قوله تعالى : { أو يأخذهم على تخوف } ، والتخوف : النقص ، أي : ينقص من أطرافهم ونواحيهم شيئا بعد شيء حتى يهلك جميعهم ، يقال : تخوفه الدهر وتخونه : إذا نقصه وأخذ ماله وحشمه . ويقال : هذا لغة بني هذيل . وقال الضحاك والكلبي : هو من الخوف أي : يعذب طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم . { فإن ربكم لرؤوف رحيم } ، حين لم يعجل بالعقوبة .
{ 45 - 47 ْ } { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ْ }
هذا تخويف من الله تعالى لأهل الكفر والتكذيب وأنواع المعاصي ، من أن يأخذهم بالعذاب على غرَّة وهم لا يشعرون ، إما أن يأخذهم العذاب من فوقهم ، أو من أسفل منهم بالخسف وغيره ، وإما في حال تقلُّبهم وشغلهم وعدم خطور العذاب ببالهم ، وإما في حال تخوفهم من العذاب ، فليسوا بمعجزين لله في حالة من هذه الأحوال ، بل هم تحت قبضته ونواصيهم بيده . ولكنه رءوف رحيم لا يعاجل العاصين بالعقوبة ، بل يمهلهم ويعافيهم ويرزقهم وهم يؤذونه ويؤذون أولياءه ، ومع هذا يفتح لهم{[460]} أبواب التوبة ، ويدعوهم إلى الإقلاع من السيئات التي تضرهم ، ويعدهم بذلك أفضل الكرامات ، ومغفرة ما صدر منهم من الذنوب ، فليستح المجرم من ربه أن تكون نعم الله عليه نازلة في جميع اللحظات{[461]} ومعاصيه صاعدة إلى ربه في كل الأوقات ، وليعلم أن الله يمهل ولا يهمل وأنه إذا أخذ العاصي أخذه أخذ عزيز مقتدر ، فليتب إليه ، وليرجع في جميع أموره إليه فإنه رءوف رحيم . فالبدار البدار إلى رحمته الواسعة وبره العميم وسلوك الطرق الموصلة إلى فضل الرب الرحيم ، ألا وهي تقواه والعمل بما يحبه ويرضاه .
وقوله { على تخوف } أي على جهة التخوف ، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
تخوف السير منها تامكاً فرداً . . . كما تخوف عود النبعة السفن{[7316]}
فالسفن : الِمبرد ، ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى «التخوف » في هذه الآية ، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك ، حتى سمع هذا البيت ، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة «التخوف » ، فقال له يا أمير المؤمنين : إن أبي يتخوفني مالي ، فقال عُمر : الله كبر { أو يأخذهم على تخوف } ، ومنه قول طرفة :
وجامل خوف من نبيه . . . زجرُ المعلى أبداً والسفيح{[7317]}
ويروى من نبته ، ومنه قول الآخر : [ الوافر ]
ألأم على الهجاء وكل يوم . . . تلاقيني من الجيران غول
تخوف غدرهم مالي وهدي . . . سلاسل في الحلوق لها صليل{[7318]}
يريد الأهاجي ، ومنه قول النابغة : [ الطويل ]
تخوفهم حتى أذل سراتهم . . . بطعن ضرار بعد قبح الصفائح{[7319]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين : أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذاً ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء ، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه ، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت ، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها ، ويؤيد هذا قوله { فإن ربكم لرؤوف رحيم } أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد ، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع : والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى ، ثم كذلك حتى يهلك الكل ، وقالت فرقة : «التخوف » هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به .
والتخوّف في اللغة يأتي مصدر تخوّف القاصر بمعنى خاف ومصدر تخوّف المتعدّي بمعنى تنقّص ، وهذا الثاني لغة هذيل ، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن .
فللآية معنيان : إما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة توقّع نزول العذاب بأن يريهم مقدماته مثل الرعد قبل الصّواعق ، وإما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة تنقّص من قبل أن يتنقّصهم قبل الأخذ بأن يكثر فيهم الموتان والفقر والقحط .
وحرف { على } مستعمل في التمكّن على كلا المعنيين ، ومحل المجرور حال من ضمير النصب في { يأخذهم } وهو كقولهم : أخذه على غرّة .
روى الزمخشري وابن عطية يزيد أحدهما على الآخر : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خفي عليه معنى التخوّف في هذه الآية وأراد أن يكتب إلى الأمصار ، وأنه سأل الناس وهو على المنبر : ما تقولون فيها ؟ فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا . التخوّف : التنقّص . قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم ، قال شاعرنا :
تخوّف الرحل منها تامكا قردا *** كما تخوّف عودَ النبعة السفن{[257]}
فقال عمر رضي الله عنه : « أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ ، قالوا وما ديواننا ؟ قال شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم » .
وتفرّع { فإن ربكم لرؤوف رحيم } على الجمل الماضية تفريع العلّة على المعلّل . وحرف ( إن ) هنا مفيد للتعليل ومغن عن فاء التفريع كما بيّنه عبد القاهر ، فهي مؤكدة لما أفادته الفاء . والتّعليل هنا لما فهم من مجموع المذكورات في الآية من أنه تعالى قادر على تعجيل هلاكهم وأنه أمهلهم حتى نسوا بأس الله فصاروا كالآمنين منه بحيث يستفهم عنهم : أهم آمنون من ذلك أم لا .