محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

وقوله تعالى :

30 { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }

{ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }

لما ذكّر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل } ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم نعمته عليه خاصة ، في حفظه من مكر قريش{[4352]} به ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم ، واستيلائه عليهم . وذلك أن قريشا لما أسلمت الأنصار ، وأخذ نور الإسلام في الانتشار فرقوا أن يتفاقم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ( وهي دار بناها قصي بن كلاب ليصلح فيها بين قريش . ثم صارت لمشاورتهم . وهي الآن مقام الحنفيّ . والندوة الجماعة من القوم ، وندا بالمكان اجتمع فيه ، ومنه النادي ) ليتشاورا في أمره صلى الله عليه وسلم . فقال أبو البختري بن هشام : رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه ، غير كوّة ، تلقون إليه طعامه وشرابه منها ، وتتربصون به ريب المنون . وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : { ليثبتوك } أي ليحبسوك ويوثقوك ، لأن كل من حبس شيئا وربطه فقد جعله ثابتاً لا يقدر على الحركة منه . ثم اعترض هذا الرأي شيخ نجدي دخل معهم ، فقال : بئس الرأي ! يأتيكم من يقاتلكم من قومه ، ويخلصه من أيديكم ! ثم قال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل ، وتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يضركم ما صنع واسترحتم . وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : { أو يخرجوك } يعني من مكة ثم اعترض النجدي أيضا بقوله : بئس الرأي ! يفسد قوما غيركم ، ويقاتلكم بهم ، فقال أبو جهل - لعنه الله - : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما ، وتعطوه سيفا فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا . وهذا ما ذكر ه تعالى بقوله : { أو يقتلوك } . ثم قال النجدي اللعين : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأيا . فتفرقوا على رأي أبي جهل ، مجمعين على قتله . فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأذن الله له بالهجرة . فأمر عليا ، فنام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي ، / فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه . ثم خرج صلى الله عليه وسلم ، وأخذ قبضة من تراب فأخذ الله بأبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ : { يس والقرآن الحكيم } إلى قوله : { فهم لا يبصرون } {[4353]} ومضى مع أبي بكر إلى الغار ، وبات المشركون يحرسون عليَّا ، يحسبون أنه النبيّ . فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه ، فرأوا عليَّا ، فقالوا : أين صاحبك ؟ فقال : لا أدري ! فاتبعوا أثره فلما بلغوا الغار ، رأوا نسج العنكبوت على بابه ، فقالوا : لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر . وخيب الله سعيهم ، وأبطل مكرهم . ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثا ، ثم خرج إلى المدينة .

روي عن ابن عباس من طرق عند ابن إسحاق والإمام أحمد والحاكم والبيهقي - دخلت روايات بعضهم في بعض- .

وقوله تعالى : { ويمكر الله } أي يدبر ما يبطل مكرهم . وقوله تعالى : { والله خير الماكرين } أي أعظمهم تأثيرا ، قاله المهايمي وأفاد أيضا في مناسبة هذه الآية مع ما قبلها ؛ أن هذه تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقانا يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهرا ، يحفظه من مكر من مكر به ، بل يمكر له على ماكره . انتهى .


[4352]:انظر سيرة ابن هشام الصفحات رقم 324 و 325 و 326 (طبعة جوتنجن) والصفحات رقم 124 و 125 و 126 و 127 و 128 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي).
[4353]:36 / يس / 1-9.