7- واذكروا - أيها المؤمنون - وعد الله تعالى لكم أن ينصركم على إحدى الطائفتين التي فيها الشوكة والقوة ، وأنتم تودون أن تدركوا الطائفة الأخرى التي فيها المال والرجال ، وهي قافلة أبى سفيان ، فاخترتم المال ولا شوكة فيه ، ولكن الله تعالى يريد أن يثبت الحق بإرادته وقدرته وكلماته المعلنة للإرادة والقدرة ، ويستأصل الكفر من بلاد العرب بنصر المؤمنين{[71]} .
قوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } ، قال ابن عباس ، وابن الزبير ومحمد ابن إسحاق ، والسدي : أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش ، في أربعين راكباً من كفار قريش ، فيهم : عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل الزهري ، وفيها تجارة كثيرة ، وهي اللطيمة ، حتى إذا كانوا قريباً من بدر ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فندب أصحابه إليه ، وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله تعالى أن ينفلكموها ، فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة . وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي ، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني ، وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم على ما أحدثك . قال لها : وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت ، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها قلقة ، فقال العباس : والله إن هذه لرؤيا رأيت ، فاكتميها ولا تذكريها لأحد . ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان له صديقاً فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش . قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل ، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، قال : فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب ، متى حدثت هذه النبية فيكم ؟ قلت : وما ذاك ؟ قال : الرؤيا التي رأت عاتكة ؟ قلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبد المطلب ، أما رضيتم أن تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك ما قالت حقاً فسيكون ، وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء ، نكتب عليكم كتاباً إنكم أكذب أهل بيت في العرب . فقال العباس : والله ما كان مني إليه كبير إلا أني حجدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئاً ، ثم تفرقنا ، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت . قال : قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كبير ، وأيم الله ، لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفيكنه . قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه ، قال : فدخلت المسجد ، فرأيته ، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلاً خفيفاً ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد . قال : قلت في نفسي : ماله لعنه الله ؟ أكل هذا فرقاً مني أن أشاتمه ؟ قال : فإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، سمع صوت ضمضم بن عمرو ، وهو يصرخ ببطن الوادي وافقاً على بعيره ، وقد جدع بعيره وحول رحله ، وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، ولا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعاً ، فلم يتخلف من أشراف قريش أحد ، إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة بن الحارث ، فقالوا : نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر ، فقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، في ليال مضت من شهر رمضان ، حتى إذا بلغ وادياً يقال له ذا قرد ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عيناً للقوم ، فأخبره بهم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى عبد الله بن أريقط فأتاه بخبر القوم ، وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل جبريل وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريشاً ، وكانت العير أحب إليهم ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، إمض لما أراك الله فنحن معك ، فوالله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ، يعني مدينة الحبشة ، فجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل . قال : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبر عند الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشط ذلك . ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ، قال ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، قال ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا ، قال : فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فذلك قوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } أي : الفريقين إحداهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير .
قوله تعالى : { وتودون } ، أي : تريدون .
قوله تعالى : { أن غير ذات الشوكة تكون لكم } ، يعني العير التي ليس فيها قتال . والشوكة : الشدة والقوة ، ويقال السلاح .
قوله تعالى : { ويريد الله أن يحق الحق } أي يظهره ويعليه .
قوله تعالى : { بكلماته } بأمره إياكم بالقتال . وقيل : بعداته التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه .
قوله تعالى : { ويقطع دابر الكافرين } ، أي : يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، يعني : كفار العرب .
وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام ، قافلة كبيرة ، . فلما سمعوا برجوعها من الشام ، ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، . فخرج معه ثلاثمائة ، وبضعة عشر رجلا معهم سبعون بعيرا ، يعتقبون عليها ، ويحملون عليها متاعهم ، . فسمعت بخبرهم قريش ، فخرجوا لمنع عيرهم ، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل والرجال ، يبلغ عددهم قريبا من الألف .
فوعد اللّه المؤمنين إحدى الطائفتين ، إما أن يظفروا بالعير ، أو بالنفير ، . فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين ، ولأنها غير ذات شوكة ، . ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا .
أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم ، . وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فينصر أهله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أي : يستأصل أهل الباطل ، ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم .
قال الإمام أبو جعفر الطبري : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه " الكاف " في قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فقال بعضهم : شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين ، اتقاؤهم ربهم ، وإصلاحهم ذات بينهم ، وطاعتهم الله ورسوله .
