251- فهزموا عدوهم بإذن الله تعالى وقتل داود - وهو أحد جنود طالوت - جالوت قائد الكفار ، وأعطاه الله الحكم بعد طالوت والنبوة والعلم النافع وعلمه مما يشاء ، وسنة الله أن ينصر الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون ، ولولا أن الله يسلط جنوده على المفسدين لمحو فسادهم ، ويسلط الأشرار بعضهم على بعض ، ما عمرت الأرض ، ولكن الله دائم الإحسان والفضل على عباده .
قوله تعالى : { فهزموهم بإذن الله } . أي بعلم الله تعالى .
قوله تعالى : { وقتل داود جالوت } . وصفة قتله : قال أهل التفسير : عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له ، وكان أصغرهم وكان يرمي بالقذافة ، فقال لأبيه يوماً : يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً إلا صرعته فقال : أبشر يا بني ، فإن الله جعل رزقك في قذافتك ، ثم أتاه مرة أخرى فقال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً ، فركبته فأخذت بأذنيه فلم يهجني ، فقال : أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك ، ثم أتاه يوماً آخر فقال : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فما يبقى جبل إلا سبح معي ، فقال : أبشر يا بني فإن هذا خير أعطاكه الله تعالى ، فأرسل جالوت إلى طالوت أن أبرز إلي أو أبرز إلي من يقاتلني ، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم ، فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره ، من قتل جالوت زوجته ابنتي ، وناصفته ملكي ، فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا الله في ذلك ، فأتى بقرن فيه دهن القدس ، وتنور من حديد فقيل : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه ، فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه ولا يسيل على وجهه ويكون على رأسه كهيئة الإكليل ، ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه ، فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم ، فلم يوافقه منهم أحد فأوحى الله إلى نبيهم أن في ولد إيشا من يقتل الله به جالوت ، فدعا طالوت إيشا فقال : اعرض علي بنيك فأخرج له اثني عشر رجلاً أمثال السواري ، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئاً ، فقال لإيشا : هل بقي لك ولد غيرهم ؟ فقال لا ، فقال النبي : يا رب إنه زعم أن لا ولد له غيرهم ، فقال كذب ، فقال النبي : إن ربي كذبك فقال : صدق الله يا نبي الله ، إن لي ابناً صغيراً يقال له داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته ، فخلفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكذا ، وكان داود رجلاً قصيراً مسقاماً مصفاراً أزرق أمعر ، فدعاه طالوت ، ويقال : بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها ، فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل ، ولا يخوض بهما الماء ، فلما رآه قال : هذا هو لا شك فيه ، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم ، فدعاه ووضع القرن على رأسه ، ففاض فقال طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي ، وأجري خاتمك في ملكي ؟ قال : نعم قال : وهل أنست من نفسك شيئاً تتقوى به على قتله ؟ قال : نعم ، أنا أرعى الغنم ، فيجئ الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة ، فأقوم إليه فأفتح لحييه عنها وأخرجها من قفاه ، فأخذ طالوت داود ورده إلى عسكره ، فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر فناده الحجر يا داود ، احملني فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا ، ، فحمله في مخلاته ، ثم مر بحجر آخر فقال : احملني فإني حجر موسى الذي تقتل بي ملك كذا وكذا ، فحمله في مخلاته ، ثم مر بحجر آخر فقال : احملني فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت فوضعه في مخلاته ، فلما تصافوا للقتال ، وبرز جالوت وسأل المبارزة انتدب له داود فأعطاه طالوت فرساً ودرعاً وسلاحاً ، فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريباً ، ثم انصرف إلى الملك فقال : من حوله جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال : ما شأنك ؟ فقال : إن الله إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئاً ، فدعني أقاتل جالوت كما أريد ، قال : فافعل ما شئت ، قال : نعم ، فأخذ داود مخلاته فتقلدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت ، وكان جالوت من أشد الرجال وأقواهم ، وكان يهزم الجيوش وحده ، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد ، فلما نظر إلى داود ألقى الله في قلبه الرعب فقال له : أنت تبرز إلي ؟ قال : نعم . وكان جالوت على فرس أبلق وعليه السلاح التام ، قال : فأتيني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب ؟ قال : داود عليه السلام نعم ، أنت شر من الكلب ، قال جالوت : لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء . فقال داود : أو يقسم الله لحمك ، فقال داود : باسم إله إبراهيم وأخرج حجراً ووضعه في مقلاعه ، ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه ، ثم أخرج الثالث وقال : باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجراً واحداً ، ودور داود عليه السلام المقلاع ، ورمى به فسخر الله له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة ، فخالط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً ، وهزم الله تعالى الجيش ، وخر جالوت قتيلاً ، فأخذه يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ، ففرح المسلمون فرحاً شديداً ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود ، فجاء داود طالوت وقال : أنجز لي ما وعدتني ، فقال : تريد ابنة الملك بغير صداق ؟ فقال داود : ما شرطت على صداقاً ، وليس لي شيء فقال : لا أكلفك إلا ما تطيق أنت رجل جريء ، وفي حيالنا أعداء لنا غلف ، فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحداً منهم نظم غلفته في خيط ، حتى نظم مائتي غلفة ، فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال : ادفع إلي امرأتي فزوجه ابنته ، وأجرى خاتمه في ملكه ، فمال الناس إلى داود وأحبوه ، وأكثروا ذكره ، فحسده طالوت وأراد قتله ، فأخبر بذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين ، فقالت ابنة طالوت لداود : إنك مقتول في هذه الليلة قال : ومن يقتلني ؟ قالت : أبي قال : وهل أجرمت جرماً ؟ قالت : حدثني من لا يكذب ولا عليك أن تغيب الليلة حتى ننظر مصداق ذلك ، فقال : لئن كان أراد الله ذلك لا أستطيع خروجاً ، ولكن ائتيني بزق خمر ، فأتت به فوضعه في مضجعه على السرير وسجاه ودخل تحت السرير ، فدخل طالوت نصف الليل فقال لها : أين بعلك ؟ فقالت : هو نائم على السرير فضربه بالسيف ضربة فسال الخمر فلما وجد ريح الخمر قال : يرحم الله داود ما كان أكثر شربه للخمر ، وخرج . فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئاً فقال : إن رجلاً طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتى يدرك مني ثأره ، فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه ، ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون فأعمى الله سبحانه الحجبة وفتح له الأبواب ، فدخل عليه وهو نائم على فراشه ، فوضع سهماً عند رأسه وسهماً عند رجليه سهماً عن يمينه وسهماً عن شماله ثم خرج ، فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله ، وظفر بي فكف عني ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه ، فلما كانت القابلة أتاه ثانياً وأعمى الله الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق طالوت الذي يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته ، وشيئاً من هدب ثيابه ، ثم خرج وهرب وتوارى ، فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون ، وطلبه أشد الطلب فلم يقدر عليه ، ثم إن طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال : اليوم أقتله فركض على أثره ، واشتد داود وكان إذا فزع لم يدرك ، فدخل غاراً فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت ، فنسج عليه بيتاً فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال : لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى ، فانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبدين ، فتعبد فيه فطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلا قتله ، وأغرى بقتل العلماء فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل يطيق قتله إلا قتله ، حتى أتي بامرأة تعلم اسم الله الأعظم ، فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز وقال : لعنا نحتاج إلى عالم فتركها ، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل ، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس . وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي : أنشد الله عبداً يعلم أن لي توبة إلا أخبرني بها ، فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور يا طالوت ، أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتاً ؟ فازداد بكاء وحزناً فرحمه الخباز فقال : مالك أيها الملك ؟ قال : هل تعلم لي في الأرض عالماً أسأله هل لي من توبة ؟ فقال الخباز : إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك فتطير منه فقال : لا تتركوا في القرية ديكاً إلا ذبحتموه ، فلما أراد أن ينام قال لأصحابه : إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج فقالوا له : وهل تركت ديكاً نسمع صوته ؟ ولكن هل تركت عالماً في الأرض ؟ فازداد حزناً وبكاء ، فلما رأى الخباز ذلك قال له : أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله ؟ قال : لا فتوثق عليه الخباز فأخبره أن المرأة العالمة عنده ، قال : انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة ؟ وكانت من أهل بيت يعلم الاسم الأعظم فإذا فنيت رجالهم علمت نساؤهم ، فلما بلغ طالوت الباب قال الخباز : إنها إذا رأتك فزعت ، ولكن ائت خلفي ، ثم دخلا عليها فقال لها : ألست أعظم الناس منة عليك ؟ أنجيتك من القتل ، وآويتك ، قالت : بلى ، قال : فإن لي إليك حاجة ، هذا طالوت يسأل ، هل له من توبة ؟ فخلفه خلفه ثم دخله عليها فقال لها : ألست أعظم الناس منةً عليك أنجيتك من القتل وآويتك ، قالت : بلى ، فإن لي إليك حاجة هذا طالوت يسأل هل لي من توبة ؟ فغشي عليها من الفرق فقال لها : إنه لا يريد قتلك ولكن يسألك هل له من توبة ؟ قالت : لا والله لا أعلم لطالوت توبة ، ولكن هل أعلم مكان قبر نبي . فانطلق بهما إلى قبر أشمويل فصلت ودعت ثم نادت : يا صاحب القبر فخرج أشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فلما نظر إليهم ثلاثتهم قال : ما لكم ؟ أقامت القيامة ؟ قالت : لا ولكن طالوت يسألك هل له من توبة ؟ قال أشمويل : يا طالوت ما فعلت بعدي ؟ قال : لم أدع من الشر إلا أتيته وجئت لطلب التوبة ، قال له : كم لك عيال ؟ يعني كم لك من الولد ؟ قال : عشرة رجال ، قال : ما أعلم لك من توبة إلا أن تتخلى من ملكك ، وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ، ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ، ثم تقاتل أنت حتى آخرهم ، ثم رجع أشمويل إلى القبر وخر ميتاً ، ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه ولده ، وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه ، فدخل عليه أولاده فقال لهم : أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني ؟ قالوا : نعم نفديك بما قدرنا عليه قال : فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم قالوا : فاعرض علينا ؟ فذكر لهم القصة ، قالوا : وإنك لمقتول ؟ قال : نعم ، قالوا : فلا خير لنا في الحياة بعدك ، قد طابت أنفسنا بالذي سألت ، فتجهز بماله وولده فتقدم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ، ثم شد هو بعدهم للقتال حتى قتل ، فجاء قاتله إلى داود ليبشره وقال : قتلت عدوك فقال داود : ما أنت بالذي تحيا بعده ، فضرب عنقه ، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة وأتى بنو إسرائيل إلى داود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم . قال الكلبي والضحاك : ملك داود بعد قتل طالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك
قوله تعالى : { وآتاه الله الملك والحكمة } . يعني : النبوة ، جمع الله لداود بين الملك والنبوة ولم يكن كذلك من قبل ، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط ، وقيل الملك والحكمة هو العلم مع العمل .
قوله تعالى : { وعلمه مما يشاء } . قال الكلبي وغيره : يعني صنعة الدروع ، وكان يصنعها ويبيعها ، وكان لا يأكل إلا من عمل يده ، وقيل منطق الطير ، وكلام الجعل والنمل والذر والخنفساء وحمار قبان ، وما أشبهها مما لا صوت لها ، وقيل هو الزبور ، وقيل هو الصوت الطيب ، والألحان فلم يعط الله أحداً من خلقه مثل صوته ، وكان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها ، وتظله الطير مصيخة له ، ويركل الماء الجاري ، ويسكن الريح . وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ، ورأسها عند صومعته ، قوتها قوة الحديد ، ولونها لون النار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر ، مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب ، فلا يحدث في الهواء حدث إلا صلصلت السلسلة ، فعلم داود ذلك الحدث ، ولا يمسها ذو عاهة إلا برئ ، وكانوا لا يتحاكمون إلا إليها بعد داود عليه السلام إلى أن رفعت ، فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقاً أتى السلسلة ، فمن كان صادقاً مد يده إلى السلسلة فتناولها ، ومن كان كاذباً لم ينلها فكانت كذلك إلى أن ظهر بهم المكر والخديعة ، فبلغنا أن بعض ملوكها أودع رجلاً جوهرة ثمينة فلما استردها أنكرها ، فتحاكما إلى السلسلة ، فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكازه فنقرها ، وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة ، فقال صاحب الجوهرة : رد علي الوديعة فقال صاحبه : ما أعرف لك عندي من وديعة فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة ، فتناولها بيده فقيل للمنكر : قم أنت فتناولها فقال لصاحب الجوهرة : خذ عكازتي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة ، فأخذها الملك عنده ، ثم قام المنكر نحو السلسلة فأخذها ، فقال الرجل : اللهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة ، فمد يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها ، فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة .
