قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } ، هذه الآية معطوفة على قوله : { واذكروا إذ أنتم قليل } ، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا ، وإذا قالوا اللهم ، لأن هذه السورة مدنية ، وهذا المكر والقول إنما كانا بمكة ، ولكن الله ذكرهم بالمدينة ، كقوله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله } [ التوبة : 40 ] وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير : أن قريشاً فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ، ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت رؤوسهم : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، وشيبة بن ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمية بن خلف ، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا ، قالوا : ادخل ، فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه ، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه ، كما هلك من كان قبله من الشعراء . قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم ، والله لئن حبستموه في بيت ، فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فيوشك أن يثبوا عليكم ويقاتلوكم ، ويأخذوه من أيديكم ، قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقام هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي فقال : أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير ، وتخرجوه من أظهركم ، فلا يضركم ما صنع ولا أين وقع وإذا غاب عنكم ، واسترحتم منه ، فقال إبليس لعنه الله : ما هذا لكم برأي تعمدون عليه ، تعتمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ؟ ألم تروا إلى حلاوة منطقه ، وحلاوة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه ؟ وأنه لئن فعلتم ذلك ليذهبن ، وليستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم ، فيخرجكم من بلادكم ، قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره ، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً ، نسيباً ، وسيطاً ، فتياً ، ثم يعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقرون على حرب قريش كلها ، وبأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، فتؤدي قريش ديته ، فقال إبليس : صدق هذا الفتى وهو أجودكم رأياً ، القول ما قال ، لا أرى رأياً غيره ، فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون عليه ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي هذه ، فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه ، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله أبصارهم عنه ، فجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } إلى قوله { فهم لا يبصرون } ومضى إلى الغار من ثور ، هو وأبو بكر ، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي عنده ، وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته ، وبات المشركون يحرسون علياً في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا علياً رضي الله عنه ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثاً ، ثم قدم المدينة ، فذلك قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } .
قوله تعالى : { ليثبتوك } ، ليحبسوك ، ويسجنوك ، ويوثقوك .
قوله تعالى : { أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله } ، قال الضحاك : يصنعون ويصنع الله ، والمكر والتدبير ، وهو من الله التدبير بالحق ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر .
30 وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .
أي : و أذكر أيها الرسول ، ما منَّ اللّه به{[342]} عليك . إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه .
وإما أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم - من شره .
وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم .
فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه ، فاتفق رأيهم على رأي : رآه شريرهم أبو جهل لعنه اللّه ، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفا صارما ، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد ، ليتفرق دمه في القبائل . فيرضى بنو هاشم [ ثَمَّ ] بديته ، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش{[343]} ، فترصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه .
فجاءه الوحي من السماء ، وخرج عليهم ، فذرَّ على رءوسهم التراب وخرج ، وأعمى اللّه أبصارهم عنه ، حتى إذا استبطؤوه جاءهم آت وقال : خيبكم اللّه ، قد خرج محمد وذَرَّ على رءوسكم التراب .
فنفض كل منهم التراب عن رأسه ، ومنع اللّه رسوله منهم ، وأذن له في الهجرة إلى المدينة ، فهاجر إليها ، وأيده اللّه بأصحابه المهاجرين والأنصار ، ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة ، وقهر أهلها ، فأذعنوا له وصاروا تحت حكمه ، بعد أن خرج مستخفيا منهم ، خائفا على نفسه .
( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين ) . .
إنه التذكير بما كان في مكة ، قبل تغير الحال ، وتبدل الموقف . وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل ؛ كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر . . ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب ، وما كان فيه من خوف وقلق ؛ في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة . . وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله [ ص ] في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم ، لا مجرد النجاة منهم !
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله [ ص ] ويحبسوه حتى يموت ؛ أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ؛ أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا . . ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله ؛ على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ؛ ليتفرق دمه في القبائل ؛ ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها ، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر !
قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق ، أخبرنا معمر ، أخبرني عثمان الجريري ، عن مقسم مولى ابن عباس ، أخبره ابن عباس في قوله : ( وإذ يمكر بك ) . . . قال : " تشاورت قريش ليلة بمكة . فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي [ ص ] - وقال بعضهم : بل اقتلوه . وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه [ ص ] على ذلك ؛ فبات عليّ - رضي الله عنه - على فراش رسول الله [ ص ] وخرج النبي [ ص ] حتى لحق بالغار . وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي [ ص ] فلما أصبحوا ثاروا إليه ؛ فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا ? قال : لا أدري ! فاقتصوا أثره ؛ فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل ، فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه . . فمكث فيه ثلاث ليال " .
( ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين ) .
والصورة التي يرسمها قوله تعالى : ( ويمكرون ويمكر الله ) . . صورة عميقة التأثير . . ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون . . والله من ورائهم ، محيط ، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون !
إنها صورة ساخرة ، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة القادرة . . قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شيء محيط ?
