قوله تعالى : { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى } ولداً { وأصلحنا له زوجه } أي جعلناها ولوداً بعدما كانت عقيماً ، قال أكثر المفسرين ، وقال بعضهم : كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق . { إنهم } يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة { كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً } طمعاً ، { ورهباً } خوفاً ، رغباً في رحمة الله ، ورهباً من عذاب الله ، { وكانوا لنا خاشعين } أي متواضعين ، قال قتادة : ذللاً لأمر الله . قال مجاهد : الخشوع هو الخوف اللازم في القلب .
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى } النبي الكريم ، الذي لم يجعل الله له من قبل سميا .
{ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } بعدما كانت عاقرا ، لا يصلح رحمها للولادة فأصلح الله رحمها للحمل ، لأجل نبيه زكريا ، وهذا من فوائد الجليس ، والقرين الصالح ، أنه مبارك على قرينه ، فصار يحيى مشتركا بين الوالدين .
ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين ، كلا على انفراده ، أثنى عليهم عموما فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي : يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة ، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها ، إلا انتهزوا الفرصة فيها ، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } أي : يسألوننا الأمور المرغوب فيها ، من مصالح الدنيا والآخرة ، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها ، من مضار الدارين ، وهم راغبون راهبون لا غافلون ، لاهون ولا مدلون ، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } أي : خاضعين متذللين متضرعين ، وهذا لكمال معرفتهم بربهم .
قال الله تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } أي : امرأته .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : كانت عاقرا لا تلد ، فولدت .
وقال عبد الرحمن بن مهدي{[19846]} ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء : كان في لسانها طول فأصلحها الله . وفي رواية : كان في خَلْقها شيء فأصلحها الله . وهكذا قال محمد بن كعب ، والسدّي . والأظهر من السياق الأول .
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي : في عمل القُرُبات وفعل الطاعات ، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } قال الثوري : { رَغَبًا } فيما عندنا ، { وَرَهَبًا } مما عندنا ، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي مصدقين بما أنزل الله . وقال مجاهد : مؤمنين حقا . وقال أبو العالية : خائفين . وقال أبو سِنَان : الخشوع هو الخوف اللازم للقلب ، لا يفارقه أبدًا . وعن مجاهد أيضًا { خَاشِعِينَ } أي : متواضعين . وقال الحسن ، وقتادة ، والضحاك : { خَاشِعِينَ } أي : متذللين لله عز وجل . وكل هذه الأقوال متقاربة . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق بن{[19847]} عبد الله القرشي ، عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر ، رضي الله عنه ، ثم قال : أما بعد ، فإني أوصيكم بتقوى الله ، وتُثنُوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } .
{ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } أي أصلحناها للولادة بعد عقرها أو ل { زكريا } بتحسين خلقها وكانت حردة . { إنهم } يعني المتوالدين أو المذكورين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . { كانوا يسارعون في الخيرات } يبادرون إلى أبواب الخير . { ويدعوننا رغبا ورهبا } ذوي رغب ورهب ، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة ، أو في الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية . { وكانوا لنا خاشعين } مخبتين أو دائبين الوجل ، والمعنى أنهم نالوا من الله ما نالوا بهذه الخصال .
وإصلاح الزوجة قيل بأن جعلها ممن تحمل وهي عاقر قاعد فحاضت وحملت وهذا هو الذي يشبه الآية وقيل بأن أزيل بذاء كان في لسانها .
قال أبو محمد رحمه الله :وهذا ضعيف وعموم اللفظ يتناول جميع وجوه الإصلاح .
وقرأت فرقة «يدعوننا » وقرأت فرقة «يدعونا » ، وقرأت فرقة «رَغَباً » بفتح الراء والغين «ورَهَباً » كذلك ، وقرأت فرقة بضم الراء فيهما وسكون الغين والهاء ، وقرأت فرقة بفتح الراء وسكون الغين والهاء ، والمعنى أنهم يدعون في وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ، ورهبة وخوف من حال واحدة لأَن الرغبة والرهبة متلازمان ، وقال بعض الناس الرغب أَن ترفع بطون الأكف نحو السماء والرهب أَن ترفع ظهورها ع وتلخيص هذا أَن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه ، فالرغب من حيث هو طلب يحسن معه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه إذ هي موضع الإعطاء وبها يتملك ، والرهب من حيث هو دفع مضرة يحسن معه طرح ذلك والإشارة إلى إذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه و «الخشوع » التذلل بالبدن المتركب على التذلل بالقلب .
{ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه }
إصلاح زوجه : جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقراً .
وتقدم ذكر زكرياء في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم .
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشعين }
جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين ، وما أوتوه من النصر ، واستجابة الدعوات ، والإنجاء من كيد الأعداء ، وما تبع ذلك ، ابتداءً من قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } [ الأنبياء : 48 ] . فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين . وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب ، أي ما استحقّوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدّهم في تحصيلها .
وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبَهم وهجِّيراهم .
والمسارعة : مستعارة للحرص وصرف الهمة والجِدّ للخيرات ، أي لفعلها ، تشبيهاً للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجادّ في مسالكه .
والخيرات : جمع خَيْر بفتح الخاء وسكون الياء وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات . والخير ضدّ الشرّ ، فهو ما فيه نفع . وأما قوله تعالى : { فيهن خيرات حِسان } [ الرحمن : 70 ] فيحتمل أنه مثل هذا ، ويحتمل أنه جمع خَيْرة بفتح فسكون الذي هو مخفف خَيِّره المشدّد الياء ، وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية . وقد تقدم الكلام على { الخَيْرات } في قوله تعالى : { وأولئك لهم الخيرات } في [ سورة براءة : 88 ] . وعطف على ذلك أنهم يدْعُون الله رغبةً في ثوابه ورهبة من غضبه ، كقوله تعالى : { يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } [ الزمر : 9 ] .
والرغَب والرهَب بفتح ثانيهما مصدران من رغب ورهب . وهما وصف لمصدر { يدعوننا } لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه ، أو يقدر مضاف ، أي ذوي رغب ورهب ، فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه .
وذكر فعل الكون في قوله تعالى : { وكانوا لنا خاشعين } مثل ذكره في قوله تعالى : { كانوا يسارعون } .