بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } ؛ وذلك أن نفراً من قريش اجتمعوا في دار الندوة ؛ وكانت قريش إذا اجتمعوا للمشورة والتدبير يجتمعون في تلك الدار ، فاجتمعوا فيها وأغلقوا الباب لكيلا يدخل رجل من بني هاشم ، ليمكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحتالوا في أمره ؛ فدخل إبليس في صورة شيخ وعليه ثياب أطمار ، وجلس معهم فقالوا من أدخلك أيها الشيخ في خلوتنا بغير إذننا ؟ فقال : أنا رجل من أهل نجد ، ورأيت حسن وجوهكم وطيب ريحكم ، فأردت أن أسمع حديثكم ، وأقتبس منكم خيراً وقد عرفت مرادكم ، فإن كرهتم مجلسي خرجت عنكم . فقالوا : هذا رجل من أهل نجد وليس من أرض تهامة ، لا بأس عليكم منه فتكلموا فيما بينهم . فقال عمرو بن هشام : أرى أن تأخذوه وتجعلوه في بيت وتسدوا بابه ، وتجعلوا له كوة لطعامه وشرابه حتى يموت . فقال إبليس : بئس الرأي الذي رأيت ، تعمدون إلى رجل له فيكم أهل بيت ، وقد سمع به من حولكم فتحبسونه وتطعمونه ، يوشك أهل بيته الذين فيكم أن يقاتلوكم أو يفسدوا جماعتكم . فقالوا : صدق والله الشيخ .

ثم تكلم أبو البختري بن هشام قال : أرى أن تحملوه على بعير ثم تخرجوه من أرضكم ، حتى يموت أو يذهب به حيث شاء ، فقال إبليس عدو الله : بئس الرأي الذي رأيت ، تعمدون إلى رجل أفسد جماعتكم ومعه منكم طائفة ، فتخرجوه إلى غيركم ، فيأتيهم سوء فيفسد منهم أيضاً جماعة ، ويقبل إليكم ويكون فيه هلاككم . فقالوا : صدق والله الشيخ .

فقال أبو جهل : أرى أن يجتمع من كل بطن منكم رجل ، ثم تعطونهم السيوف فيضربونه جميعاً ، فلا يدري قومه من يأخذون وتؤدي قريش ديته . فقال إبليس : صدق والله هذا الشاب . فتفرقوا على ذلك ، فأمر الله تعالى بالهجرة وأخبره بمكر المشركين فنزلت هذه الآية { وَإِذْ يَمْكُرُ بك الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } ، يعني ليحبسوك في البيت { أو يقتلوك } بالبيت ، { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة .

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب بأن يبيت في مكانه ، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه ونام عليّ مكانه ، وأهل مكة يحرسونه ويظنون أنه في البيت ؛ ثم دخلوا البيت ، فإذا هو عليّ رضي الله عنه فقالوا : يا عليّ أين محمد ؟ فقال : لا أدري . فطلبوه فلم يجدوه . { وَيَمْكُرُونَ } ، يعني ويمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويريدون به الشر { وَيَمْكُرُ الله } ، يعني يريد بهم الهلاك حين أخرجهم إلى بدر فقتلوا . { والله خَيْرُ الماكرين } ، يعني أصدق الماكرين فعلاً وأفضل الصانعين صنعاً وأعدل العادلين عدلاً .