قوله تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } . قرأ أهل المدينة ويعقوب ( دفاع الله ) بالألف هاهنا وفي سورة الحج ، وقرأ الآخرون بغير الألف لأن الله تعالى لا يغالبه أحد وهو الدافع وحده ، ومن قرأ بالألف قال : قد يكون الدفاع من واحد مثل قول العرب : " أحسن الله عنك الدفاع " ، قال ابن عباس ومجاهد : ولولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المؤمنين ، وخربوا المساجد والبلاد ، وقال سائر المفسرين : لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر ، بالصالح عن الفاجر .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله ابن فنجويه ، أنا أبو بكر بن خرجة ، أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، أنا أبو حميد الحمصي ، أنا يحيى بن سعيد العطار ، أنا حفص بن سليمان ، عن محمد بن سوقة ، عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء " . ثم قرأ ابن عمر رضي الله عنهما : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) .
فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك ، ونصرهم عليهم { فهزموهم بإذن الله وقتل داود } عليه السلام ، وكان مع جنود طالوت ، { جالوت } أي : باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره { وآتاه الله } أي : آتى الله داود { الملك والحكمة } أي : منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة ، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم ، ولهذا قال { وعلمه مما يشاء } من العلوم الشرعية والعلوم السياسية ، فجمع الله له الملك والنبوة ، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم ، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض ، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله ، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أي : لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى ، وإظهار دينه { ولكن الله ذو فضل على العالمين } حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها ، وأسباب لا يعلمونها .
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها : ( فهزموهم بإذن الله ) . . ويؤكد النص هذه الحقيقة : ( بإذن الله ) . . ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما . وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون ، ولطبيعة القوة التي تجريه . . إن المؤمنين ستار القدرة ؛ يفعل الله بهم ما يريد ، وينفذ بهم ما يختار . . بإذنه . . ليس لهم من الأمر شيء ، ولا حول لهم ولا قوة ، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته ، فيكون منهم ما يريده بإذنه . . وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين . . إنه عبد الله . اختاره الله لدوره . وهذه منة من الله وفضل . وهو يؤدي هذا الدور المختار ، ويحقق قدر الله النافذ . ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب . . ولولا فضل الله ما فعل ، ولولا فضل الله ما أثيب . . ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق . . فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي ، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص .
وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل . وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا . . ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها ، إنما تجري بحقائقها . وحقائقها يعلمها هو . ومقاديرها في يده وحده . فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم ، ويفوا الله بعهدهم . ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده . وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير ، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم . . وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله . فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت ، ويرثه إبنه سليمان ، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل ؛ جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود :
( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ) . .
وكان داود ملكا نبيا ، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى . . أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا . . وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة ، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية ، وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية . . حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى . . إنها ليست المغانم والأسلاب ، وليست الأمجاد والهالات . . إنما هو الصلاح في الأرض ، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر :
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . ولكن الله ذو فضل على العالمين )
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار . وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس ، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات . . ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا ، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق ، إلى الخير والصلاح والنماء ، في نهاية المطاف . .
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض . ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة ، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع ، فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظل أبدا يقظة عاملة ، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة . . وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء . . يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف طريقها إليه واضحا . وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض . وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل ، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه . .
وهنا يمضي الله أمره ، وينفذ قدره ، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا ، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية ، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه . وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة .
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر . ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض ، وتمكين الصلاح في الحياة . إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار .
قال الله تعالى : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } ذكروا في الإسرائيليات : أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله ، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه{[4254]} في أمره فوفى له ثم آل{[4255]} الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } الذي كان بيد طالوت { والحكمة } أي : النبوة بعد شمويل { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } أي : مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ } أي : لولاه يدفع عن قوم بآخرين ، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } الآية [ الحج : 40 ] .
وقال ابن جرير ، رحمه الله : حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء " . ثم قرأ ابن عمر : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ }{[4256]} وهذا إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد [ هذا ]{[4257]} هو أبو زكريا العطار الحمصي وهو ضعيف جدًّا .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله عز وجل ما دام فيهم " {[4258]} .
وهذا أيضًا غريب ضعيف لما تقدم أيضا . وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أخبرنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا زيد بن الحباب ، حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن{[4259]} ثوبان – رفع الحديث - قال : " لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر الله " {[4260]} .
وقال ابن مردويه أيضًا : وحدثنا محمد بن أحمد{[4261]} حدثنا محمد بن جرير بن يزيد ، حدثنا أبو معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر البزار ، عن عنبسة الخواص ، عن قتادة عن أبي قِلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض ، وبهم تمطرون وبهم تنصرون " قال قتادة : إني لأرجو أن يكون الحسن منهم{[4262]} .
وقوله : { وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : مَنٌّ عليهم ورحمة بهم ، يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله .
{ فهزموهم بإذن الله } فكسروهم بنصره ، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم . { وقتل داود جالوت } قيل كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت له : إنك بنا تقتل جالوت ، فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته . { وآتاه الله الملك } أي ملك بني إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك . { والحكمة } أي النبوة . { وعلمه مما يشاء } كالسرد وكلام الدواب والطير . { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } ولولا أنه سبحانه وتعالى يدفع بعض الناس ببعض وينصر المسلمين على الكفار ويكف بهم فسادهم ، لغلبوا وأفسدوا في الأرض ، أو لفسدت الأرض بشؤمهم . وقرأ نافع هنا وفي الحج " دفاع الله " .
وقد أشارت الآية في قوله : { فهزموهم } إلخ إلى انتصار بني إسرائيل على الفلسطينيين وهو انتصار عظيم كان به نجاح بني إسرائيل في فلسطين وبلاد العمالقة ، مع قلة عددهم فقد قال مؤرخوهم إن طالوت لما خرج لحرب الفلسطينيين جمع جيشاً فيه ثلاثة آلاف رجل ، فلما رأوا كثرة الفلسطينيين حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل افرايم في المغارات والغياض والآبار ، ولم يعبروا الأردن ، ووجم طالوت واستخار صمويل ، وخرج للقتال فلما اجتاز نهر الأردن عد الجيش الذي معه فلم يجد إلاّ نحو ستمائة رجل ، ثم وقعت مقاتلات كان النصر فيها لبني إسرائيل ، وتشجع الذين جبنوا واختبأوا في المغارات وغيرها فخرجوا وراء الفلسطينيين وغنموا غنيمة كثيرة ، وفي تلك الأيام من غير بيان في كتب اليهود لمقدار المدد بين الحوادث ولا تنصيص على المتقدم منها والمتأخر ومع انتقالات في القصص غير متناسبة ، ظهر داود بن يسى اليهودي إذ أوحى الله إلى صمويل أن يذهب إلى بيت يسى في بيت لحم ويمسح أصغر أبناء يسى ليكون ملكاً على إسرائيل بعد حين ، وساق الله داود إلى شاول ( طالوت ) بتقدير عجيب فحظى عند شاول ، وكان داود من قبل راعي غنم أبيه ، وكان ذا شجاعة ونشاط وحسن سمت ، وله نبوغ في رمي المقلاع ، فكان ذات يوم التقى الفلسطينيون مع جيش طالوت وخرج زعيم من زعماء فلسطين اسمه جُلْيَات كما تقدم ، فلم يستطع أحد مبارزته فانبرى له داود ورماه بالمقلاع فأصاب الحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه ، فذهب به إلى شاول وانهزم الفلسطينيون ، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داود ، وصار داود بعد حين ملكاً عوض شاول ، ثم آتاه الله النبوءة فصار ملكاً نبيئاً ، وعلمه مما يشاء .
ويأتي ذكر داود عند قوله تعالى : { وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه } في سورة الأنعام ( 83 ) .
{ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } .
ذيلت هذه الآية العظيمة كل الوقائع العجيبة التي أشارت بها الآيات السالفة لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان وحكمة من حكم التاريخ ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية ، وقبل إدراك ما في مطاويها ، عطفت على العبر الماضية كما عطف قوله : { وقال لهم نبيهم } [ البقرة : 247 ] وما بعده من رؤوس الآي . وعدل عن المتعارف في أمثالها من ترك العطف ، وسلوك سبيل الاستئناف .
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب ( ولولا دفاع الله الناس ) بصيغة المفاعلة ، وقرأه الجمهور ( دفع ) بصيغة المجرد .
والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا للمفاعلة ، كقول موسى بن جابر الحنفي :
لا أشتهي يا قوم إلاّ كارهاً *** باب الأمير ولا دفاع الحاجب
وإضافته إلى الله مجاز عقلي كما هو في قوله : { إن الله يدفع عن الذين آمنوا } [ الحج : 38 ] أي يدفع لأن الذي يدفع حقيقة هو الذي يباشر الدفع في متعارف الناس وإنما أسند إلى الله لأنه الذي قدره وقدر أسبابه ، ولذلك قال : { بعضهم ببعض } فجعل سبب الدفاع بعضهم وهو من باب { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] وأصل معنى الدفع الضرب باليد للإقصاء عن المرام . قال :
وهو ذب عن مصلحة الدافع . ومعنى الآية : أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضاً آخر بتكوين الله وإيداعه قوة الدفع وبواعثه في الدافع لفسدت الأرض ، أي من على الأرض ، واختل نظام ما عليها ، ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس وأنواع وأصناف ، خلقها قابلة للاضمحلال ، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده ، ولذلك نجد قانون الخَلَفية منبثاً في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلاّ وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافاً عن الأفراد عند اضمحلالها ، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان ، والبذر في النبت ، والنضح في المعادن ، والتولد في العناصر الكيماوية . ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجِدها قد أراد بقاء الأنواع ، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة ، لاختلال أو انعدام صلاحيتها ، ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها ، وقد تقدم لنا تفسير قوله : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] .
ثم إن الله تعالى كما أودع في الأفراد قوة بها بقاء الأنواع ، أودع في الأفراد أيضاً قوى بها بقاء تلك الأفراد بقدر الطاقة ، وهي قوى تطلُّب الملائم ودفع المنافي ، أو تطلُّب البقاء وكراهية الهلاك ، ولذلك أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها ، بدون تأمل أو بتأمل ، إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها ، كانسياق الوليد لالتهام الثدي ، وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي ، ثم تتوسع هذه الإدراكات ، فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد ، ويسمى ذلك بالقوة الشاهية .
وأودع أيضاً في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها ، ودفع العوادي عنها ، عن غير بصيرة ، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه ، وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع ، ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يُتوقع منه الضر ، ومن طلب الكِن ، واتخاذ السلاح ، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك ، ولو بآخر ما في القوة وهو القوة الغاضبة ولهذا تزيد قوة المدافعة اشتداداً عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان . وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمريد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها ، وقد عَوَّضَ الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقلَ والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضرراً ، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به ، وهو المعبر عنه بالاستعداد .
ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع ، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على إبقاء الآخر ، فهذا ناموس عام ، وجعل الإنسان بما أودَعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع . وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص ، وبما في أفراد نوعه من الفوائد . فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره ، ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع ، لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف ، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره ، فابتزها منه ، ولأفرَطتْ أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها ، مما هو له ، ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضاً . وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره ، وكل قوي على ضعيفه ، فيهلك القوي الضعيف ، ويهلك الأقوى القويَّ ، وتذهب الأفراد تباعاً ، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلاّ أقوى الأفراد من أقوى الأنواع ، وذلك شيء قليل ، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه ، وكان يجدها في غيره من أفراد نوعه ، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض ، أو من أنواع أخر ، كحاجة الإنسان إلى البقرة ، فيذهب هدراً .
ولما كان نوع الإنسان هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي ، خصتهُ الآية بالكلام فقالت : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه ، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه ، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع ؛ لأن الإنسان يذب عنها لما في بقائها من منافع له .
وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي ، وهو ظاهر ، وسلامة الضعيف أيضاً لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع سئم ذلك ، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة . وإنما كان الحاصل هو الفساد ، لولا الدفاع ، دون الصلاح ، لأن الفساد كثيراً ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن ، ولأن في كثير من النفوس أو أكثرها الميل إلى مفاسد كثيرة ، لأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها ، بخلاف النفوس الصالحة ، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها ، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها ، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات ، فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين ، لأسرع ذلك في فساد حالهم ، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت .
وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب ؛ فبالحرب الجائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره ، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل ، ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق ، والإنحاء على الظالمين ، وهزم الكافرين .
ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضاً يصد المفسد عن محاولة الفساد ، ونفس شعور المفسد بتأهب غيره لدفاعه يصده عن اقتحام مفاسد جمة .
ومعنى فساد الأرض : إما فساد الجامعة البشرية كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس ، أي لفسد أهل الأرض ، وإما فساد جميع ما يقبل الفساد فيكون في الآية احتباك ، والتقدير : ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض أي من على الأرض ولفسد الناس .
والآية مسوقة مساق الامتنان ، فلذلك قال تعالى : { لفسدت الأرض } لأنا لا نحب فساد الأرض ، إذ في فسادها بمعنى فساد ما عليها اختلالُ نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا ، ولذلك عقبه بقوله : { ولكن الله ذو فضل على العالمين } فهو استدراك مما تضمنته « لولا » من تقدير انتفاء الدفاع ؛ لأن أصل لولا لو مع لا النافية ، أي لو كان انتفاءُ الدفاع موجوداً لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب ( لولا ) من ( لو ) و ( لا ) ، إذ لا يتم الاستدراك على قوله : { لفسدت الأرض } لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع ، إن قلنا « لولا » حرف امتناع لوجود .