الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } هذه الآية معطوفة على قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } [ الأنفال : 26 ] . { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } . { وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ } لأن هذه السورة مدنية .

وهذا القول والمكر كان بمكة ، ولكن الله تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ } [ التوبة : 40 ] وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشاً لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت روؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأُميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح ، قالوا : ادخل فدخل .

فقال أبو البحتري : أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة ، وإنّما هو كأحدهم .

فصرخ إبليس الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره ، وقد سمع به مَنْ حولكم ، [ فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم ] ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم .

قالوا : صدق الشيخ . فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي : أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم [ ما ضر من ] وقع إذا غاب عنكم واسترحم وكان أمره في غيركم . فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون الى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به الى غيركم يفسدهم كما أفسدكم ، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه . والله لئن فعلتم ، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم .

قالوا : صدق والله الشيخ .

فقال أبو جهل : لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره : إني أرى أن نأخذ واحداً من كل بطن من قريش غلاماً وسبطاً ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفاً صارماً ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمّه في القبائل كلّها ، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا ، فقال إبليس : صدق هذا الفتى و[ هذا ] أجودكم رأياً ، القول ما قاله لا أرى غيره .

فتفرقوا على قول أبي جهل ، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج الى المدينة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه فنام في مضجعه فقال : اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه .

ثمّ خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخذ قبضه من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ

{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } [ يس : 8 ] ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلّف عليّا رضي الله عنه بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليّاً رضي الله عنه وهو على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنّه النبيّ ، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليّاً رضي الله عنه .

وقد ردّ الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلاّ وضع على رأسه التراب .

فقالوا : أين صاحبك ؟

قال : لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل ، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت ، وقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } .

قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي : ليوثقوك . وقال قتادة : ليشدوك وثاقاً .

وقال عطاء . وعبد الله بن كثير : ليسجنوك . وقال أبان بن ثعلب . وأبو حاتم : ليثخنوك بالجراحات والضرب . وأنشد :

فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم *** قالوا ألخليفة امسى مثبتاً وجعاً

وقيل : معناه ليسخروك .

وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة " أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدري ما أضمر بك قومك ؟

قال : " نعم [ يريدون ] أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني " فقال : مَنْ أخبرك بهذا ؟

قال : " ربّي " .

قال : نِعم الرب ربّك فاستوصِ ربّك خيراً .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيراً " .

وقرأ إبراهيم النخعي ( وليثبتوك ) من البيات { أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } قال الحسن : فيقولون ويقول الله .

وقال الضحاك : ويصنعون ويصنع الله { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } خير من استنقذك منهم وأهلكهم