المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

28- إذا كان الله - سبحانه وتعالى - هو - وحده - مالك الملك ، ويعز ويذل ، وبيده وحده الخير والخلق والرزق ، فلا يصح للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم ، متجاوزين نصرة المؤمنين ؛ لأن في هذا خذلاناً للدين وإيذاء لأهله ، وإضعافاً للولاية الإسلامية ، ومن يسلك هذا المسلك فليس له من ولاية الله مالك الملك شيء ، ولا يرضى مؤمن بولايتهم إلا أن يكون مضطرا لذلك ، فيتقي أذاهم بإظهار الولاء لهم . وعلى المؤمنين أن يكونوا في الولاية الإسلامية دائماً وهي ولاية الله ، وليحذروا أن يخرجوا إلى غير ولايته فيتولى عقابهم بنفسه بكتابة الذلة عليهم بعد العزة . وإليه - وحده - المصير فلا مفرَّ من سلطانه في الدنيا ولا في الآخرة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } . قال ابن عباس رضي الله عنه : كان الحجاج بن عمرو ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد يبطنون ، بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في المنافقين ، عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل هذه الآية ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم .

قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك } أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عورة المسلمين . فقوله تعالى : { فليس من الله في شيء } أي ليس من دين الله في شيء ، ثم استثنى .

قوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } يعني : إلا أن تخافوا منهم مخافة ، قرأ مجاهد ، ويعقوب " تقية " على وزن بقية لأنهم كتبوها بالياء ولم يكتبوها بالألف ، مثل حصاة ونواة وهي مصدر يقال : تقيت تقاة ، وتقى تقية وتقوى ، فإذا قلت : اتقيت كان المصدر الاتقاء ، وإنما قال : " تتقوا " من الاتقاء ، ثم قال : " تقاة " ولم يقل اتقاء ، لأن معنى اللفظين إذا كان واحداً يجوز إخراج مصدر أحدهما على لفظ الآخر ، كقوله تعالى ( وتبتل إليه تبتيلا ) ومعنى الآية أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين ، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ، دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً ، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين . والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل ، وسلامة النية . قال الله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثم هذا رخصة ، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم ، وأنكر قوم التقية اليوم ، قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في جدة بالإسلام قبل استحكام الدين ، وقوة المسلمين . فأما اليوم ، فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم . وقال يحيى البكاء : قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج إن الحسن كان يقول : لكم تقية باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان ؟ فقال سعيد : ليس في الإسلام تقية إنما التقية في أهل الحرب .

قوله تعالى : { ويحذركم الله نفسه } أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار ، وارتكاب المنهي ، ومخالفة المأمور .

قوله تعالى : { وإلى الله المصير } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

ثم قال تعالى :

{ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }

وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين ، وتوعد على ذلك فقال : { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي : فقد انقطع عن الله ، وليس له في دين الله نصيب ، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان ، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه ، قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين ، وصار من حزب الكافرين ، قال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم ، والميل إليهم والركون إليهم ، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين ، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين . قال الله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة }{[155]}  أي : تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية . ثم قال تعالى : { ويحذركم الله نفسه } أي : فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى الله المصير } أي : مرجع العباد ليوم التناد ، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم ، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة ، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة .


[155]:-جاء في هامش النسخة ما يلي: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "المنهاج": وأما قوله: "إلا أن تتقوا منهم تقاة" قال مجاهد: لا مصانعة، والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي، فإن هذا نفاق، ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا" إلخ، فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه، مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون، وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه، وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر، فهذا لم يبحه الله إلا لمن أكره إلخ.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

18

هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله ، المتضمن لمنهج الله للبشر ، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر . . وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين . ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول . والأمر كله بيد الله . وهو ولي المؤمنين دون سواه :

( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل : إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله على كل شيء قدير . يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا . ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ) . .

لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله ، والقوة كلها لله ، والتدبير كله لله ، والرزق كله بيد الله . . فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله ؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون . . ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد ، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو وإلى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة ، سواء كانت الموالاة بمودة القلب ، أو بنصره ، أو باستنصاره سواء :

( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) . .

هكذا . . ليس من الله في شيء . لا في صلة ولا نسبة ، ولا دين ولا عقيدة ، ولا رابطة ولا ولاية . . فهو بعيد عن الله ، منقطع الصلة تماما في كل شيء تكون فيه الصلات .

ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات . . ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - " ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان " . . فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر - والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق ، كما يدل السياق هنا ضمنا وفي موضع آخر من السورة تصريحا - كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية . فما يجوز هذا الخداع على الله !

ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكا للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب ، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقا :

( ويحذركم الله نفسه . وإلى الله المصير ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء } نهوا عن موالاتهم لقرابة وصداقة جاهلية ونحوهما ، حتى لا يكون حبهم وبغضهم إلا في الله ، أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية . { من دون المؤمنين } إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة ، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة . { ومن يفعل ذلك } أي اتخاذهم أولياء . { فليس من الله في شيء } أي من ولايته في شيء يصح أن يسمى ولاية ، فإن موالاة المتعاديين لا يجتمعان قال :

تود عدوي ثم تزعم أنني *** صديقك ليس النوك عنك بعازب

{ إلا أن تتقوا منهم تقاة } إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ، أو اتقاء . والفعل معدى بمن لأنه في معنى تحذروا وتخافوا . وقرأ يعقوب " تقية " . منع عن موالاتهم ظاهرا وباطنا في الأوقات كلها إلا وقت المخافة ، فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز كما قال عيسى عليه السلام : كن وسطا وامش جانبا . { ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير } فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه ، وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي النهي في القبح وذكر النفس ، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكافر والميل إليهم ، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار ، واختلف الناس في سبب هذه الآية ، فقال ابن عباس : كان كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق{[3073]} وقيس بن زيد{[3074]} قد بطنوا{[3075]} بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر بن زبير{[3076]} وعبد الله بن جبير{[3077]} وسعد بن خيثمة{[3078]} لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مباطنتهم فأبى أولئك النفر إلا موالاة اليهود فنزلت الآية في ذلك ، وقال قوم : نزلت الآية في قصة حاطب بن أبي بلتعة{[3079]} وكتابه إلى أهل مكة ، والآية عامة في جميع هذا ويدخل فيها فعل أبي لبابة{[3080]} في إشارته إلى حلقه حين بعثه النبي عليه السلام في استنزال بني قريظة ، وأما تعذيب بني المغيرة لعمار فنزل فيما أباح النبي عليه السلام لعمار { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }{[3081]} .

وقوله تعالى : { من دون } عبارة عن كون الشيء الذي تضاف إليه { دون } غائباً متنحياً ليس من الأمر الأول { في شيء } ، وفي المثل ، وأمر دون عبيدة الوذم{[3082]} كأنه من غير أن ينتهي إلى الشيء الذي تضاف إليه ، ورتبها الزجاج المضادة للشرف من الشيء الدون فيما قاله نظر ، قوله : { فليس من الله في شيء } معناه ، في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي عليه السلام من غشنا فليس منا{[3083]} ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره ، فليس من التقرب إلى الله أو التزلف ونحو هذا ، وقوله { في شيء } هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله { ليس من الله }{[3084]} ثم أباح الله إظهار اتخاذهم بشرط الأتقاء ، فأما إبطانه{[3085]} فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال ، وقرأ جمهور الناس «تقاة » أصله وقية -على وزن فعلة - بضم الفاء وفتح العين أبدلوا من الواو تاء كتجاة وتكأة فصار تقية ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فجاء { تقاة } قال أبو علي يجوز أن تكون { تقاة } مثل رماة حالاً من { تتقوا } وهو جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقى وجعل فعيل بمنزلة فاعل ، وقرأ ابن عباس والحسن وحميد بن قيس ويعقوب الحضرمي ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو رجاء والجحدري وأبو حيوة «تقية » بفتح التاء وشد الياء على وزن فعيلة وكذلك روى المفضل عن عاصم وأمال الكسائي القاف في { تقاة } في الموضعين ، وأمال حمزة في هذه الآية ولم يمل في قوله : { حق تقاته }{[3086]} وفتح سائر القراء القاف إلا أن نافعاً كان يقرأها بين الفتح والكسر ، وذهب قتادة إلى أن معنى الآية : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } من جهة صلة الرحم أي ملامة ، فكأن الآية عنده مبيحة الإحسان إلى القرابة من الكفار ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى الآية ، إلا أن تخافوا منهم خوفاً وهذا هو معنى التقية .

واختلف العلماء في التقية ممن تكون ؟ وبأي شيء تكون ؟ وأي شيء تبيح ؟ فأما الذي تكون منه التقية فكل قادر غالب مكره يخاف منه ، فيدخل في ذلك الكفار إذا غلبوا وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر ، قال مالك رحمه الله : وزوج المرأة قد يكره ، وأما بأي شيء تكون التقية ويترتب حكمها فذلك بخوف القتل وبالخوف على الجوارح وبالضرب بالسوط وبسائر التعذيب ، فإذا فعل بالإنسان شيء من هذا أو خافه خوفاً متمكناً فهو مكره وله حكم التقية ، والسجن إكراه والتقييد إكراه والتهديد والوعيد إكراه وعداوة أهل الجاه الجورة تقية ، وهذه كلها بحسب حال المكره وبحسب الشيء الذي يكره عليه ، فكم من الناس ليس السجن فيهم بإكراه ، وكذلك الرجل العظيم يكره بالسجن والضرب غير المتلف ليكفر فهذا لا تتصور تقيته من جهة عظم الشيء الذي طلب منه ، ومسائل الإكراه هي من النوع الذي يدخله فقه الحال ، وأما أي شيء تبيح فاتفق العلماء على إباحتها للأقوال باللسان من الكفر وما دونه ومن بيع وهبة وطلاق ، وإطلاق القول بهذا كله ، ومن مداراة ومصانعة ، وقال ابن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان ، إلا كنت متكلماً به . واختلف الناس في الأفعال{[3087]} ، فقال جماعة من أهل العلم منهم الحسن ومكحول ومسروق : يفعل المكره كل ما حمل عليه مما حرم الله فعله وينجي نفسه بذلك ، وقال مسروق : فإن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وقال كثير من أهل العلم منهم سحنون : بل إن لم يفعل حتى مات فهو مأجور وتركه ذلك المباح أفضل من استعماله ، وروي أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له ، نهيت بن الحارث ، أخذته الفرس أسيراً ، فعرض عليه شرب الخمر وأكل الخنزير وهدد بالنار ، فلم يفعل فقذفوه فيها فبلغ ذلك عمر ، فقال :وما كان عليّ نهيت أن يأكل وقال جمع كثير من العلماء التقية إنما هي مبيحة للأقوال ، فأما الأفعال فلا ، روي ذلك عن ابن عباس والربيع والضحاك ، وروي ذلك عن سحنون وقال الحسن في الرجل يقال له : اسجد لصنم وإلا قتلناك ، قال ، إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد يجعل نيته لله ، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه ، قال ابن حبيب : وهذا قول حسن .

قال القاضي : وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير قبله ، وفي كتاب الله { فأين ما تولوا فثم وجه الله }{[3088]} وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة ، هذه قواعد مسألة التقية ، وأما تشعب مسائلها فكثير لا يقتضي الإيجاز جمعه .

وقوله تعالى : { ويحذركم الله } إلى آخر الآية وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة ، وقوله : { نفسه } نائبة عن إياه ، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات ، وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه ، فقال ابن عباس والحسن ، ويحذركم الله عقابه .


[3073]:- المقصود سلام بن أبي الحقيق، وكان شديد الكيد للإسلام وأهله، وهو ممن اشترك في تحريض الأحزاب على غزو المدينة، انظر خبر مقتله في السيرة 2/274.
[3074]:- لم يذكر ابن إسحاق في السيرة شيئا عنه
[3075]:- بطنوا بهم: صاروا من بطانتهم.
[3076]:-هو رفاعة بن عبد المنذر بن رفاعة بن زنبر الأنصاري الأوسي، اختلف في اسمه، من أهل العقبة، وعده ابن إسحاق في البدريين، "الإصابة 4/518).
[3077]:- هو عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري، أخو وات بن جبير، شهد العقبة وبدرا واستشهد بأحد، وهو أمير الرماة يومئذ. "الإصابة 2/286".
[3078]:- هو سعيد بن خيثمة بن الحارث بن مالك الأنصاري الأوسي، يكنى أبا خيثمة أحد النقباء بالعقبة، شهد يدرا واستشهد بها "الإصابة 2/25".
[3079]:- حاطب بن أبي بلتعة: حليف بني أسد بن عبد العزى، شهد بدرا، وفيه نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}، وذلك أنه كاتب بنيه وإخوته بمكة يعلمهم بما عزم عليه الرسول؛ توفي سنة 30، (انظر ترجمته في الإصابة 1/300 وقصة مكاتبته أهل مكة في السيرة: 398-399).
[3080]:- حين حاصر الرسول بني قريظة طلبوا إليه أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأنصاري أخا بني عمرو بن عوف ليستشيروه في أمرهم، فلما وصل إليهم قالوا له: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه "إنه الذبح"، فنزل فيه: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}.
[3081]:- من الآية (106) من سورة النحل.
[3082]:- هذا المثل عجز بيت من شعر، وصدره: ولقد هممت بذاك إذ حبست ............................... والوذم: سيور تشد بها عراقي الدلو، والمثل يضرب للرجل يقطع الأمر دونه: (جمهرة العسكري 1/165 والميداني 2/159).
[3083]:- أخرجه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود، (الجامع الصغير 2/177)، وزاد فيه: "والمكر والخداع في النار".
[3084]:- نقل أبو حيان كلام ابن عطية في إعراب (فليس من الله في شيء) ثم قال: وهو كلام مضطرب لأن تقديره: "فليس من التقرب إلى الله" يقتضي ألا يكون "من الله" خبرا لليس، لأنه غير مستقل، وقوله إن "في شيء" في موضع نصب على الحال يقتضي ألا يكون خبرا، وعلى هذا الكلام لا يكون لها خبر (البحر المحيط 2/423).
[3085]:-في بعض النسخ: إبطانهم.
[3086]:- من الآية (102) من سورة آل عمران.
[3087]:- أي فعل المكره اتقاء الضرر، لأن ما سبق كان في الأقوال.
[3088]:-من الآية (115) من سورة البقرة.