الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ} (30)

قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا }[ 30 ] ، الآية .

المعنى : واذكر ، يا محمد ، إذ{[27236]} يمكر .

وهذه الآية تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم ، بنعم الله عز وجل ، عليه و { الذين كفروا } : هم مشركو قريش{[27237]} .

قال [ ابن عباس ]{[27238]} معنى { ليثبتوك }[ 30 ] ، ليوثقوك وليثقفوك{[27239]} .

وكذلك قال مجاهد : وقتادة{[27240]} . وذلك بمكة{[27241]} .

وقال السدي : { ليثبتوك } : ليحبسوك ويوثقوك{[27242]} .

وقال ابن زيد ، وابن جريج : ليحبسوك{[27243]} .

وقال ابن عباس : اجتمع نفر من قريش من أشرافهم ، في دار الندوة ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل ، فلما رأوه{[27244]} قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم ، فأردت أن أحضركم ، ولن يعدمكم{[27245]} مني رأي ونصح .

قالوا : أجل ، ادخل ، فدخل معهم ، فقال : انظروا في أمر هذا الرجل ، والله ليوشكن أن يواثبكم{[27246]} في أمركم بأمره .

فقال قائل منهم : احبسوه في وثاق . ثم تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء{[27247]} . فصرخ عدو الله الشيخ النجدي وقال : والله ، ما هذا لكم برأي ، والله ليخرجنه رأيه{[27248]} من محبسه إلى أصحابه ، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم ، /فما آمنُ{[27249]} أن يخرجوكم من بلادكم ، فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه . فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا برأي ، ألم تروا حلاوة قوله ولطافة لسانه ، وأخذ القلوب لما يسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ليستعرضن{[27250]} وليجمعن عليكم ، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ، قالوا : صدق ، قال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه ، قالوا : وما هوا ؟ قال : تأخذون من كل قبيلة غلاما وسيطا{[27251]} شابا ، ثم نعطي كل غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل ، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون{[27252]} على حرب قريش ، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل{[27253]} . واسترحنا . فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأي ، القول ما قال الفتى ، فتفرقوا على ذلك ، وأتى جبريل ( النبي ) صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأخبره بمكر القوم ، ثم أمره بالخروج ، فأنزل الله عليه بالمدينة : " الأنفال " يذكره نعمه عليه في قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك } ، الآية . فأنزل{[27254]} في قولهم{[27255]} " نتربص{[27256]} به حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء " : { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون }{[27257]} .

وكان يسمى ذلك اليوم الذي اجتمعوا فيه " يوم{[27258]} الزحمة{[27259]} " .

ولما أجمعوا على ذلك باتوا يحرسونه ليوقعوا به بالغداة{[27260]} . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر إلى الغار ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، عليا أن يبيت في موضعه ، فتوهم المشركون أنه [ النبي ] صلى الله عليه وسلم ، فباتوا يحرسونه ، فلما أصبح{[27261]} وجدوا عليا ، فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، فركبوا وراءه كل صعب وذلول{[27262]} يطلبونه ، ومروا بالغار قد نسج على فمه العنكبوت ، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم ، فيه ثلاثا{[27263]} .

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لعلي : نم على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي{[27264]} ؛ فإنه لن يخلص إليك{[27265]} شيء تكرهه ، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو جهل وأصحابه على الباب ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ، حفنة{[27266]} من تراب ، وأخذ الله بأبصارهم فلا يرونه ، فجعل يثير التراب على رؤوسهم ، وهو يقرأ : { يس } إلى قوله : { فهم لا يبصرون }{[27267]} . فلم يبق منهم رجل إلا وضع النبي صلى الله عليه وسلم ، على رأسه ترابا ، وانصرف إلى حيث أراد ، فآتاهم آت فأعلمهم بحالهم ، فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فوجد ترابا ، فانصرفوا بِخزي وذل{[27268]} .


[27236]:الظرف معمول لفعل محذوف، أي: واذكر، يا محمد، وقت مكر الكافرين بك....، كما في فتح القدير 2/346.
[27237]:جامع البيان 13/391، بتصرف. وانظر: معاني القرآن للزجاج 2/410.
[27238]:زيادة من "ر". ومصادر التوثيق أسفله.
[27239]:جامع البيان 13/491، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1668، والدر المنثور 4/53، من غير: "ليثقفوك" في الجميع. ولم أجد هذه الزيادة فيما لدي من مصادر. وفي المصباح / ثقف: "ثقفت الشيء ثقفا، من باب تعب: أخذته وثقفت الرجل في الحرب أدركته وثقفته: ظفرت به".
[27240]:جامع البيان 13/491، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1688، قتادة وحده، وتفسير ابن كثير 2/302، باختلاف وزيادة في بعض ألفاظه.
[27241]:تفسير هود بن محكم الهواري 2/85، وجامع البيان 13/492، وهو قول مجاهد في تفسير ابن أبي حاتم 5/1688، والدر المنثور 4/53.
[27242]:تفسير ابن أبي حاتم 5/1688، وفي جامع البيان 13/492، وتفسير ابن كثير 2/302 بلفظ "الإثبات"، هو الحبس الوثاق. قال ابن كثير: "...وهو مجمع الأقوال، وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء".
[27243]:جامع البيان 13/492، وفيه "...عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله، قال: "يسجنوك"، وفي تفسير ابن أبي حاتم 5/1688: "...عن ابن جريج قال: وأنبأنا عطاء...". وفي تفسير ابن كثير 2/302، "وقال عطاء وابن زيد" وهو قول ابن عباس أيضا في غريبه 46، بلفظ: "...يعني: يحبسوك بلغة قريش".
[27244]:في الأصل: راه، وهو تحريف. وفي "ر" أفسدته الرطوبة والأرضة.
[27245]:من باب: تعب....وقال أبو حاتم: عدِمني الشيء وأعدمني: فقدني. المصباح / عدم.
[27246]:كأنه في المخطوطتين: إن توانيم ولا يستقيم به المعنى. وأثبت ما في جامع البيان 13/495، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1687، وتفسير ابن كثير 2/302، وفي الدر المنثور 4/51، أن يواتيكم، وقال الشيخ محمود شاكر، في هامش تحقيقه، جامع البيان 13/495، وهو لا معنى له.
[27247]:في الأصل: الشعر، وهو تحريف.
[27248]:في تفسير ابن أبي حاتم 5/1685: "ليخرجن رأية من محبسه"، وفي جامع البيان 13/495، وتفسير ابن كثير 2/302: "ليخرجنه ربه من محبسه"، وفي سيرة ابن هشام 1/481،: "ليخرجن أمره من وراء الباب...".
[27249]:في الأصل: فما أمروا، وهو تحريف.
[27250]:في "ر": ليستعوضن، بالواو، وهو تحريف، وفي جامع البيان 13/495، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1687، وتفسير ابن كثير 2/302، والدر المنثور 4/51: "والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب...".
[27251]:أي: أوسطهم نسبا، وأرفعهم محلا القاموس / وسط.
[27252]:في الأصل: يقوان، وهو تحريف.
[27253]:عقلت القتيل عقلا: أديت ديته. قال الأصمعي: سميت الدية عقلا تسمية بالمصدر؛ لأن الإبل كانت تُعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق "العقل على الدية إبلا كانت أو نقدا. المصباح / عقل.
[27254]:في "ر": وأنزل.
[27255]:في الأصل: قلوبهم، وهو تحريف.
[27256]:في الأصل: يتربص، وهو تصحيف.
[27257]:الطور: آية 28.
[27258]:في "ر: الدحمة، بالدال المهملة، وهو تحريف.
[27259]:جامع البيان 13/494، 495 بتصرف يسير، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1686، 1687، من غير: "فأنزل في قولهم...يوم الزحمة"، وتفسير ابن كثير 2/302، 303، وهو في سيرة ابن هشام 1/480، وما بعدها، بلفظ مغاير. قال الشيخ محمود شاكر في هامش تحقيقه، جامع البيان 13/496: "ومما اعترض به على هذا الخبر أن آية سورة "الطور" آية مكية في سورة مكية، نزلت قبل الهجرة بزمان، وسياق ابن إسحاق للآية بعد الخبر، يوهم أنها نزلت ليلة الهجرة، أو بعد الهجرة، وهذا لا يكاد يصح". ولعل هذا الملحظ هو الذي جعل ابن أبي حاتم يعرض عن ذكر آية سورة الطور في تفسيره.
[27260]:الغداة: الضحوة، وهي مؤنثة قال ابن الأنباري: ولم يسمع تذكيرها، ولو حملها حامل على معنى أول النهار جاز له التذكير. المصباح / غدا.
[27261]:في "ر": فلما أصبح وجد.
[27262]:الذل، بالكسر، اللين، وهو ضد الصعوبة. ذلَّ يذل ذُلا وذِلا، فهو ذلول. اللسان / ذلل.
[27263]:انظر: جامع البيان 13/496، 497، فنص مكي هاهنا مستخلص من أثرين ساقهما ابن جرير بسنده، الأول عن عكرمة، والثاني عن ابن عباس.
[27264]:في "ر": الحصر مني، وهو تحريف.
[27265]:في "ر": فإنه ليس يصل إليك.
[27266]:في "ر": حتوة، وفيه تصحيف، وصوابه حثوة، بالثاء المثلثة، انظر: المصباح / حثا.
[27267]:الآيات: 1- 8.
[27268]:انظر: مطولا في سيرة ابن هشام 1/482، 483.