قوله تعالى : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } أي : نعمة ربي . وقيل : رزق ربي ، { إذاً لأمسكتم } ، لبخلتم وحبستم ، { خشية الإنفاق } أي : خشية الفاقة ، قاله قتادة . وقيل : خشية النفاد ، يقال : أنفق الرجل أي أملق وذهب ماله ونفق الشيء ، أي : ذهب . وقيل : لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفقر . { وكان الإنسان قتوراً } أي : بخيلاً ممسكاً عن الإنفاق .
على أن أولئك الذين يقترحون على الرسول [ ص ] تلك المقترحات المتعنتة ، من بيوت الزخرف ، وجنات النخيل والأعناب ، والينابيع المتفجرة . . بخلاء أشحاء حتى لو أن رحمة الله قد وكلت إليهم خزائنها لأمسكوا وبخلوا خوفا من نفادها ، ورحمة الله لا تنفد ولا تغيض :
( قل : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) .
وهي صورة بالغة للشح ، فإن رحمة الله وسعت كل شيء ، ولا يخشى نفادها ولا نقصها . ولكن نفوسهم لشحيحة تمنع هذه الرحمة وتبخل بها لو أنهم كانوا هم خزنتها !
وقوله تعالى : { قل لو أنتم تملكون } الآية حكم لو أن يليها الفعل إما مظهراً وإما مضمراً يفسره الظاهر بعد ذلك ، فالتقدير هنا ، قل لو تملكون خزائن ، ف { أنتم } رفع على تبع الضمير{[7717]} ، و «الرحمة » في هذه الآية المال والنعم التي تصرف في الأرزاق ، ومن هذا سميت { رحمة } ، و { الإنفاق } المعروف ذهاب المال وهو مؤد إلى الفقر ، فكأن المعنى خشية عاقبة الإنفاق ، وقال بعض اللغويين أنفق الرجل معناه افتقر كما تقول أترب وأقتر ، وقوله { وكان الإنسان فتوراً } أي ممسكاً ، يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى ، فهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر ، وكذلك يظن أن قدرة الله تعالى تقف دون البعث ، والأمر ليس كذلك ، بل قدرته لا تتناهى ، فهو مخترع من الخلق ما يشاء ، ويخترع من الرحمة الأرزاق ، فلا يخاف نفاد خزائن رحمته ، وبهذا النظر تتلبس هذه الآية بما قبلها ، والله ولي التوفيق برحمته ، ومن الإقتار قول أبي داود : [ الخفيف ]
لا أعد الإقتار عدماً ولكن . . . فقد من قد رزئته الإعدام{[7718]}
اعتراض ناشىء عن بعض مقترحاتهم التي توهموا عدم حصولها دليلاً على انتفاء إرسال بَشيرٍ ، فالكلام استئناف لتكملة رد شبهاتهم . وهذا رد لما تضمنه قولهم : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } إلى قوله : { تفجيراً } [ الإسراء : 90 - 91 ] ، وقولهم : { أو يكون لك بيت من زخرف } [ الإسراء : 93 ] من تعذر حصول ذلك لعظيم قيمته .
ومعنى الرد : أن هذا ليس بعظيم في جانب خزائن رحمة الله لو شاء أن يظهره لكم .
وأدمج في هذا الرد بيانُ ما فيهم من البخل عن الإنفاق في سبيل الخير . وأدمج في ذلك أيضاً تذكيرهم بأن الله أعطاهم من خزائن رحمته فكفروا نعمته وشكروا الأصنام التي لا نعمة لها . ويصلح لأن يكون هذا خطاباً للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم كل على قدر نصيبه .
وشأن ( لو ) أن يليها الفعل ماضياً في الأكثر أو مضارعاً في اعتبارات ، فهي مختصة بالدخول على الأفعال ، فإذا أوقعوا الاسم بعدها في الكلام وأخروا الفعل عنه فإنما يفعلون ذلك لقصدٍ بليغ : إما لقصد التقوي والتأكيد للإشعار بأن ذكر الفعل بعد الأداة ثم ذكر فاعله ثم ذكر الفعل مرةً ثانية تأكيدٌ وتقويةٌ ؛ مثل قوله : { وإن أحد من المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] وإما للانتقال من التقوي إلى الاختصاص ، بناءً على أنه ما قدم الفاعل من مكانه إلا لمقصد طريققٍ غير مطروق . وهذا الاعتبار هو الذي يتعين التخريج عليه في هذه الآية ونحوها من الكلام البليغ ، ومنه قول عُمر لأبي عبيدة لَوْ غيرُك قالها .
والمعنى : لو أنتم اختصصتم بملك خزائن رحمة الله دون الله لَما أنفقتم على الفقراء شيئاً . وذلك أشد في التقريع وفي الامتنان بتخييل أن إنعام غيره كالعدم .
وكلا الاعتبارين لا يُنَاكد اختصاص ( لو ) بالأفعال للاكتفاء بوقوع الفعل في حَيزها غيرَ مُوال إياها وموالاته إياها أمر أغلبي ، ولكن لا يجوز أن يقال : لو أنت عالم لبذذت الأقران .
واختير الفعل المضارع لأن المقصود فرض أن يملكوا ذلك في المستقبل .
و{ أمسكتم } هُنا منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول ، لأن المقصود : إذن لاتصفتم بالإمساك ، أي البخل . يقال : فلان مُمسك ، أي بخيل . ولا يراد أنه ممسك شيئاً معيناً .
وأكد جواب ( لو ) بزيادة حرف ( إذن ) فيه لتقوية معنى الجوابية ، ولأن في ( إذن ) معنى الجزاء كما تقدم آنفاً عند قوله : { قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ] . ومنه قول بشر بن عَوانة :
أفاطم لو شهدت ببطن خَبْتٍ *** وقد لاقَى الهزبرُ أخاككِ بِشرَا
إذن لرأيتتِ لَيْثا أمَّ لَيثـــا *** هِزَبْرا أغلباً لاقَى هِزبــرا
وجملة { وكان الإنسان قتوراً } حالية أو اعتراضية في آخر الكلام ، وهي تفيد تذييلاً لأنها عامةُ الحكم . فالواو فيها ليست عاطفة .
والقتور : الشديد البخل ، مشتق من القتر وهو التضييق في الإنفاق .