81- ويقول هذا الفريق المتردد : أمرك مطاع ، وليس لك منا إلا الطاعة فيما تأمر وتنهى ، ولكن إذا خرجوا من عندك وابتعدوا عنك دبَّرت طائفة منهم أمرا وبيتته ، غير الذي تقوله أنت لهم من أمر ونهي ، واللَّه - سبحانه وتعالى - يحصى عليهم ما يدبرونه في خفاء . فلا تلتفت إليهم ، وأعرض عنهم ، وفوض أمرك إلى اللَّه ، وتوكل عليه ، وكفى أن يكون اللَّه وكيلك وحافظك تفوض إليه جميع أمورك .
قوله تعالى : { ويقولون طاعة } يعني : المنافقين ، يقولون باللسان للرسول صلى الله عليه وسلم : إنا آمنا بك فمرنا ، فأمرك طاعة ، قال النحويون : أي أمرنا وشأننا أن نطيعك .
قوله تعالى : { فإذا برزوا } خرجوا .
قوله تعالى : { من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول } ، قال قتادة والكلبي : بيت أي : غير وبدل الذي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون التبييت بمعنى التبديل ، وقال أبو عبيدة والقتيبي : معناه : قالوا وقدروا ليلاً غير ما أعطوك نهاراً ، وكل ما قدر بليل فهو مبيت ، وقال أبو الحسن الأخفش : تقول العرب للشيء إذا قدر بيت ، يشبهونه بتقدير بيوت الشعر .
قوله تعالى : { والله يكتب } أي : يثبت ويحفظ .
قوله تعالى : { ما يبيتون } ما يزورون ، ويغيرون ، ويقدرون . وقال الضحاك عن ابن عباس : يعني ما يسرون من النفاق .
قوله تعالى : { فأعرض عنهم } ، يا محمد ولا تعاقبهم ، وقيل : لا تخبر بأسمائهم ، منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأسماء المنافقين .
قوله تعالى : { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً } ، أي : اتخذوه وكيلاً وكفى بالله وكيلاً وناصراً .
ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب . فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها ، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة ، وقد أشبه من قال الله فيهم : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي : يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك . { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي : خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم . { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي : بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية .
وفي قوله : { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة ؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي ، ثم توعدهم على ما فعلوا فقال : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ، ففيه وعيد لهم .
ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف ، فإنهم لا يضرونه شيئا إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه ، وإقامة شرعه . ولهذا قال : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
وقوله : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي : خرجوا وتواروا عنك { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي : استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه . فقال تعالى : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين ، الذين هم موكلون بالعباد . يعلمون ما يفعلون . والمعنى في هذا التهديد ، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك . كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ]{[7926]} } [ النور : 47 ] .
وقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : اصفح عنهم واحلم عليهم{[7927]} ولا تؤاخذهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تَخَفْ منهم أيضا { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } أي : كفى به{[7928]} وليًّا وناصرًا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه .
{ ويقولون } إذا أمرتهم بأمر . { طاعة } أي أمرنا أو منا طاعة ، وأصلها النصب على المصدر ورفعها للدلالة على الثبات . { فإذا برزوا من عندك } خرجوا . { بيت طائفة منهم غير الذي تقول } أي زورت خلاف ما قلت لها ، أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة ، والتبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل ، أو من بيت الشعر ، أو البيت المبني لأنه يسوي ويدبر . وقرأ أبو عمرو وحمزة { بيت طائفة } بالإدغام لقربهما في المخرج . { والله يكتب ما يبيتون } يثبته في صحائفهم للمجازاة ، أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم . { فأعرض عنهم } قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم . { وتوكل على الله } في الأمور كلها سيما في شأنهم . { وكفى بالله وكيلا } يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم .
وقوله تعالى : { ويقولون طاعة } الآية نزلت في المنافقين باتفاق من المفسرين ، المعنى يقولون لك يا محمد : أمرنا طاعة ، فإذا خرجوا من عندك اجتمعوا ليلاً وقالوا غير ما أظهروا لك . و { بيَّت } معناه فعل ليلاً ، فإما أخذ من بات ، وإما من البيت لأنه ملتزم بالليل وفي الأسرار التي يخاف شياعها ، ومن ذلك قول الشاعر [ الأسود بن يعفر ] : [ المتقارب ]
أتوني فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا . . . وَكَانُوا أَتوني بِأَمْرٍ نكرْ{[4162]}
هبَّتْ لتعذلني بليل اسمعي *** سفهاً تبيتك للملامةِ فاهجعي{[4163]}
المعنى وتقول لي : اسمع ، وزيدت الياء إشباعاً لتصريع القافية واتباعاً للياء ، كقول امرىء القيس :
ألا أيُّها الليلُ الطويلُ أَلاَ انْجَلي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4164]}
وقوله بأمثل ، وقرأ جمهور القراء { بيت } بتحريك التاء ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامها في الطاء ، وقرأ ابن مسعود «بيت مبيت منهم يا محمد » وقوله : { تقول } يحتمل أن يكون معناه تقول أنت يا محمد ، ويحتمل ، تقول هي لك ، و { يكتب } معناه على وجهين ، إما يكتبه عنده حسب كتب الحفظة حتى يقع الجزاء ، وإما يكتبه في كتابه إليك ، أي ينزله في القرآن ويعلم بها ، قال هذا القول الزجّاج ، والأمر بالإعراض إنما هو عن معاقبتهم ومجازاتهم ، وأما استمرار دعوتهم وعظتهم فلازم ، قال الضحاك : معنى { أعرض عنهم } لا تخبر بأسمائهم ، وهذا أيضاً قبل نزول القتال على ما تقدم . ثم أمر الله تعالى بالتوكل عليه والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر ، و «الوكيل » القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها ، وليس ما غلب الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب ، وهي لفظة رفيعة وضعها الاستعمال العامي ، كالعريف والنقيب وغيره .