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ؛ فيهز بها القلوب ، ويحرك بها أعماق الشعور .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { لِيُثْبِتُوكَ } [ أي ] :{[12866]} ليقيدوك .
وقال عطاء ، وابن زيد : ليحبسوك .
وقال السُّدِّيّ : " الإثبات " . هو الحبس والوثاق .
وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء ، وهو مجمع الأقوال{[12867]} وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء .
وقال سُنَيْد ، عن حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قال عطاء : سمعت عُبَيْد بن عُمَيْر يقول : لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال : " يريدون أن يسحروني{[12868]} أو يقتلوني أو يخرجوني " ، فقال : من أخبرك{[12869]} بهذا ؟ قال : " ربي " ، قال : نعم الرب ربك ، استوص به خيرا فقال : " أنا أستوصي به ؟ ! بل هو يستوصي بي " {[12870]}
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني محمد بن إسماعيل البصري ، المعروف بالوساوسي ، أخبرنا عبد الحميد بن أبي رَوَّاد{[12871]} عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن المطلب بن أبي وَدَاعةِ ، أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر بك قومك ؟ قال : " يريدون أن يسحروني{[12872]} أو يقتلوني أو يخرجوني " . فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : " ربي " ، قال : نعم الرب ربك ، فاستوص به خيرا ، " قال : أنا أستوصي به ؟ ! بل هو يستوصي بي " . قال : فنزلت : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } الآية{[12873]}
وذِكر أبي طالب في هذا ، غريب جدا ، بل منكر ؛ لأن هذه الآية مدنية ، ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما كان ليلة الهجرة سواء ، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بعد موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه . والدليل على صحة ما قلنا : ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار صاحب " المغازي " عن عبد الله بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : وحدثني الكلبي ، عن باذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس ؛ أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة ، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم{[12874]} إبليس في صورة شيخ جليل ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم ، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي . قالوا : أجل ، ادخل فدخل معهم فقال : انظروا في شأن هذا الرجل ، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره . قال : فقال قائل منهم : احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم ، قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال : والله ما هذا لكم برأي ، والله ليخرجنه ربه من محبسه{[12875]} إلى أصحابه ، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ، فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم . قال : فانظروا في غير هذا .
قال : فقال قائل منهم : أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع ، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم ، وكان أمره في غيركم ، فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة [ قوله ]{[12876]} وطلاوة لسانه ، وأخذ القلوب ما تسمع{[12877]} من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ، ثم استعرض العرب ، ليجتمعن عليكم{[12878]} ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم . قالوا : صدق والله ، فانظروا بابا غير هذا .
قال : فقال أبو جهل ، لعنه الله : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم تصرمونه{[12879]} بعد ، ما أرى غيره . قالوا : وما هو ؟ قال : نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدًا ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل [ كلها ]{[12880]} فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها . فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، واسترحنا وقطعنا عنا أذاه .
قال : فقال الشيخ النجدي : هذا والله الرأي . القول ما قال الفتى لا رأي غيره ، قال : فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له{[12881]}
فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأخبره بمكر القوم .
فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة " الأنفال " يذكر نعمه{[12882]} عليه وبلاءه عنده : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } وأنزل [ الله ]{[12883]} في قولهم : " تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء " ، { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [ الطور : 30 ] وكان ذلك اليوم يسمى " يوم الزحمة " {[12884]} للذي اجتمعوا عليه من الرأي{[12885]}
وعن السُّدِّيّ نحو هذا السياق ، وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 76 ] .
وكذا روى العَوْفي ، عن ابن عباس . وروي عن مجاهد ، وعُرْوة بن الزبير ، وموسى بن عُقْبَة ، وقتادة ، ومِقْسَم ، وغير واحد ، نحو ذلك .
وقال يونس بن بُكَيْر ، عن ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله ، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به ، وأرادوا به ما أرادوا ، أتاه جبريل ، عليه السلام ، فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه{[12886]} فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجى ببُرد له أخضر ، ففعل . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه ، وخَرَج معه بحفنة من تراب ، فجعل يذرها على رؤوسهم ، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } إلى قوله : { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } [ يس : 1 - 9 ] .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : روي عن عكرمة ما يؤكد هذا{[12887]}
وقد روى [ أبو حاتم ]{[12888]} ابن حِبَّان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : دخلت فاطمةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، فقال : " ما يبكيك يا بُنَيَّة ؟ " قالت : يا أبت ، [ و ]{[12889]} ما لي لا أبكي ، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجْر يتعاقدون باللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى ، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك ، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك . فقال : " يا بنية ، ائتني بوَضُوء " . فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج إلى المسجد . فلما رأوه قالوا : إنما هو ذا{[12890]} فطأطؤوا رؤوسهم ، وسقطت أذقانهم بين أيديهم ، فلم يرفعوا أبصارهم . فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها ، وقال : " شاهت الوجوه " . فما أصاب رجلا منهم حَصَاة من حصياته إلا قُتل يوم بدر كافرا .
ثم قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، ولا أعرف له علة{[12891]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، أخبرني عثمان الجَزَري ، عن مِقْسَم مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ } قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم : بل اقتلوه . وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم{[12892]} حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليًّا رَدَّ الله تعالى مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ قال : لا أدري . فاقتصا{[12893]} أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال{[12894]}
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } أي : فمكرت بهم بكيدي المتين ، حتى خلصتك منهم .
يجوز أن يكون عطف قصة على قصة من قصص تأييد الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين فيكون { إذْ } متعلقاً بفعل محذوف تقديره واذْكر إذ يمكر بك الذين كفروا ، على طريقة نظائِره الكثيرة في القرآن .
ويجوز أن يكون عطفاً على قوله : { إذْ أنتم قليل مستضعفون في الأرض } [ الأنفال : 26 ] فهو متعلق بفعل ( اذكروا ) من قوله { واذكروا إذ أنتم قليل } [ الأنفال : 26 ] ، فإن المكر بالرسول عليه الصلاة والسلام مكر بالمسلمين ويكون ما بينهما اعتراضاً . فهذا تعداد لنعم النصر ، التي أنعم الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، في أحوال ما كان يظن الناس أن سيجدوا منها مخلصاً ، وهذه نعمة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإنعام بحياته وسلامته نعمة تشمل المسلمين كلهم ، وهذا تذكير بأيام مُقامهم بمكة ، وما لاقاه المسلمون عموماً وما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً وأن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم سلامة لأمته .
والمكر إيقاع الضر خُفية ، وتقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } في [ آل عمران : 54 ] ، وعند قوله تعالى : { أفأمنوا مكرَ الله } في سورة [ الأعراف : 99 ] .
والإتيان بالمضارع في موضع الماضي الذي هو الغالب مع { إذ } استحضار للحالة التي دبروا فيها المكر ، كما في قوله تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتُثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] .
ومعنى : { ليُثبتوك } ليحبسوك يقال أثبته إذا حبَسه ومنعه من الحركة وأوثقه ، والتعبير بالمضارع في { يثبتوك } ، و{ يقتلوك } ، و{ يخرجوك } ، لأن تلك الأفعال مستقبلة بالنسبة لفعل المكر إذ غاية مكرهم تحصيل واحد من هذه الأفعال .
وأشارت الآية إلى تردد قريش في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا للتشاور في ذلك بدار الندوة في الأيام الأخيرة قُبيل هجرته ، فقال أبو البختري : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق وسُدوا عليه باب بيت غير كَوة تُلْقون إليه منها الطعام ، وقال أبو جهل : أرى أن نأخذ من كل بَطن في قريش فتىً جَلْداً فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفاً ويأتون محمداً في بيته فيضربونه ضربة رجل واحد فلا تقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها فيأخذون العقل ونستريح منه ، وقال هشام بن عَمرو : الرأي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظْهُرِكُم فلا يضركم ما صنع .
وموقع الواو في قوله { ويمكرون } لم أر أحداً من المفسرين عرج على بيانه وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون واو الحال ، والجملة حال من { الذين كفروا } وهي حال مؤسسة غيرُ مؤكدة ، باعتبار ما اتصل بها من الجملة المعطوفة عليها ، وهي جملة : { ويمكرُ الله } فقوله : { ويمكر الله } هو مناط الفائِدة من الحال ومَا قبله تمهيد له وتنصيص على أن مكرهم يقارنه مكر الله بهم ، والمضارع في { يمكرون } و { يمكر } الله لاستحضار حالة المكر .
وثانيهما : أن تكون وَاو الاعتراض أي العطف الصوري ، ويكون المراد بالفعل المعطوف الدوامَ أي هم مكروا بك لثبِتوك أو يقتلوك أو يخرجوك وهم لا يزالون يمكرون كقول كعب بن الأشرف لمحمد بن مَسلمة « وأيضاً لتَمَلّنَه » يعني النبي ، فتكون جملة { ويمكرون } معترضة ويكون جملة : { ويمكر الله } معطوفة على جملة : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } والمضارع في جملة : { ويمكرون } للاستقبال والمضارع في { ويَمكر الله } لاستحضار حالة مكر الله في وقت مكرهم مثل المضارع المعطوف هو عليه .
وبيان معنى إسناد المكر إلى الله تقدم : في آية سورة آل عمران [ 54 ] وآية سورة الأعراف [ 99 ] وكذلك قوله : { والله خير الماكرين } .
والذين تولوا المكر هم سادة المشركين وكبراؤهم وأعوان أولئك الذين كان دأبهم الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي نزول القرآن عليه ، وإنما أسند إلى جميع الكافرين لأن البقية كانوا أتباعاً للزعماء يأتمرون بأمرهم ، ومن هؤلاء أبو جهل ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية بن خلف ، وأضرابهم .