قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } الآية .
هذا الظرفُ معطوفٌ على الظَّرف قبله ؛ لأنّ هذه السُّورة مدنيَّة ، وهذا المكر والقول إنما كان بمكَّة ولكنَّ الله ذكرهم بالمدينة لقوله تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } [ التوبة : 40 ] .
واعلم أنه لمَّا ذكَّر المؤمنين بنعمه عليهم بقوله : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } فكذلك ذكر رسوله بنعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين .
قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادة وغيرهم : إن قريشاً فزعوا - لمَّا أسلمت الأنصار - أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت رُءُوسهُم عتبة ، وشيبه ابنا ربيعة ، وأبو جهل ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسودِ ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأمية بن خلف فاعترضهم إبليسُ في صورة شيخ ، فلما رَأوْهُ قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منّي رأياً ونصحاً ، قالوا : ادخل فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتُقَيِّدُوه ، وتحبسوه في بيت وتسدُّوا باب البيت غير كوة وتلقون إليه طعامه وشرابه ، وتَتربَّصُوا به رَيْبَ المنُون حتَّى يهلك فيه كما هلك من قبلهُ من الشعراء ، فصرخ عدوُّ الله الشيخُ النَّجدي وقال : بئس الرأي والله إن حبستموه في بيت ليخرجن أمره من وراء البيت إلى أصحابه ، فيوشك أن يَثِبُوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم .
وقال بعضهم : أخرجوه من عندكم تستريحُوا من أذاه لكم .
فقال إبليس : ما هذا برأي ، تعمدُون إلى رجلٍ قد أفسد سفهاءكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ، ألَمْ تَرَوْا حلاوة منطقه ، وطلاقة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه ؟ والله لَئِن فعلتم ذلك لاستمال قلوب قومٍ ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم قالوا : صدق والله الشيخ .
فقال أبو جهل : إنِّي أرى أن تأخذُوا من كلِّ بطنٍ من قريش شابّاً نسيباً وسطاً فتيّاً ثم يُعْطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه ضربة رجل واحدٍ ، فإذا قتلوهُ تفرَّق دمهُ بين القبائلِ كلها ، ولا أظن هذا الحيّ من بني هاشم يَقوونَ على حرب قريش كلها فيرضونَ بأخذ الدِّية فتؤدي قريش ديته .
فقال إبليس : صدق هذا الفتى وهو أجودكم رأياً ، فتفرقوا على رأي أبي جهل فأوْحَى اللَّهُ تعالى إلى نبيِّه بذلك ، وأذن له في الخُرُوج إلى المدينة ، وأمره ألاَّ يبيت في مضجعه ، فأمر الرسُول عليّاً أن يبيت في مضجعه وقال : اتَّشح ببُرْدَتي ؛ فإنَّه لنْ يصلَ إليك أمرٌ تكرهه ، ثمَّ خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من ترابٍ ، وأخذ اللَّهُ أبصارهم عنه وجعل ينثر التُّراب على رءوسهم ، وهو يقرأ
{ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } إلى قوله : { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 8-9 ] ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر ، وخلف عليّاً بمكَّة حتَّى يؤدِّي عنه الودائع التي كانت توضع عنده لصدقه وأمانته ، وباتُوا مُترصِّدين ، فلمَّا أصبحوا ثَارُوا إلى مضجعه فأبصروا عليّاً فبهتوا .
قال : لا أدري فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رَأوْا على بابه نسخ العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ؛ فمكث فيه ثلاثاً ثم قدم المدينة فذلك قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ }{[17290]} .
وقوله " لِيُثُبِتُوكَ " متعلِّقٌ ب " يَمْكُرُ " والتثبيتُ هنا الضَّربُ ، حتَّى لا يبقى للمضروب حركة ؛ قال : [ البسيط ]
فَقلتُ : ويْحَكَ ماذا فِي صَحيفتكُمْ ؟ *** قالوا : الخَليفَةُ أمْسَى مُثْبَتاً وجِعَا{[17291]}
وقرأ ابن{[17292]} وثَّابٍ " لِيُثِّبتُوكَ " فعدَّاهُ بالتضعيف ، وقرأ النخعي{[17293]} " لِيبيتُوك " من البيات والمعنى :
قال ابنُ عبَّاسٍ : ليوثقوك ومن شد فقد أثبت ؛ لأنَّهُ لا يقدر على الحركة ، ولهذا يقال لمن اشتدَّتْ به علة أو جراحة تمنعه من الحركة قد أثْبِتَ فلانٌ ، فهو مُثْبَتٌ{[17294]} .
وقيل : ليسجنوك ، وقيل : ليثبتوك في بيتٍ ، أو يقتلوك ، وهو ما حكي من أبي جهل " أو يُخْرِجُوكَ " من مكَّة كما تقدم .
ثم قال : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } قال الضحاكُ : يصنعون ويصنع اللَّهُ ، والمكرُ من الله التدبير بالحقِّ ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر . { والله خَيْرُ الماكرين } وقد تقدَّم الكلام في تفسير " المَكْرِ " في حق الله تعالى في آل عمران عند قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } .
فإن قيل : كيف قال { والله خَيْرُ الماكرين } ولا خير في مكرهم ؟
فالجوابُ من وجوه : أحدها : أنَّ المراد أقوى الماكرين ، فوضع " خَيْرٌ " موضع " أقْوَى " تنبيهاً على أنَّ كُلَّ مكر ، فإنَّهُ يبطل في مقابلة فعل اللَّهِ تعالى .
وثانيها : أنَّ المُرادَ لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً .
وثالثها : أنَّ المراد ليس هو التفضيل ، بل المرادُ أنَّهُ في نفسه خير كقولك : الزبد خير من الله ، أي : من عند اللَّهِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.