموال والأولاد ؛ التي تقدم لمخلوقات من خلق الله . أشياء أو أحياء ما أنزل الله بها من سلطان !

كذلك لا تستقيم حياة البشر إزاء بعضهم البعض بدون استقامة حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية في اعتقادهم وتصورهم ، وفي حياتهم وواقعهم . . إن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته الحقيقية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في ظل اعتقاد أو نظام لا يفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والحاكمية ؛ ولا يجعل له وحده حق الهيمنة على حياة الناس في الدنيا والآخرة ، في السر والعلانية ؛ ولا يعترف له وحده بحق التشريع والأمر والحاكمية في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية . .

والواقع البشري على مدار التاريخ يثبت هذه الحقيقة ويصدقها . فما من مرة انحرف الناس عن الدينونة لله وحده - اعتقاداً ونظاماً - ودانوا لغير الله من العباد - سواء كانت هذه الدينونة ، بالاعتقاد والشعائر أم كانت باتباع الأحكام والشرائع - إلا كانت العاقبة هي فقدانهم لإنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم !

والتفسير الإسلامي للتاريخ ؛ يرد ذل المحكومين للطواغيت ، وسيطرة الطواغيت عليهم ، إلى عامل أساسي هو فسوق المحكومين عن دين اللّه ، الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية ، ومن ثم يفرده بالربوبية والسلطان والقوامة والحاكمية . فيقول الله سبحانه عن فرعون وقومه : ( ونادى فرعون في قومه قال : يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ? فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ، أو جاء معه الملائكة مقترنين ! فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) . . فيرد استخفاف فرعون لهم إلى أنهم فاسقون . فما يستخف الحاكم الطاغي قومه وهم مؤمنون بالله موحدون ؛ لا يدينون لسواه بربوبية تزاول القوامة والحاكمية !

ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده ، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته ، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره . العبودية ، التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم ؛ والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة !

لقد هربت أوربا من الله - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف ! - وثارت على الله - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة ! ثم ظن الناس هناك أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية [ الديمقراطية ] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية ، والأوضاع النيابية البرلمانية ، والحريات الصحفية ، والضمانات القضائية والتشريعية ، وحكم الأغلبية المنتخبة . . إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة . . ثم ماذا كانت العاقبة ? كانت العاقبة هي طغيان " الرأسمالية " ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات وكل تلك التشكيلات ، إلى مجرد لافتات ، أو إلى مجرد خيالات ! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال ، فتملك معه الأغلبية البرلمانية ! والدساتير الوضعية ! والحريات الصحفية ! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم ، في معزل عن الله سبحانه ! ! !

ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها " رأس المال " و " الطبقة ! " إلى الأنظمةالجماعية ! فماذا فعلوا ? لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة " الرأسماليين " الدينونة لطبقة " الصعاليك " ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان ! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين !

وفي كل حالة وفي كل وضع وفي كل نظام دان البشر فيه للبشر ، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة . دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حالة !

إنه لا بد من عبودية ! فإن لا تكن لله وحده ، تكن لغير الله . . والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء . . والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم . . ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية !

من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله - سبحانه - وفي كتبه . . وهذه السورة نموذج من تلك العناية . . فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة . ولكنها تتعلق بالإنسان كله في كل زمان وفي كل مكان ؛ وتتعلق بالجاهليات كلها . . جاهليات ما قبل التاريخ . وجاهليات التاريخ . وجاهلية القرن العشرين . وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد !

ومن أجل ذلك كان جوهر الرسالات والكتب هو تقرير ألوهية الله - سبحانه - وربوبيته وحده للعباد : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) .

وكان ختام هذه السورة التي نواجهها :

قل : يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ؛ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين . وأن أقم وجهك للدين حنيفا ، ولا تكونن من المشركين . ولا تدع من دون الله ، ما لا ينفعك ولا يضرك ، فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يردك بخير فلا راد لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده ، وهو الغفور الرحيم . قل : يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها . وما أنا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحى إليك ، واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين . .

وحسبنا هذا في التعريف بالسورة ؛ لنأخذ في استعراض نصوصها بالتفصيل :

1

( ألر تلك آيات الكتاب الحكيم . . )

من هذه الحروف وأمثالها ، تتألف آيات الكتاب الحكيم ، الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به إلى الرسول . وهذه الحروف في متناول أيديهم ، ثم لا يبلغون أن يؤلفوا منها آية واحدة من مثل آيات الكتاب - كما يتحداهم في هذه السورة - ولا يقودهم هذا إلى التدبر ، وإدراك أن الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول ، وأنه لولا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزا عن تأليف آية واحدة ، من هذه الحروف المبذولة للجميع .

( تلك آيات الكتاب الحكيم ) . .

الحكيم الذي يخاطب البشر بما يناسب طبائع البشر ، ويعرض في هذه السورة جوانب منها صادقة باقية ، نجد مصداقها في كل جيل .

والحكيم الذي ينبه الغافلين إلى تدبر آيات الله في صفحة الكون وتضاعيفه . في السماء والأرض . وفي الشمس والقمر . وفي الليل والنهار . . وفي مصارع القرون الأولى . وفي قصص الرسل فيهم . . وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود . .