الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قال ابن عباس : كان الحجّاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد ظفروا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر وعبدالله بن حبير وسعد بن جهيمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا لزومهم ومخاطبتهم وملازمتهم فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية .

وقال المقاتلان : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، كانوا يظهرون المودَّة لكفار مكة فنهاهم اللَّه عزَّ وجل عن ذلك .

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، قال : نزلت في المنافقين عبد اللَّه بن أُبي وأصحابه ، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ، ويرجون أنْ يكون لهم الظفر على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم .

وروى يوسف بن داود الضبي عن بعضهم ، قال : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ } بالرفع خبراً عنهم وفيه معنى النهي كقوله تعالى :

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .

جوبير عن الضحاك عن ابن عباس : نزلت في عُبادة بن الصامت الأنصاري ، وكان بدرياً تقياً ، وكان له حلفاء من اليهود ، فلمّا خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ، قال عبادة : يا نبي اللَّه إنَّ معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهرتهم على العدَّو ، فأنزل اللَّه تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ } الآية .

{ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ } : أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم ، وإظهارهم على عدَّة المسلمين ، { فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } : وفيه اختصار ، أي ليس من دين اللَّه في شيء .

وقال الحسن والسدَّي : ليس من الولاية في شيء ، فقد بريء اللَّه منهُ ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } : يعني : إلاَّ أنْ تخافوا منهم مخافة .

وقرأ أبو العالية عن الحسن ، والضحاك وأبو رجاء وجابر بن زيد وحميد بن مجاهد : تقية على وزن نقية ، [ وخالفهما ] أبو حاتم قال : لأنهم كتبوها بالياء مثل حصاة ونواة إلاَّ بالألف .

قرأ حمزة والكسائي وخلف : " تقية " بالاحتجاج فكان الياء .

وقرأ الباقون " تقاة " بالتضميم . واختاره أبو عبيدة .

وقرأ الأخفش : " تقاءة " مثل تكأة ويؤده ونحوها ، وهي مصدر ( اتقى ) ومثال تقيهُ تُقاةً وتقية وتقيٌ وتقوى ، وإذا قلت : اتقيت كان مصدرهُ الاتقاء ، وإنَّما قال : " تتقوا " من الأتقياء ، ثم قال : " تقاة " ولم يقل اتَّقاء ؛ لأن العرب إذا كان بالكلمتين واحداً واختلف ألفاظها أخرجوا مصدر أحد اللفظين مصدر اللفظ الآخر فيقولون : التقيتُ فلاناً لقاءً حسناً .

وقال القطامي في وصف غيث : قد لجّ بجانب الجبلين . . . . . . . . ركام يحفر الترب احتفاراً

ولم يقل حفراً قال اللَّه تعالى :

{ وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . وقال :

{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] .

وأما معنى الآية فقال المفسرون : نهى اللَّه عزَّ وجلَّ المؤمنين عن ملاطفة الكافرين وموالاتهم ومداهنتهم ومبايعتهم إلاَّ أنْ يكون الكفَّار ظاهرين غالبين ، أو يكون المؤمن في قوم كفَّار ليس فيهم غيره ، ويخافهم ويداريهم باللسان وقلبه مطمئنُ بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أنْ يسفك دماً حراماً ، أو مالاً حراماً ، أو يُظهر الكافرين على عورة المؤمنين ، فالمتَّقي لا يكون إلاَّ مع خوف القتل وسلامة النية كفعل عمار بن ياسر .

عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب ، قال : ورد رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال : ما أراني إلاَّ قد هلكت ، قال : مالك ؟ قال : قد عذّبني قريش . فقلت : ما قالوا ؟ قال : كيف كان قلبك ؟ قال : مطمئن ، قال : فإنْ عادوا لك فعد لهم مثل ذلك ، قالها ثلاث مرات .

المسيب بن عبيدة عن إبراهيم ، قال : قال ابن مسعود : خالطوا النَّاس ونائلوهم وصافحوهم بما يشتهون ، ودينكم لا يكون به ريبة .

وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد : أنا كنت أحبُّ إلى أبيك منك ، وأنت أحبُّ إليَّ من أبي ولذا أوصيك بخصلتين : خالص المؤمن وخالق الكافر ؛ فإنَّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن ، ويحق عليك أن تُخالص المؤمن .

وروي عن جعفر بن محمد الصادق أنَّه قال : التقية واجبة ، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستر بالسارية منهُ لئلا يراني .

وقال : الرياء مع المؤمن شرك ومع المنافق في داره عبادة .

وأنكر قوم التقيَّة اليوم :

فقال معاذ بن جبل عن مجاهد : كانت التقيَّة في جُدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، فأمّا اليوم فقد أعزَّ اللَّه عزَّ وجل الإسلام ، فليس ينبغي لأهل الإسلام أنْ يتّقوا من عدوهم .

وقال يحيى البكاء : قلتُ لسعيد بن جبير في أيام الحجّاج : إنَّ الحسن كان يقول لكم : التقيَّة باللسان والقلب مطمئن بالإيمان . قال سعيد : ليس في الإسلام تقيَّة إنَّما التقيّة في أهل الحرب .

{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } : أي يخوّفكم اللَّه على موالاة الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة المأمور من نفسه .

قال المفسرون : من عذاب نفسه وعقوبته وبطشه .

وقال أهل المعاني : معناه ويحذّركم اللَّه إيَّاه ؛ لأن الشيء والنفس والذات والإسم عبارة عن الوجود ، ونفس الشيء هو الشيء بعينه كقوله :

{ أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 66 ] : أي ليقتل بعضكم بعضاً .

وقال الأعشى :

يوماً بأجود نائلاً منه إذا *** نفس البخيل تجهمت سؤالها

أراد إذا البخيل تجهم سؤاله .

{ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }