غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

246

{ فهزموهم } كسروهم { بإذن الله } بتوفيقه وإعانته { وقتل داود جالوت } عن ابن عباس أن داود كان راعياً ومعه سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود - وكان صغيراً - إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف ، وبرز جالوت الجبار وكان من قوم عاد وكانت بيضته فيها ثلثمائة رطل من الحديد ، فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل ، لو كنتم على الحق لبارزني بعضكم . فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف ؟ فسكتوه . فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرّض الناس فقال له داود : ما تصنعون لمن يقتل هذا ؟ فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف مملكتي . فقال داود : فأنا خارج إليه . وكانت عادته أنه يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى وكان طالوت عارفاً جلادته فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت مر بثلاثة أحجار فقلن : يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت . ثم لما خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناساً كثيراً . قيل : فحسده طالوت ولم يف له وعده ثم ندم على صنيعه فذهب يطلبه إلى أن قتل . { وآتاه الله الملك } في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها { والحكمة } أي النبوّة لأن الحكمة وضع الأمور موضعها على الوجه الأصوب والنحو الأصلح . وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، والمشهور من أحوال بني إسرائيل ، أن الله تعالى كان يبعث إليهم نبياً وعليهم ملكاً كان ذلك الملك ينفذ أمور ذلك النبي ، وكان نبي ذلك الزمان أشمويل وملكه طالوت ، فلما توفي أشمويل أعطى الله داود النبوّة ، ولما توفي طالوت أعطى الله الملك إياه أيضاً ، ولم يجتمع الملك والنبوّة على أحد من بني إسرائيل قبله . ويروى أن بين قتله جالوت وبين ما أعطاه الله الملك والحكمة سبع سنين . قال بعضهم : هذا الإتيان جبراً له على ما فعل من الطاعة وبذل النفس في سبيل الله ، ولا ممتنع في جعل النبوّة جزاء على بعض الطاعات كما قال تعالى : { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } [ الدخان : 32 ] وقال : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] ولهذا ذكر بعده حديث الهزيمة والقتل . وترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية لاسيما وقد نطقت الأحجار معه ، وقد قهر العدو العظيم المهيب بالآلة الحقيرة . وقال آخرون : إن النبوّة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ولكنها محض عناية الله تعالى ببعض عبيده كما قال : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } [ الحج : 75 ] فإن قيل : لم قدم الملك على الحكمة مع أنه أدون منها ؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه السلام في معارج السعادات ، والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشرف هو الترتيب الطبيعي . { وعلمه مما يشاء } قيل : هو صنعة الدروع لقوله

{ وعلمناه صنعة لبوس لكم } [ الأنبياء : 80 ] وقيل : منطق الطير { علمنا منطق الطير }

[ النمل : 16 ] وقيل : ما يتعلق بمصالح الملك فإنه ما تعلم ذلك من آبائه فإنهم كانوا رعاة . وقيل : علم الدين والقضاء { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } [ ص : 20 ] ولا يبعد حمل اللفظ على الكل والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبياً أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم

{ وقل ربي زدني علماً } [ طه : 114 ] { ولولا دفع الله } معناه ظاهر وأما من قرأ بالألف فإما أن يكون مصدر الدفع نحو جمح جماحاً وكتب كتاباً وقام قياماً ، وإما أن يكون بمعنى أنه سبحانه يكف الظلمة والعصاة عن المؤمنين على أيدي أنبيائه وأئمة دينه ، فكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات كقوله { إن الذين يحادّون الله ورسوله } [ المجادلة : 20 ] .

واعلم أن الله تعالى ذكر في الآية المدفوع وهو بعض الناس ، والمدفوع به وهو البعض الآخر . وأما المدفوع عنه فغير مذكور للعلم به وهو الشرور في الدين كالكفر والفسق والمعاصي ، فعلى هذا الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى ومن يجري مجراهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والشرور في الدنيا كالهرج والمرج وإثارة الفتن . فالدافعون إما الأنبياء أو الملوك الذابون عن شرائعهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الملك والدين توأمان " " الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو منهدم وما لا حارس له فهو ضائع " وعلى هذا فمعنى قوله { لفسدت الأرض } أي بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وغير ذلك من سائر أسباب العمران . وقيل : المراد بالدفع نصر المسلمين على الكفار . ومعنى فساد الأرض عبث الكفار فيها وقتالهم المسلمين . وقيل : المعنى لو لم يدفع الكفار بالمسلمين لعم الكفر ونزل سخط الله ، فاستؤصل أهل الأرض وتصديق ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين " ثم تلا هذه الآية { ولكنّ الله ذو فضلٍ على العالمين } بسبب ذلك الدفاع . وفيه أن الكل بقضاء الله وقدره وبقهره ولطفه وبعدله وفضله .

/خ251