الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

وَالهَزْمُ : أصلُه الكَسْر ، ومنه " سِقاء مُتَهَزِّم " و " قَصَبٌ متهزِّمٌ " أي متكسِّر . قوله : " بإذنِ الله " فيه الوجهانِ المتقدِّمان أعني كونَه حالاً أو مفعولاً به . و " مِمَّا يشاء " فاعلٌ " يشاء " ضميرُ الله تعالى . وقيل : ضميرُ داود والاولُ أظهرُ .

قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ } قرأ نافع هنا ، وفي الحج : " دِفاع " والباقون : " دَفْع " . فأمَّا " دَفْع " فمصدر دَفَعَ يَدْفَع ثلاثياً . وأمَّا " دفاع " فيحتمل وجهين : أحدُهما : أن يكونَ مصدر دَفَعَ الثلاثي أيضاً نحو : كَتَب كِتاباً ، وأن يكونَ مصدرَ " دافع " نحو : قاتل قِتالاً ، قال أبو ذؤيب :

ولقد حَرَصْتُ بأَنْ أدافعَ عنهُم *** فإذا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ

و " فاعَل " هنا بمعنى فَعَل المجرد فتتَّحد القراءتان في المعنى .

ومَنْ قرأ " دفاع " وقرأ في الحج { يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ الآية : 38 ] وهو نافع ، أو قرأ " دَفْع " وقرأ " يَدْفَع " - وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصلَه ، فجاء بالمصدرِ على وَفْقِ الفعل . وأمَّا من قرأ هنا " دَفْع " وفي الحج " يُدافِع " وهم الباقون فقد جَمَعَ بين اللغتين ، فاستعمل الفعلَ من الرباعي والمصدرَ من الثلاثي . والمصدرُ هنا مضافٌ لفاعِله وهو الله تعالى ، و " الناسَ " مفعول أول ، و " بعضهم " بدلٌ من " الناسِ " بدلٌ بعضٍ مِنْ كُلٍّ .

و " ببعضٍ " متعلِّقٌ بالمصدرِ ، والباءُ للتعديةِ ، فمجرورُها المفعولُ الثاني في المعنى ، والباءُ إنما تكون للتعديةِ في اللازمِ نحو : " ذَهَبَ به " فأمّا المتعدِّي لواحدٍ فإنما يتعدَّى بالهمزة تقول : " طَعِمَ زيدٌ اللحم وأَطْعَمْتُه اللحم " / ولا تقول : " طَعِمْته باللحم " فتعدِّيه إلى الثاني بالباءِ إلاَّ فيما شَذَّ قياساً وهو " دَفَع " و " صَكَّ " ، نحو : صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي : جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخر ، ولذلك قالوا : صَكَكْتُ الحجرَيْنِ أحدَهما بالآخر .

قوله : { وَلَكِنَّ اللَّهَ } وجهُ الاستدراكِ أنه لَمَّا قسَّم الناسَ إلى مدفوعٍ ومدفوعٍ به ، وأنه بهذا الدفعِ امتنع فسادُ الأرض فقد يَهْجِسُ في نفسِ مَنْ غُلِب عمّا يريدُ من الفساد أنَّ الله غيرُ متفضِّلٍ عليه حيث لم يُبْلِغه مقاصده وطلبه ، فاستدرك عليه أنَّه وإن لم يَبْلُغْ مقاصده أنَّ الله متفضلٌ عليه ومُحْسِنٌ إليه لأنه مندرجٌ تحت العالمين ، وما مِنْ أحدٍ ألا ولله عليه فضلٌ وله فضلُ الاختراعِ والإِيجادِ .

و " على " يتعلَّق ب " فَضْل " ، لأنَّ فعلَه يتعدَّى بها ، وربما حُذِفَتْ مع الفعلِ . قال - فَجَمع بين الحذف والإِثبات - :

وجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً *** كفَضْلِ ابنِ المَخاض على الفَصيلِ

أمّا إذا ضُعِّف فإنه لا تُحْذَفُ " على " أصلاً كقولِه : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] ، ويجوزُ ان تتعلَّقٌ " على " بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً لفَضْل .