قوله تعالى : { قال } يعني إبليس : { أرأيتك } أي أخبرني ، والكاف لتأكيد المخاطبة ، { هذا الذي كرمت علي } أي : فضلته علي : { لئن أخرتن } أمهلتني { إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته } أي : لأستأصلنهم بالإضلال ، يقال احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله . وقيل : هو من قول العرب حنك الدابة يحنكها : إذا شد في حنكها الأسفل حبلاً يقودها ، أي : لأقودنهم كيف شئت . وقيل : لأستولين عليهم بالإغواء ، { إلا قليلاً } ، يعني المعصومين الذين استثناهم الله عز وجل في قوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الحجر – 42 ] .
وقال أيضًا : { أَرَأَيْتَكَ } ، يقول للرب جراءة وكفرًا ، والرب يحلم{[17643]} وينظر { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : لأستولين على ذريته إلا قليلا .
وقال مجاهد : لأحتوين . وقال ابن زيد : لأضلنهم .
وكلها متقاربة ، والمعنى : أنه يقول : أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ ، لئن أنظرتني لأضلن ذرّيته إلا قليلا منهم .
وقوله : أرَأيْتَكَ هَذَا الّذِي كَرّمْتَ عَليّ يقول تعالى ذكره : أرأيت هذا الذي كرّمته عليّ ، فأمرتني بالسجود له ، ويعني بذلك آدم لئِنْ أخرتّنِ أقسم عدوّ الله ، فقال لربه : لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قَلِيلاً يقول : لأستولينّ عليهم ، ولأستأصلنهم ، ولأستميلنهم . يقال منه : احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك ، ومنه قول الشاعر :
نَشْكُو إلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ *** جَهْدا إلى جَهْدٍ بنا فأضْعَفَتْ
*** واحْتَنَكَتْ أمْوَالَنا وجَلّفَتْ ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قَلِيلاً قال : لأحتوينهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ . عن ابن عباس ، قوله لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قَلِيلاً يقول : لأستولينّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قليلاً قال : لأضلنهم . وهذه الألفاظ وإن اختلفت فإنها متقاربات المعنى ، لأن الاستيلاء والاحتواء بمعنى واحد ، وإذا استولى عليهم فقد أضلهم .
والكاف في قوله { أرأيتك } هي كاف خطاب ومبالغة في التنبيه ، لا موضع لها من الإعراب ، فهي زائدة ، ومعنى أرأيت : أتأملت ونحوه ، كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد ، وقال سيبويه : هي بمعنى أخبرني ، ومثل بقوله أرأيتك زيداً أبو من هو ؟ وقاله الزجاج : في { آياتنا } [ طه : 56 ] ولم يمثل ، وقول سيبويه : صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأما في هذه الآية ، فهي كما قلت ، وليست التي ذكر سيبويه رحمه الله{[7619]} ، وقرأ ابن كثير «أخرتني » بياء في الوصل والوقف ، وهذا هو الأصل ، وليس هذا الموضع كالقافية التي يحسن فيها الحذف ، كمثل قول الأعشى : [ المتقارب ]
فهل يمنعني ارتياد البلاد . . . من حذر الموت أن يأتين{[7620]}
وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل وبحذفها في الوقف ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «أخرتن » بحذف الياء في الوصل والوقوف ، وهذا تشبيه بياء قاض ونحوه ، لكونها ياء متطرقة قبلها كسرة ، ومنه قوله تعالى : { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه }{[7621]} وقوله { لأحتنكن } معناه : لأميلن ولأجرن ، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة ، وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره فتنقاد ، وألسنة تحتنك المال ، أي تجتره ، ومنه قول الشاعر :
تشكو إليك سنة قد أجحفت . . . جهداً إلى جهة بنا فأضعفت
واحتنكت أموالنا وجلفت{[7622]} . . . ومن هذا الشعر ، قال الطبري { لأحتنكن } معناه : لاستأصلن ، وعبر ابن عباس في ذلك ب «لأستولين » ، وقال ابن زيد : لأضلن ، وهذا بدل اللفظ لا تفسير ، وحكم إبليس بهذا الحكم على ذرية آدم ، من حيث رأى الخلقة مجوفة مختلفة الأجزاء وما اقترن بها من الشهوات والعوارض ، كالغضب ونحوه ، ثم استثنى القليل ، لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم {قال} إبليس لربه عز وجل: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي}، يعني فضلته علي بالسجود، يعني: آدم، أنا ناري وهو طيني،
{لئن أخرتن}، يقول: لئن متعتني {إلى يوم القيامة لأحتنكن}، يعني: لأحتوين {ذريته}: ذرية آدم، {إلا قليلا}، حتى يطيعوني، يعني: بالقليل الذي أراد الله عز وجل، فقال: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر:42]...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"أرَأيْتَكَ هَذَا الّذِي كَرّمْتَ عَليّ" يقول تعالى ذكره: أرأيت هذا الذي كرّمته عليّ، فأمرتني بالسجود له، ويعني بذلك آدم، "لئِنْ أخرتّنِ": أقسم عدوّ الله، فقال لربه: لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة "لأَحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إلاّ قَلِيلاً "يقول: لأستولينّ عليهم ولأستأصلنهم ولأستميلنهم. يقال منه: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك... وإذا استولى عليهم فقد أضلهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لأحتنكن ذُرِّيته إلاّ قليلاً} فيه ستة تأويلات:...
الخامس: لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها إذا شد فيه حبل يجذبها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... المعنى: أخبرني عن هذا {الذى كَرَّمْتَ} ه {عَلَي} أي فضلته، لم كرمته عليّ وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام بحذف ذلك، ثم ابتدأ فقال {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} واللام موطئة للقسم المحذوف، {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} لأستأصلنهم بالإغواء، من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا، وهو من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم: أحنك الشاتين أي أكلهما.
فإن قلت: من أين علم أن ذلك يتسهل له وهو من الغيب؟ قلت: إما أن سمعه من الملائكة وقد أخبرهم الله به، أو خرجه من قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، أو نظر إليه فتوسم في مخايله أنه خلق شهواني. وقيل: قال ذلك لما عملت وسوسته في آدم، والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة.
أحدهما: أنه عبارة عن الأخذ بالكلية، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية.
والثاني: أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، وقال أبو مسلم: الاحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه. فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء. وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... وإنما قال إبليس ذلك ظنا، كما قال الله تعالى:"ولقد صدق عليهم إبليس ظنه" [سبأ: 20] أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم، أو بنى على قول الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها "[البقرة: 30]. وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أَرَأَيْتَكَ}، يقول للرب جراءة وكفرًا، والرب يحلم وينظر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر تعالى بتكبره، كان كأنه قيل: إن هذه لوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى، فهل كان غير هذا؟ فقيل: نعم! {قال أرءيتك} أي أخبرني {هذا الذي كرمت عليّ} بم كرمته عليّ مع ضعفه وقوتي؟ فكأنه قيل: لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب، فما كان بعد هذا؟ فقيل: قال مقسماً لأجل استبعاد أن يجترئ أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى: {لئن أخرتن} أي أيها الملك الأعلى تأخيراً ممتداً {إلى يوم القيامة} حياً متمكناً {لأحتنكن} أي بالإغواء {ذريته} أي لأستولين عليهم بشدة احتيالي كما يستولي الآكل على ما أخذه في حنكه، بتسليطك لي عليهم {إلا قليلاً} وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية، فيقول في تبجح: (أرأيتك هذا الذي كرمت علي) أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك؟... ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية. عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية، ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة. فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قال أرأيتك} بدل اشتمال من جملة {أأسجد لمن خلقت طيناً} باعتبار ما تشتمل عليْه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله. فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله: {أرأيتك} المفيد الإنكار، وجملة {لئن أخرتني إلى يوم القيامة...} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، وهي جملة قَسَمية، واللام موطئة للقسم المحذوف مع الشرط، والخبرُ مستعمل في الدعاء فهو في معنى قوله: {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} [ص: 79]. وهذا الكلام صدر من إبليس إعراباً عما في ضميره وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه. وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة وأنه يُغوي كثيراً من البشر ويَسلَم منه قليل منهم. وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ولم يذكر إغواءَ آدم وهو أولى بالذكر إذ آدم هو أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفضيله عليه إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أعوَى آدم وأخرج من الجنة فقد شفَى غليله منه وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم، قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو} [فاطر: 6]. والاحتناك: وضع الراكب اللجامَ في حَنَك الفرس ليركَبه ويَسيّره، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفَرس على حب ما يريد راكبه.
المعنى: أخبرني، لأن رأي البصرية تطلق في القرآن على معنى العلم؛ لأن علم العين علم مؤكد لاشك فيه. لذلك قالوا: ليس مع العين أين. فما تراه أمامك عياناً، وإن كان للعلم وسائل كثيرة فأقواها الرؤية؛ لأنها تعطي علماً مؤكداً على خلاف الأذن مثلاً، فقد تسمع بها كلاماً تعرف بعد ذلك أنه كذب...
{أرأيتك هذا الذي كرمت علي}: أي: أعلمني، لماذا فضلته علي، وكأن تفضيل آدم على إبليس مسألة تحتاج إلى برهان وتبرير، وكان على إبليس أن ينتظر إجابة هذا السؤال الذي توجه به لربه عز وجل، ولكنه تعجل وحمله الغيظ والحسد على أن يقول: {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً}: وهذا لأن حقده وعداوته لآدم مسبقة فلم ينتظر الجواب. ومعنى: (أخرتن) أخرت أجلي عن موعده، كأنه يعلم أن الله يجعل لكل نفس منفوسة من إنس أو جن أجلاً معلوماً، فطلب أن يؤخره الله عن أجله، وهذه مبالغة منه في اللدد والعناد، فلم يتوعدهم ويهددهم مدة حياته هو، بل إلى يوم القيامة، فإن كانت البداية مع آدم فلن ينجو ولن تنجو ذريته أيضاً.