غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

26

بيّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه فقال : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } بالجزم ، ولكن كسر الذال للساكنين . قال الزجاج : ولو رفع على الخبر جاز ، ولكنه لم يقرأ . والخبر والطلب يقام كل منهما مقام الآخر . وقوله : { من دون المؤمنين } يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم على المؤمنين . عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وهؤلاء كانوا من اليهود يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم . فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود . فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فنزلت هذه الآية . وعن ابن عباس أيضاً في رواية الضحاك : نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدرياً نقيباً ، وكان له حلفاء من اليهود .

فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله ، إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فنزلت . وقال الكلبي : نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيّ وأصحابه - كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم . وقد كرر ذلك في آيات أخر كثيرة { لا تتخذوا بطانة من دونكم }[ آل عمران : 118 ]{ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء }[ المائدة : 51 ]{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله }[ المجادلة : 22 ] .

وكون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها أن يكون راضياً بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله : { يا أيها الذين آمنوا } .

وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه .

والثالث كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، ولهذا قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يظهرون المودّة لكفار مكة مع اعتقاد أن دينهم باطل ، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذراً من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين ، فلا جرم هدد فقال : { من يفعل ذلك فليس من الله } أي من ولايته أو من دينه { في شيء } يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ عن ولاية الله رأساً ، وهذا كالبيان لقوله : { من دون المؤمنين } ليعلم أن الاشتراك بينهم وبين المؤمنين في الموالاة غير متصوّر وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال :

تود عدوّي ثم تزعم أنني *** صديقك ليس النوك عنك بعازب

قال بعض الحكماء : هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدوّ مشفقاً على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما ، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لا بد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة { إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال الجوهري : يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة ، وفاؤها واو كتراث . فالتقاة اسم وضع موضع المصدر . قال الواحدي : ويجوز أن يجعل " تقاة " ههنا مثل " دعاة " و " رماة " فيكون حالاً مؤكدة ، وعلى هذين الوجهين يكون تتقوا مضمناً معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي ب " من " . ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل : ضرب الأمير لمضروبه ، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه . رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه السلام : كن وسطاً وامش جانباً أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله .

وللتقية عند العلماء أحكام منها :

إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرّض في كل ما يقول ما أمكن ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب . ومنه أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما " روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم . - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش - فتركه ودعا الآخر وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فقال : نعم نعم نعم . فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ فقال : إني أصم ثلاثاً ، فقدمه وقتله . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه " ونظير هذه الآية { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }[ النحل : 106 ] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة . وقد يجوز أن تكون أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة .

ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافرين محاماة على النفس . ومنها أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس لقوله صلى الله عليه وسلم : " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " و " من قتل دون ماله فهو شهيد " ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على التيمم إذا بيع الماء بالغبن . قال مجاهد : كان هذا في أول الإسلام فقط لضعف المؤمنين . وروى عوف عن الحسن أنه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة . وهذا أرجح عند الأئمة . { ويحذركم الله نفسه } قيل : أي عقاب نفسه . وفيه تهديد عظيم لمن تعرّض لسخطه بموالاة أعدائه لأن شدة العقاب على حسب قدرة المعاقب . وفائدة ذكر النفس تصريح بأن الذي حذر منه هو عقاب يصدر من الله لا من غيره . وقيل : الضمير يعود إلى اتخاذ الأولياء أي ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل .

/خ34