{ يسبح لله ما في السماوات والأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير } قال ابن عباس : إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً . وروينا عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام طبع كافرا " . وقال جل ذكره { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً }( نوح- 27 ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد ، عن عبد الله بن أبي بكر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وكل الله بالرحم ملكاً فيقول : أي رب نطفة أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال : يا رب أذكر أم أنثى أشقى أم سعيد ؟ فما الرزق فما الأجل ؟ فيكتب كذلك في بطن أمه " . وقال جماعة : معنى الآية : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، لأن الله تعالى ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم ، فقال : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } كما قال الله تعالى : { والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه }( النور- 45 ) والله خلقهم والمشي فعلهم . ثم اختلفوا في تأويلها : فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : { فمنكم كافر } في حياته مؤمن في العاقبة ، { ومنكم مؤمن } في حياته كافر في العاقبة . وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب . وقيل : فمنكم كافر بأن الله تعالى خلقه ، وهو مذهب الدهرية ، ومنكم مؤمن بأن الله خلقه . وجملة القول فيه : أن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسبا ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسبا ، فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار ، وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته ، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان ، لأن الله تعالى أراد ذلك منه ، وقدره عليه ، وعلمه منه ، والكافر بعد خلق الله تعالى إياه يختار الكفر ، لأن الله تعالى أراد ذلك منه ، وقدره عليه ، وعلمه منه . وهذا طريق أهل السنة والجماعة من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر .
وقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } أي : هو الخالق لكم على هذه الصفة ، وأراد منكم ذلك ، فلا بد من وجود مؤمن وكافر ، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، وهو شهيد على أعمال عباده ، وسيجزيهم بها أتم الجزاء ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
هذا تقرير لما أفاده قوله : { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض } [ التغابن : 1 ] ، وتخلصٌ للمقصود منه على وجه التصريح بأن الذين أشركوا بالله قد كفروا بنعمته وبخلقهم زيادة على جحدهم دلائل تنزهه تعالى عن النقص الذي اعتقدوه له . ولذلك قدم { فمنكم كافر } على { ومنكم مؤمن } لأن الشق الأول هو المقصود بهذا الكلام تعريضاً وتصريحاً .
وأفاد تعريف الجزأين من جملة { هو الذي خلقكم } قصر صفة الخالقية على الله تعالى ، وهو قصر حقيقي قصد به الإِشارة بالكناية بالرد على المشركين إذ عمدوا إلى عبادة أصنام يعلمون أنها لم تخلقهم فَما كانت مستحقة لأن تعبد ، لأن العبادة شكر . قال تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] .
والخطاب في قوله : { خلقكم } لِجميع الناس الذين يدعوهم القرآن بقرينة قوله : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ، فإن الناس لا يعْدون هذين القسمين .
والفاء في { فمنكم كافر } عاطفة على جملة { هو الذي خلقكم } وليست عاطفة على فعل { خلقكم } وهي للتفريع في الوقوع دون تسبب .
ونظيره قوله : { وجعلنا في ذريتهما النبوءة والكتاب فمنهم مهتدٍ وكثير منهم فاسقون } [ الحديد : 26 ] ومثل هذا التفريع يستتبع التعجيب من جري أحوال بعض الناس على غير ما يقتضيه الطبع { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] فجملة { فمنكم كافر } هي المقصود من التفريع ، وهو تفريع في الحصول . وقدم ذكر الكافر لأنه الأهم في هذا المقام كما يشير إليه قوله تعالى في { ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل } [ التغابن : 5 ] .
وجملة { ومنكم مؤمن } تتميم وتنويه بشأن أهل الإِيمان ومضادَّة حالهم لحال أهل الكفر ومقابلة الحال بالحال .
وقوله : { والله بما تعملون بصير } تتميم واحتراس واستطراد ، فهو تتميم لما يكمِّل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإِبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوباً على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك . ودون تفصيل هذا تطويل نخصهُ بتأليف في معنى القدر وجريان أعمال الناس في الدنيا إن شاء الله . ونقتصر هنا على أن نقول : خلق الله الناس وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القُدرة على الأعمال الصالحة وغيرها المسماة عند الأشعري بالكسب وعند المعتزلة بقُدرة العبد ( والخلاف في التعبير ) . وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد ، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نُظُماً مرتبطاً بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة بأن لا يعوق سيرَها في طرائقها ولا يعطلَ عمَلها لأجل إصلاح أشخاص هم جزء من كلَ لأن النظُم العامة أعم فالحفاظ على اطرادها أصلح وأرجح ، فلا تتنازل إرادة الله وقدرته إلى التدخل فيما سُمي بالكسب على أصولنا أو بالقدرة الحادثة على أصول المعتزلة ، بل جعل بحكمته بين الخَلْقِ والكسب حاجزاً هو نظام تكوين الإِنسان بما فيه من إرادة وإدراك وقدرة ، وقد أشار إلى هذا قوله : { والله بما تعملون بصير } أي هو بصير به من قَبل أن تعملوه ، وبعد أن عملتموه .
فالبصير : أريد به العالم عِلمَ انكشاف لا يقبل الخفاء فهو كعلم المشاهدة وهذا إطلاق شائع في القرآن لا سيما إذا أفردت صفة { بصير } بالذكر ولم تذكر معها صفة « سميع » .
واصطلح بعض المتكلمين على أن صفة البصيرة : العالم بالمرْئيات . وقال بعضهم : هي تعلق العلم الإلهي بالأمور عند وقوعها . والحق أنها استعمالات مختلفة . وبهذا يتضح وجه الجمع بين ما يبدو من تعارض بين آيات القرآن وإخبارٍ من السنة فاجعلوه مِثالاً يُحتدى ، وقولوا هكذا . هكذا .
وهو احتراس من أن يتوهم من تقسيمهم إلى فريقين أن ذلك رضى بالحالين كما حكي عن المشركين { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] .
وهو استطراد بطريق الكناية به عن الوعد والوعيد .
وشمل قوله : { بما تعملون } أعمالَ القلوب كالإِيمان وهي المقصود ابتداء هنا .