بيّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه فقال : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } بالجزم ، ولكن كسر الذال للساكنين . قال الزجاج : ولو رفع على الخبر جاز ، ولكنه لم يقرأ . والخبر والطلب يقام كل منهما مقام الآخر . وقوله : { من دون المؤمنين } يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم على المؤمنين . عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وهؤلاء كانوا من اليهود يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم . فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود . فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فنزلت هذه الآية . وعن ابن عباس أيضاً في رواية الضحاك : نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدرياً نقيباً ، وكان له حلفاء من اليهود .
فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله ، إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فنزلت . وقال الكلبي : نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيّ وأصحابه - كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم . وقد كرر ذلك في آيات أخر كثيرة { لا تتخذوا بطانة من دونكم }[ آل عمران : 118 ]{ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء }[ المائدة : 51 ]{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله }[ المجادلة : 22 ] .
وكون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها أن يكون راضياً بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله : { يا أيها الذين آمنوا } .
وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه .
والثالث كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، ولهذا قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يظهرون المودّة لكفار مكة مع اعتقاد أن دينهم باطل ، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذراً من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين ، فلا جرم هدد فقال : { من يفعل ذلك فليس من الله } أي من ولايته أو من دينه { في شيء } يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ عن ولاية الله رأساً ، وهذا كالبيان لقوله : { من دون المؤمنين } ليعلم أن الاشتراك بينهم وبين المؤمنين في الموالاة غير متصوّر وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال :
تود عدوّي ثم تزعم أنني *** صديقك ليس النوك عنك بعازب
قال بعض الحكماء : هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدوّ مشفقاً على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما ، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لا بد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة { إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال الجوهري : يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة ، وفاؤها واو كتراث . فالتقاة اسم وضع موضع المصدر . قال الواحدي : ويجوز أن يجعل " تقاة " ههنا مثل " دعاة " و " رماة " فيكون حالاً مؤكدة ، وعلى هذين الوجهين يكون تتقوا مضمناً معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي ب " من " . ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل : ضرب الأمير لمضروبه ، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه . رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه السلام : كن وسطاً وامش جانباً أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله .
وللتقية عند العلماء أحكام منها :
إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرّض في كل ما يقول ما أمكن ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب . ومنه أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما " روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم . - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش - فتركه ودعا الآخر وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فقال : نعم نعم نعم . فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ فقال : إني أصم ثلاثاً ، فقدمه وقتله . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه " ونظير هذه الآية { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }[ النحل : 106 ] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة . وقد يجوز أن تكون أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة .
ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافرين محاماة على النفس . ومنها أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس لقوله صلى الله عليه وسلم : " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " و " من قتل دون ماله فهو شهيد " ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على التيمم إذا بيع الماء بالغبن . قال مجاهد : كان هذا في أول الإسلام فقط لضعف المؤمنين . وروى عوف عن الحسن أنه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة . وهذا أرجح عند الأئمة . { ويحذركم الله نفسه } قيل : أي عقاب نفسه . وفيه تهديد عظيم لمن تعرّض لسخطه بموالاة أعدائه لأن شدة العقاب على حسب قدرة المعاقب . وفائدة ذكر النفس تصريح بأن الذي حذر منه هو عقاب يصدر من الله لا من غيره . وقيل : الضمير يعود إلى اتخاذ الأولياء أي ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.