ومعنى هذا أن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم ، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم{[12667]} فقسمها على العدل والتسوية ، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة - وهم النفير{[12668]} النفير الذين خرجوا لنصر دينهم ، وإحراز عيرهم - فكان عاقبة ، كراهتكم للقتال - بأن قدَّره لكم ، وجَمَع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد - رَشَدَا وهدى ، ونصرا وفتحا ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ]
قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك هم كارهون للقتال ، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم ، ثم روى نحوه عن مجاهد أنه قال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } قال : كذلك يجادلونك في الحق .
وقال السُّدِّي : أنزل الله في خروجه{[12669]} إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } لطلب المشركين { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ }
وقال بعضهم : يسألونك عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك يوم بدر فقالوا : أخرجتنا للعِير ، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له .
قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان ، التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام ، فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خَف منهم ، فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر ، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، فبعث ضَمْضَم بن عمرو نذيرا إلى مكة ، فنهضوا في قريب من ألف مُقَنَّع ، ما بين التسعمائة إلى الألف ، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا ، وجاء النفير فوردوا ماء بدر ، وجمع الله المسلمين والكافرين على غير ميعاد ، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين
ونصرهم على عدوهم ، والتفرقة{[12670]} بين الحق والباطل ، كما سيأتي بيانه .
والغرض : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير ، أوحى الله إليه يَعدهُ إحدى الطائفتين : إما العير وإما النَّفير ، ورغب كثير من المسلمين إلى العير ؛ لأنه كسب بلا قتال ، كما قال تعالى : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }
قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة : إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا ؟ " فقلنا : نعم ، فخرج وخرجنا ، فلما سِرْنا يوما أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ، ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ؟ " فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو : إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]قال : فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ، قال : فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } وذكر تمام الحديث{[12671]}
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن لهيعة ، بنحوه .
ورواه ابن مَرْدُوَيْه أيضًا من حديث محمد بن عمرو بن عَلْقَمة بن وقاص الليثي ، عن أبيه ، عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، حتى إذا كان بالرَّوْحاء ، خطب الناس فقال : " كيف تَرَون ؟ " فقال أبو بكر : يا رسول الله ، بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا . قال : ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال عمر مثل قول أبي بكر . ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد ؟ فو الذي أكرمك [ بالحق ]{[12672]} وأنزل عليك الكتاب ، ما سلكتها قط ولا لي بها علم ، ولئن سرت [ بنا ]{[12673]} حتى تأتي " بَرْك الغماد " من ذي يمن لنسيرن معك ، ولا نكون كالذين قالوا لموسى { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر ، وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك ، فامض له ، فَصِلْ حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } الآيات .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو ، وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر ، أمر الناس فعبئوا للقتال ، وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }
وقال مجاهد : يجادلونك في الحق : في القتال . وقال محمد بن إسحاق : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ [ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ] }{[12674]} أي : كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم .
وقال السُّدِّي : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي : بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به .
قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى بذلك المشركين .
حدثني يونس ، أنبأنا ابن وَهْب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : هؤلاء المشركون ، جادلوه في الحق { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } حين يدعون إلى الإسلام { وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : وليس هذا من صفة الآخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر .
ثم قال ابن جرير : ولا معنى لما قاله ؛ لأن الذي قبل قوله : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } خبر عن أهل الإيمان ، والذي يتلوه خبر عنهم ، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين .
وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق ، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام ، والله أعلم . .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن أبي بكير وعبد الرزاق قالا حدثنا إسرائيل ، عن سِمَال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب - قال عبد الرزاق : وهو أسير في وثاقه - ثم اتفقا : إنه لا يصلح لك ، قال : ولم ؟ قال : لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك{[12675]}
إسناد جيد ، ولم يخرجه{[12676]}
ومعنى قوله تعالى { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي : يحبون أن الطائفة التي لا حَدَّ لها ولا منعة ولا قتال ، تكون لهم وهي العير { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي : هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ، ليُظَفِّرَكم بهم ويظهركم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالبا على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي دبركم بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ] [ البقرة : 216 ] }{[12677]}
وقال محمد بن إسحاق ، رحمه الله : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس - كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر - قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام نَدب المسلمين إليهم ، وقال : " هذه عيرُ قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنْفلكُموها " فانتدب الناسُ ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا ، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان : أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فَحَذِرَ عند ذلك ، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى أهل مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له " ذَفرَان " ، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل ، وأتاه الخبر عن قُريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام عمر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[12678]} مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى " بَرْك الغِماد " - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشيروا علي أيها الناس " - وإنما يريد الأنصار - وذلك أنهم كانوا عَدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذِمَامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمَمنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة ، من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : " أجل " قال : فقال : فقد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت . فوالذي بعثك بالحق ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر عند الحرب ، صُدُق عند اللقاء ، ولعل الله [ أن ]{[12679]} يريك منا ما تَقَرّ به عينك ، فسِرْ بنا على بركة الله . فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه ذلك ، ثم قال : " سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " {[12680]}
وروى العَوْفي عن ابن عباس نحو هذا ، وكذلك قال السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف والخلف ، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق .
الأحسن أن تكون { وإذ يعدكم الله } معطوفاً على { كما أخرجك } [ الأنفال : 5 ] عطفَ المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبهاً به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى : كاخراجك اللَّهُ من بيتك وكوقتتِ يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذا أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتُؤَول بمصدر ، والتقدير : وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين ، ف { إذ } اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه ، وجعَل صاحب « الكشاف » { إذْ } مفعولاً لفعل ( اذكر ) محذوف شأن { إذْ } الواقعة في مفتتح القِصص ، فيكون عطفُ جملةِ الأمر المقدرِ على جملة { قل الأنفال لله } [ الأنفال : 1 ] والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطأ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم .
و« الطائفة » الجماعة من الناس ، وتقدم عند قوله { فلتقم طائفةٌ منهم معك } في سورة [ النساء : 102 ] .
وجملة : { أنّها لكم } في تأويل مصدر ، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين ، أي : يعدكم مصيرَ إحدى الطائفتين لكم ، أي كونها معطاة لكم ، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة .
واللام للملك وهو هنا ملك عُرفي ، كما يقولون كان يومُ كذا لبني فلان على بني فلان ، فيعرف أنه كان لهم فيه غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة .
{ وتَودون } إما عطف على { يعَدكم } أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم ، وإما في موضع الحال والواو واو الحال ، أي يعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف { وإذ يعدكم } ، مجرور الكاف في قوله : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } [ الأنفال : 5 ] فهو مما شبه به حال سُؤالهم عَن الأنفال سؤالاً مشوباً بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها .
و« الوُد » المحبة و { ذات الشوكة } صاحبة الشوكة ووقع { ذات } صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة ، أي الطائفة التي لا تستطيع القتال .
و { الشوكة } أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبَر ، فإذا نزغت جلد الإنسان أدْمته أو آلمته ، وإذا عَلِقَت بثوب أمسكَتْه ، وذلك مثل ما في ورق العَرفج ، ويقال هذه شجرة شائكة ، ومن الكناية عن ظهور الشر قولُهم : « إن العَوسج قد أوْرق » ، وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها .
وشاع استعارة الشوكة للبأس ، يقال : فلان ذو شوكة ، أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للبَاس في قولهم : أبدى قَرنه ، والناب أيضاً في قولهم : كشّر عن نابه ، وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم .
وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بانصراف عِير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر ، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين ، أي إما العِير وإمّا النفير وعداً معلقاً على اختيارهم إحداهما ، ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعِير أم يقصدون نفير قريش ، فقال الناس : إنما خرجنا لأجل العِير ، وراموا اللحاق بالعِير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش ، وكانت العِير لا تشتمل إلا على أربعين رجلاً وكان النفير فيما قيل يشتمل على ألف رجل مسلّح ، فذلك معنى قوله تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } أي تودون غنيمة بدون حرب ، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العِير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية ، أمر الله بها نبيّه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أُعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة .
وقوله : { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } عطف على جملة { وتودون } على احتمالي أن واوَها للعطف أو للحال ، والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم ، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم ، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم . فهذا تلطف من الله بهم .
والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات . فهذا كقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] أي يسَّر بكم .
ومعنى { يُحق الحق } : يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال : حق الشيء ، إذا ثبت قال تعالى : { أفمن حَق عليه كلمة العذاب } [ الزمر : 19 ] .
والمراد بالحق . هنا : دين الحق وهو الإسلام ، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله : { حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ } [ الزخرف : 29 ] الآية .
وإحقاقه باستيصال معانديه ، فأنتم تريدون نفعاً قليلاً عاجلاً ، وأراد الله نفعاً عظيماً في العاجل والآجل . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .