70- واترك - أيها النبي - الذين اتخذوا شريعتهم اللهو واللعب ، وخدعتهم الحياة الدنيا عن الآخرة ، وذَكِّر دائماً بالقرآن ، وحذرهم هول يوم تحبس فيه كل نفس بعملها ، حيث لا ناصر ولا معين غير الله ، وإن كل فدية للنجاة من العذاب لا تقبل . أولئك الكافرون الذين حبسوا في العذاب بسبب ما عملوا من شر ، لهم في جهنم شراب من ماء شديد الحرارة ، وعذاب شديد الألم بسبب كفرهم .
قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } ، يعني : الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها ، وتلاعبوا عند ذكرها ، وقيل : إن الله تعالى جعل لكل قوم عيداً ، فاتخذ كل قوم دينهم أي : عيدهم لعباً ولهواً ، وعيد المسلمين الصلاة وتكبيراتها ، وفعل الخير ، مثل الجمعة ، والفطر ، والنحر .
قوله تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به } . أي : وعظ بالقرآن .
قوله تعالى : { أن تبسل } ، أي : لأن لا تبسل ، أي : لا تسلم .
قوله تعالى : { نفس } ، للهلاك .
قوله تعالى : { بما كسبت } ، قاله مجاهد وعكرمة والسدي : وقال ابن عباس : تهلك ، وقال قتادة : أن تحبس ، وقال الضحاك : تحرق ، وقال ابن زيد : تؤخذ ، ومعناه : ذكرهم ليؤمنوا ، كيلا تهلك نفس بما كسبت ، وقال الأخفش : تبسل ، تجازى ، وقيل : تفضح ، وقال الفراء : ترتهن ، وأصل الإبسال التحريم ، والبسل الحرام ، ثم جعل نعتاً لكل شدة تتقى وتترك .
قوله تعالى : { ليس لها } ، أي لتلك النفس .
قوله تعالى : { من دون الله ولي } ، قريب .
قوله تعالى : { ولا شفيع } ، يشفع لها في الآخرة .
قوله تعالى : { وإن تعدل كل عدل } ، أي : تفد كل فداء .
قوله تعالى : { لا يؤخذ منها } ، هنا .
قوله تعالى : { أولئك الذين أبسلوا } ، أسلموا للهلاك .
قوله تعالى : { بما كسبوا ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } .
{ 70 } { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
المقصود من العباد ، أن يخلصوا لله الدين ، بأن يعبدوه وحده لا شريك له ، ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه . وذلك متضمن لإقبال القلب على الله وتوجهه إليه ، وكون سعي العبد نافعا ، وجدًّا ، لا هزلا ، وإخلاصا لوجه الله ، لا رياء وسمعة ، هذا هو الدين الحقيقي ، الذي يقال له دين ، فأما من زعم أنه على الحق ، وأنه صاحب دين وتقوى ، وقد اتخذ دينَه لعبا ولهوا . بأن لَهَا قلبُه عن محبة الله ومعرفته ، وأقبل على كل ما يضره ، ولَهَا في باطله ، ولعب فيه ببدنه ، لأن العمل والسعي إذا كان لغير الله ، فهو لعب ، فهذا أَمَر الله تعالى أن يترك ويحذر ، ولا يغتر به ، وتنظر حاله ، ويحذر من أفعاله ، ولا يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله .
{ وَذَكِّرْ بِهِ } أي : ذكر بالقرآن ، ما ينفع العباد ، أمرا ، وتفصيلا ، وتحسينا له ، بذكر ما فيه من أوصاف الحسن ، وما يضر العباد نهيا عنه ، وتفصيلا لأنواعه ، وبيان ما فيه ، من الأوصاف القبيحة الشنيعة ، الداعية لتركه ، وكل هذا لئلا تبسل نفس بما كسبت ، أي : قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علام الغيوب ، واستمرارها على ذلك المرهوب ، فذكرها ، وعظها ، لترتدع وتنزجر ، وتكف عن فعلها .
وقوله { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } أي : قبل [ أن ] تحيط بها ذنوبها ، ثم لا ينفعها أحد من الخلق ، لا قريب ولا صديق ، ولا يتولاها من دون الله أحد ، ولا يشفع لها شافع { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } أي : تفتدي بكل فداء ، ولو بملء الأرض ذهبا { لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : لا يقبل ولا يفيد .
{ أُولَئِكَ } الموصوفون بما ذكر { الَّذِينَ أُبْسِلُوا } أي : أهلكوا وأيسوا من الخير ، وذلك { بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي : ماء حار قد انتهى حره ، يشوي وجوههم ، ويقطع أمعاءهم { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة ؛ وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة :
( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ، وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها . أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) . .
أولها : أن الرسول [ ص ] وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل . . فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادا وعبادة ، وخلقا وسلوكا ، وشريعة وقانونا ، إنما يتخذ دينه لعبا ولهوا . . والذي يتحدث عن مبادى ء هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافا تدعو إلى اللعب واللهو . كالذين يتحدثون عن " الغيب " - وهو أصل من أصول العقيدة - حديث الاستهزاء . والذين يتحدثون عن " الزكاة " وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار . والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة - وهي من مبادى ء هذا الدين - بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية ، أو الإقطاعية ، أو " البرجوازية " الزائلة ! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار . والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها " أغلال ! " . . وقبل كل شيء وبعد كل شيء . . الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية . . السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية . . ويقولون : إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله . . . أولئك جميعا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبا ولهوا . وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى . وبأنهم الظالمون - أي المشركون - والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا ، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم لما كانوا يكفرون . .
وثانيها : أن الرسول [ ص ] وينسحب الامر على كل مسلم - مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا - أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا ، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم ، ولا شفيع يشفع لهم ؛ كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت .
وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول :
( وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ) . .
فكل نفس على حدة تبسل [ أي ترتهن وتؤخذ ] بما كسبت ، حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة !
فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا ؛ وحق عليهم ما سبق في الآية ؛ وكتب عليهم هذا المصير :
( أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )
لقد أخذوا بما فعلوا ؛ وهذا جزاؤهم : شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون ؛ وعذاب أليم بسبب كفرهم ، الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم . .
وثالثها : قول الله تعالى في المشركين : ( الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوًا ) . .
إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام ، ثم اتخذ دينه هذا لعبا ولهوا . . وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين . . ولكن هذا كان في المدينة . .
فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام ؟ إن الإسلام هو الدين . . هو دين البشرية جميعا . . سواء من آمن به ومن لم يؤمن . . فالذي رفضه إنما رفض دينه . . باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله دينا ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين .
ولهذه الأضافة دلالتها في قوله :
( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوًا ) . .
فهي - والله أعلم - إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه ، من اعتبار الإسلام دينا للبشرية كافة . فمن اتخذه لعبا ولهوا ، ، فإنما يتخذ دينه كذلك . . ولو كان من المشركين . .
ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون ؟ إنهم الذين يشركون بالله أحدا في خصائص الألوهية . سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله . أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله . أو بقبول الحاكمية والشريعة من احد مع الله . ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه ، مهما تسموا بأسماء المسلمين ! فلنكن من أمر ديننا على يقين !
ورابعها : حدود مجالسة الظالمين - أي المشركين - والذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا . . وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير . فليست لشيء وراء ذلك - متى سمع الخوض في آيات الله ؛ أو ظهر اتخاذها لعبا ولهوا بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها . .
وقد جاء في قول القرطبي في كتابه : الجامع لأحكام القرآن بصدد هذه الآية :
" في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل ، على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم ، لهم أن يخالطوا الفاسقين ، ويصوبوا آراءهم تقية . . "
ونحن نقول : إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها . أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقية فهو المحظور . لأنه - في ظاهرة - إقرار للباطل ، وشهادة ضد الحق . وفيه تلبيس على الناس ، ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله . وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة .
كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال :
" قال ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر - مؤمنا كان أو كافرا - قال : وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ، ودخول كنائسهم والبيع ، ومجالسة الكفار وأهل البدع ؛ وألا تعتقد مودتهم ، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم . وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي : اسمع مني كلمة ، فأعرض عنه ، وقال : ولا نصف كلمة ! . ومثله عن أيوب السختياني . وقال الفضيل بن عياض : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله ، وأخرج الإسلام من قلبه ، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ؛ ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة ، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له . وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله [ ص ] " من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " . .
فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله . . وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية ؛ ومن يقره على هذا الادعاء . . فليس هذا بدعة مبتدع ؛ ولكنه كفر كافر ، أو شرك مشرك . مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم . فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى - وهو يزعم الإسلام . ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام - إلا من عصم الله - وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان ! فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام . .
عطف على جملة : { فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] أو على جملة : { وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء } [ الأنعام : 69 ] . وهذا حكم آخر غير حكم الإعراض عن الخائضين في آيات الله ولذلك عطف عليه . وأتي بموصول وصلة أخرى فليس ذلك إظهاراً في مقام الإضمار .
و { ذرْ } فعل أمر . قيل : لم يرد له ماض ولا مصدر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول . فتصاريفه هذه مماتة في الاستعمال استغناء عنها بأمثالها من مادّة ترك تجنّباً للثقل واستعملوا مضارعه والأمر منه . وجعله علماء التصريف مثالاً واوياً لأنَّهم وجدوه محذوف أحد الأصول ، ووجدوه جارياً على نحو يَعِد ويَرث فجزموا بأنّ المحذوف منه الفاء وأنَّها واو . وإنَّما حذفت في نحو ذَرْ ودَعْ مع أنَّها مفتوحة العين اتِّباعاً للاستعمال ، وهو حذف تخفيف لا حذف دفع ثقل ، بخلاف حذف يَعِد ويَرث .
ومعنى : ( ذَر ) اترك ، أي لا تخالط . وهو هنا مجاز في عدم الاهتمام بهم وقلَّة الاكتراث باستهزائهم كقوله تعالى : { ذَرْني ومن خلقتُ وحيداً } [ المدثر : 11 ] ، وقوله : { فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث } ، وقول طرفة :
فذَرْنِي وخُلْقي إنَّنِي لَك شاكر *** ولو حلّ بيتِي نَائِياً عند ضَرْغد
أي لا تبال بهم ولا تهتمّ بضلالهم المستمرّ ولا تشغل قلبك بهم فالتذكير بالقرآن شامل لهم ، أو لا تعبأ بهم وذكّرهم به ، أي لا يصدّك سوء استجابتهم عن إعادة تذكيرهم .
والدّين في قوله : اتَّخذوا دينهم } يجوز أن يكون بمعنى الملَّة ، أي مايتديَّنون به وينتحلونه ويتقرّبون به إلى الله ، كقول النابغة :
مجلّتهم ذات الإله ودينُهم *** قَويم فما يرجُون غيرَ العَوَاقِب
أي اتَّخذُوه لعباً ولهواً ، أي جعلوا الدين مجموع أمور هي من اللعب واللهو ، أي العبث واللهو عند الأصنام في مواسمها ، والمكاء والتصدية عند الكعبة على أحد التفسيرين في قوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية } [ الأنفال : 35 ] .
وإنَّما لم يقل اتَّخذوا اللهو واللعب ديناً لمكان قوله : { اتَّخذوا } فإنَّهم لم يجعلوا كلّ ما هو من اللهو واللعب ديناً لهم بل عمدوا إلى أن ينتحلوا ديناً فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسمّوها ديناً .
ويجوز أن يكون المراد من الدّين العادة ، كقول المُثقّب العبدي :
تَقول وقد دَرَأتُ لها وَظِينِي *** أهَذَا دينُه أبَداً ودينِي
أي الذين دأبهم اللعب واللهو المعرضون عن الحقّ ، وذلك في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم .
واللعب واللهو تقدّم تفسيرهما في قوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو } في هذه السورة [ 32 ] .
والذين اتَّخذوا دينهم لعباً ولهواً فريق عُرفوا بحال هذه الصلة واختصّت بهم ، فهم غير المراد من الذين يخوضون في الآيات بل بينهم وبين الذين يخوضون في الآيات ؛ فيجوز أن يكون المراد بهم المشركين كلَّهم بناء على تفسير الدين بالملَّة والنِّحلة فهم أعمّ من الذين يخوضون فبينهم العموم والخصوص المطلق .
وهذا يناسب تفسير { ذَرْ } بمعنى عدم الاكتراث بهم وبدينهم لقصد عدم اليأس من إيمانهم أو لزيادة التسجيل عليهم ، أي وذكِّرْهم بالقرآن ، ويجوز أن يكون المراد بهم فريقاً من المشركين سفهاء اتَّخذوا دأبهم اللعب واللهو ، بناء على تفسير الدين بمعنى العادة فبينهم وبين الذين يخوضون العموم والخصوص الوجهي .
{ وغَرّتْهم } أي خدعتهم الحياة الدنيا وظنّوا أنّها لا حياة بعدها وأنّ نعيمها دائم لهم بطراً منهم . وتقدّم تفسير الغرور عند قوله تعالى : { لا يغرّنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد } في سورة [ آل عمران : 196 ] .
وذكر الحياة هنا له موقع عظيم وهو أنّ همّهم من هذه الدنيا هو الحياة فيها لا ما يتكسب فيها من الخيرات التي تكون بها سعادة الحياة في الآخرة ، أي غرّتهم الحياة الدنيا فأوهمتهم أن لا حياة بعدها وقالوا : { إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } [ الأنعام : 29 ] .
والضمير المجرور في { وذكِّر به } عائد إلى القرآن لأنّ التذكير هو التذكير بالله وبالبعث وبالنعيم والعذاب . وذلك إنَّما يكون بالقرآن فيعلم السامع أنّ ضمير الغيبة يرجع إلى ما في ذهن المخاطب من المقام ، ويدل عليه قوله تعالى : { فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد } [ ق : 45 ] . وحذف مفعول { ذكّر } لدلالة قوله : { وذرِ الذين اتَّخذُوا دينهم لعباً ولهواً } أي وذكِّرْهم به .
وقوله : { أنْ تُبْسَل نفس } يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً لِ { ذكّرْ } وهو الأظهر ، أي ذكِّرْهم به إبسال نفس بما كسبت ، فإنّ التذكير يتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى لأنّ أصل فعله المجرّد يتعدّى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعولين هما « هم » و { أن تبسل نفس } . وخُصّ هذا المصدر من بين الأحداث المذكّر بها لما فيه من التهويل . ويجوز أن يكون { أن تُبْسل } على تقدير لام الجرّ تعليلاً للتذكير ، فهو كالمفعول لأجله فيتعيّن تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة . والتقدير : لِئلاّ تبسل نفس ، كقوله تعالى : { يبيّن الله لكم أن تضلّوا } ، وقد تقدّم في آخر سورة [ النساء : 176 ] . وجوّز فيه غير ذلك ولم أكن منه على ثلج .
ووقع لفظ ( نفس ) وهو نكرة في سياق الإثبات وقصد به العموم بقرينة مقام الموعظة ، كقوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْس ما قدّمَتْ وأخَّرَتْ } [ الأنفطار : 5 ] أي كلّ نفس علمت نفس ما أحْضَرَتْ ، أي كلّ نفس .
والإبسال : الإسلام إلى العذاب ، وقيل : السجنُ والارتهان ، وقد ورد في كلامهم بالمعنيين وهما صالحان هنا . وأصله من البَسْل وهو المنع والحرام . قال ضمرة النهشلي :
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بعد وَهْن في النَّدى *** بَسْل عليكِ مَلاَمَتِي وعِتَابِي
وأمَّا الإبسال بمعنى الإسلام فقد جاء فيه قول عوف بن الأحوص الكلابي :
وإبْسَالِي بَنِيّ بغير جُرْم *** بَعَوْنَاهُ ولا بِدَم مُرَاق
ومعنى : { بما كسبت } بما جنت . فهو كسب الشرّ بقرينة { تبسل } .
وجملة : { ليس لها من دون الله } الخ في موضع الحال من { نفس } لعموم { نفس } ، أو في موضع الصفة نظراً لكون لفظه مفرداً .
والوليّ : الناصر . والشفيع : الطالب للعفو عن الجاني لمكانة له عند من بيده العقاب . وقد تقدّم الولي عند قوله تعالى : { قُلْ أغير الله أتَّخِذُ ولِيّاً } في هذه السورة [ 14 ] ، والشفاعة عند قوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } في سورة [ البقرة : 48 ] .
وجملة : وإنْ تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها } عطف على جملة { ليس لها من دون الله وليّ ولا شفيع } . و { تَعْدلْ } مضارع عَدَل إذا فدى شيئاً بشيء وقدّره به . فالفداء يسمَّى العدل كما تقدّم في قوله تعالى : { ولا يؤخذ منها عدل } في سورة [ البقرة : 48 ] .
وجيء في الشرط { بإنْ } المفيدة عدم تحقّق حصول الشرط لأنّ هذا الشرط مفروض كما يفرض المحال .
والعدْل في قوله : { كلّ عدْل } مصدر عدل المتقدّم . وهو مصدره القياسي فيكون { كلّ } منصوباً على المفعولية المطلقة كما في « الكشَّاف » ، أي وإن تُعط كلّ عطاء للفداء لا يقبل عطاؤها ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به ل { تعدل } لأنّ فعل ( عَدل ) يتعدّى للعوض بالباء وإنَّما يتعدّى بنفسه للمعوّض وليس هو المقصود هنا . فلذلك منع في « الكشَّاف » أن يكون { كلّ عدل } مفعولاً به ، وهو تدقيق . و { كُلّ } هنا مجاز في الكثرة إذ ليس للعدل ، أي للفداء حصر حتّى يحاط به كلّه . وقد تقدّم استعمال ( كلّ ) بمعنى الكثرة وهو مجاز شائع عند قوله تعالى : { ولئِن أتَيتَ الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية } في سورة [ البقرة : 145 ] .
وقوله : { لا يؤخذ منها } أي لا يؤخذ منها ما تعدل به . فقوله : { منها } هو نائب الفاعل ل { يؤخذ } . وليس في { يؤخذ } ضمير العدل لأنَّك قد علمت أنّ العدل هنا بمعنى المصدر ، فلا يسند إليه الأخذ كما في « الكشاف » ، فقد نزّل فعل الأخذ منزلة اللازم ولم يقدّر له مفعول كأنَّه قيل : لا يؤخذ منها أخْذ . والمعنى لا يؤخذ منها شيء . وقد جمعت الآية جميع ما تعارف الناس التخلّص به من القهر والغلب ، وهو الناصر والشفيع والفدية . فهي كقوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون } في سورة [ البقرة : 48 ]
وجملة : { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ الكلام يثير سؤال سائل يقول : فما حال الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً من حال النفوس التي تُبْسَل بما كسبت ، فأجيب بأنّ أولئك هم الذين أبسلوا بما كسبوا ، فتكون الإشارة إلى الموصول بما له من الصلة ، والتعريف للجزأين أفادَ القصر ، أي أولئك هم المبسَلُون لا غيرهم . وهو قصر مبالغة لأنّ إبسالهم هو أشدّ إبسال يقع فيه الناس فجُعل ما عداه كالمعدوم .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله : { أن تُبسل نفس } باعتبار دلالة النكرة على العموم ، أي أنّ أولئك المبسَلون العادمون وليّاً وشفيعاً وقبولَ فديتهم هم الذين إبسلوا بما كسبوا ، أي ذلك هو الإبسال الحقّ لا ما تعرفونه في جَرَائركم وحروبكم من الإبسال ، كإبسال أبناء عوف بن الأحوص المتقدّم آنفاً في شعره ، فهذا كقوله تعالى : { ذلك يوم التغابن } [ التغابن : 9 ] .
وجملة { لهم شراب من حميم } بيان لمعنى الإبسال أو بدَل اشتمال من معنى الإبسال ، فلذلك فصلت .
والحميم : الماء الشديد الحرارة ، ومنه الحَمة بفتح الحاء العينُ الجارية بالماء الحارّ الذي يستشفى به من أوجاع الأعضاء والدمل . وفي الحديث : « مَثَل العالم مثل الحَمَّة يأتيها البعداء ويتركها القرباء » . وخصّ الشراب من الحميم من بين بقية أنواع العذاب المذكور من بعد للإشارة إلى أنَّهم يعطشون فلا يشربون إلاّ ماء يزيدهم حرارة على حرارة العطش .
والباء في { بما كانوا يكفرون } للسببية ، و ( ما ) مصدرية .
وزيد فعل ( كان ) ليدلّ على تمكّن الكفر منهم واستمرارهم عليه لأنّ فعل مادّة الكَوْن تدلّ على الوجود ، فالإخبار به عن شيء مخبَر عنه بِغيره أو موصوف بغيره لا يفيد فائدة الأوصاف سوى أنَّه أفاد الوجود في الزمن الماضي ، وذلك مستعمل في التمكّن .