معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } ، هذه الآية معطوفة على قوله : { واذكروا إذ أنتم قليل } ، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا ، وإذا قالوا اللهم ، لأن هذه السورة مدنية ، وهذا المكر والقول إنما كانا بمكة ، ولكن الله ذكرهم بالمدينة ، كقوله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله } [ التوبة : 40 ] وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير : أن قريشاً فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ، ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت رؤوسهم : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، وشيبة بن ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمية بن خلف ، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا ، قالوا : ادخل ، فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت ، وتشدوا وثاقه ، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه ، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه ، كما هلك من كان قبله من الشعراء . قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم ، والله لئن حبستموه في بيت ، فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فيوشك أن يثبوا عليكم ويقاتلوكم ، ويأخذوه من أيديكم ، قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقام هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي فقال : أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير ، وتخرجوه من أظهركم ، فلا يضركم ما صنع ولا أين وقع وإذا غاب عنكم ، واسترحتم منه ، فقال إبليس لعنه الله : ما هذا لكم برأي تعمدون عليه ، تعتمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ؟ ألم تروا إلى حلاوة منطقه ، وحلاوة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه ؟ وأنه لئن فعلتم ذلك ليذهبن ، وليستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم ، فيخرجكم من بلادكم ، قالوا : صدق الشيخ النجدي ، فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره ، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً ، نسيباً ، وسيطاً ، فتياً ، ثم يعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقرون على حرب قريش كلها ، وبأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، فتؤدي قريش ديته ، فقال إبليس : صدق هذا الفتى وهو أجودكم رأياً ، القول ما قال ، لا أرى رأياً غيره ، فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون عليه ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي هذه ، فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه ، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب ، فأخذ الله أبصارهم عنه ، فجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } إلى قوله { فهم لا يبصرون } ومضى إلى الغار من ثور ، هو وأبو بكر ، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي عنده ، وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته ، وبات المشركون يحرسون علياً في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا علياً رضي الله عنه ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثاً ، ثم قدم المدينة ، فذلك قوله تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } .

قوله تعالى : { ليثبتوك } ، ليحبسوك ، ويسجنوك ، ويوثقوك .

قوله تعالى : { أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله } ، قال الضحاك : يصنعون ويصنع الله ، والمكر والتدبير ، وهو من الله التدبير بالحق ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر .

قوله تعالى : { والله خير الماكرين } .