البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

هزم : كسر الشيء ورد بعضه على بعض ، وتقول العرب : هزمت على زيد : عطفت عليه .

قال الشاعر :

هزمتُ عليكِ اليوم يا ابنة مالك***

فجودي علينا بالنوال وأنعمي

داود : اسم أعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة ، وهو هنا : أبو سليمان ، على نبينا وعليهما السلام ، وهو داود بن إيسا ، بكسر الهمزة ، ويقال داود بن زكريا بن ينوى ، من سبط يهود بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم ، على نبينا وعليهم السلام .

الدفع : الصرف : دفع يدفع دفعاً ، ودافع مدافعة ودفاعاً .

{ فهزموهم باذن الله } أي : فغلبوهم بتمكين الله .

{ وقتل داود جالوت } طوَّل المفسرون في قصة كيفية قتل داود لجالوت ، ولم ينص الله على شيء من الكيفية ، وقد اختصر ذلك السجاوندي اختصاراً يدل على المقصود ، فقال : كان أصغر بنيه ، يعني بني إيشا ، والد داود ، الثلاثة عشر .

وكان مخلفاً في الغنم ، وأوحى إلى نبيهم أن قَاتِلَ جالوت من استوت عليه من ولد إيشا درعٌ عند طالوت ، فلم تستو إلاَّ على داود ، وقيل : لما برز جالوت نادى طالوت : من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه بنتي ، فبرز داود ورماه بحجر في قذافة فنفذ من بين عينيه إلى قفاه وأصاب عسكره ، فقتل جماعة وانهزموا ، ثم ندم طالوت من شرطه بعد الوفاء ، وهم بقتل داود ، ومات تائباً قاله الضحاك .

وقال وهب : ندم قبل الوفاء ومات عاصياً ، وقيل : أصاب داود موضع أنف جالوت ، وقيل : تفتت الحجر حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه ، كالقبضة التي رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين .

وقال الزمخشري : كان أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحى إلى شمويل أن داود بن إيشا يقتل جالوت ، فطلبه من أبيه ، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله ، وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت ، فحملها في مخلاته ، ورمى بها جالوت فقتله ، وزوجه طالوت بنته ، وروي أنه حسده وأراد قتله ، ثم تاب . انتهى .

وروي : أن داود كان من أرمى الناس بالمقلاع ، وروي : أن الاحجار التأمت في المخلاة فصارت حجراً واحداً .

{ وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء } روي أن طالوت تخلى لداود عن الملك ، فصار الملك .

وروي : أن بني إسرائيل غلبت طالوت على ذلك بسبب قتل داود جالوت ، وروي أن طالوت أخاف داود فهرب منه ، فكان في جبل إلى أن مات طالوت ، فملكته بنو إسرائيل ، قال الضحاك ، والكلبي : ملك داود بعد قتل جالوت سبع سنين ، فلم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلاَّ على داود .

واختلف أكان داود نبياً عند قتل جالوت أم لا ؟ فقيل : كان نبياً ، لأن خوارق العادات لا تكون إلاَّ من الأنبياء .

وقال الحسن : لم يكن نبياً لأنه لا يجوز أن يتولى من ليس بنبي على نبي ، والحكمة وضع الأمور مواضعها على الصواب ، وكمال ذلك إنما يحصل بالنبوّة ، ولم يكن ذلك لغيره قبله ، كان الملك في سبط والنبوّة في سبط ، فلما مات شمويل وطالوت اجتمع لداود الملك والنبّوة .

وقال مقاتل : الحكمة الزبور ، وقيل : العدل في السيرة ؟ وقيل : الحكمة العلم والعمل به .

وقال الضحاك : هي سلسلة كانت متدلية من السماء لا يمسكها ذو عاهة إلاَّ برىء ، يتحاكم إليها ، فمن كان محقاً تمكن منها حتى إن رجلاً كانت عنده درة لرجل ، فجعلها في عكازته ودفعها إليه أن احفظها حتى أمس السلسلة ، فتمكن منها لأنه ردها ، فرفعت لشؤم احتياله .

وإذا كانت الحكمة كان ذكر الملك قبلها .

والنبوّة بعده من باب الترقي .

{ وعلمه مما يشاء } قيل : صنعة الدروع ، وقيل : منطق الطير وكلامه للنحل والنمل ، وقيل : الزبور ، وقيل : الصوت الطيب والألحان ، قيل : ولم يعط الله أحداً من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها ، وتظله الطير مصيخة له ، ويركد الماء الجاري ، وتسكن الريح ، وما صنعت المزامير والصنوج إلاَّ على صوته .

وقيل : { مما يشاء } فعل الطاعات والأمر بها ، واجتناب المعاصي .

والضمير الفاعل في : يشاء عائد على داود أي : مما يشاء داود .

{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } قرأ نافع ، ويعقوب ، وسهل : ولولا دفاع ، وهو مصدر دفع ، نحو : كتب كتاباً أو مصدر دافع بمعنى دفع .

قال أبو ذؤيب :

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم***

فإذا المنية أقبلت لا تدفع

وقرأ الباقون : دفع ، مصدر دفع ، كضرب ضرباً .

والمدفوع بهم جنود المسلمين ، والمدفوعون المشركون ، ولفسدت الأرض بقتل المؤمنين وتخريب البلاد والمساجد ، قال معناه ابن عباس ، وجماعة من المفسرين .

أو الأبدال وهم أربعون ، كلما مات واحد أقام الله واحداً بدل آخر ، وعند القيامة يموتون كلهم : إثنان وعشرون بالشام ، وثمانية عشر بالعراق .

وروى حديث الأبدال عن علي وأبي الدرداء ، ورفعا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أو المذكورون في حديث : « لولا عباد ركَّع ، وأطفال رضع وبهائم رتع لصبَّ عليكم العذاب صبا » أو : من يصلي ومن يزكي ومن يصوم يدفع بهم عمن لا يفعل ذلك ، أو : المؤمن يدفع به عن الكافر كما يبتلى المؤمن بالكافر ، قاله قتادة ، أو : الرجل الصالح يدفع به عن ما به من أهل بيته وجيرانه البلاء ، أو : الشهود الذين يستخرج بهم الحقوق ، قاله الثوري ، أو : السلطان ، أو : الظالم يدفع يد الظالم ، أو : داود دفع به عن طالوت ولا ذلك غلبت العمالقة على بني إسرائيل ، فيكون : الناس ، عاماً والمراد الخصوص .

والذي يظهر : أن المدفوع بهم هم المؤمنون ، ولولا ذلك لفسدت الأرض ، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها ، ولكنه تعالى لا يخلي زماناً من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى ، إلى أن جعل ذلك في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال الزمخشري : لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ، ويكف بهم فسادهم ، لغلب المفسدون ، وفسدت الأرض ، وبطلت منافعها ، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض .

انتهى . وهو كلام حسن ، والذي قبله كلام ابن عطية .

والمصدر الذي هو : دفع ، أو : دفاع ، مضاف إلى الفاعل ، وبعضهم بدل من الناس ، وهو بدل بعض من كل ، والباء في : ببعض ، متعلق بالمصدر والباء فيه للتعدية فهو مفعول ثان للمصدر ، لأن دفع يتعدى إلى واحد ثم عدى إلى ثان بالباء ، وأصل التعدية بالباء ، وأصل التعدية بالباء أن يكون ذلك في الفعل اللازم : نحو : { لذهب بسمعهم } فإذا كان متعدياً فقياسه أن يعدى بالهمزة ، تقول : طعم زيد اللحم ، ثم تقول أطعمت زيداً اللحم ، ولا يجوز أن تقول : طعمت زيداً باللحم ، وإنما جاء ذلك قليلاً بحيث لا ينقاس ، من ذلك : دفع ، وصك ، تقول : صك الحجر الحجر ، وتقول : صككت الحجر بالحجر ، أي جعلته يصكه .

وكذلك قالوا : صككت الحجرين أحدهما بالآخر نظير : { دفع الله الناس بعضهم ببعض } فالباء للتعدية كالهمزة .

قال سيبويه ، وقد ذكر التعدية بالهمزة والتضعيف ما نصه : وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض ، على حد قولك : ألزمت ، كأنك قلت في التمثيل : أدفعت ، كما أنك تقول : أذهبت به ، وأذهبته من عندنا ، وأخرجته ، وخرجت به معك ، ثم قال سيبويه : صككت الحجرين أحدهما بالآخر على أنه مفعول من قولك : اصطك الحجران أحدهما بالأخر ، ومثل ذلك : ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض .

انتهى كلام سيبويه .

ولا يبعد في قولك : دفعت بعض الناس ببعض ، أن تكون الباء للآلة ، فلا يكون المجرور بها مفعولاً به في المعنى ، بل الذي يكون مفعولاً به هو المنصوب ، وعلى قول سيبويه يكون المنصوب مفعولاً به في اللفظ فاعلاً من جهة المعنى وعلى أن تكون الباء للآلة يصح نسبة الفعل إليها على سبيل المجاز ، كما أنك تقول في : كتبت بالقلم ، كتبت القلم .

وأسند الفساد إلى الارض حقيقة : بالخراب ، وتعطيل المنافع ، أو مجازاً : والمراد أهلها .

{ ولكن الله ذو فضل على العالمين } وجه الاستدراك هنا هو أنه لما قسم الناس إلى مدفوع به ومدفوع ، وأنه بدفعه بعضهم ببعض امتنع فساد الأرض ، فيهجس في نفس من غلب وقهر عن ما يريد من الفساد في الأرض أن الله تعالى ، غير متفضل عليه ، إذ لم يبلغه مقاصده ومآربه ، فاستدرك أنه ، وإن لم يبلغ مقاصده هذا الطالب للفساد أن الله لذو فضل عليه ، ويحسن إليه .

واندرج في عموم العالمين ، وقال تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } وما من أحد إلاَّ ولله عليه فضل ، ولو لم يكن إلاَّ فضل الاختراع .

وهذا الذي أبديناه من فائدة الاستدراك هو على ما قرره أهل العلم باللسان من أن : لكن ، تكون بين متنافيين بوجه ما ويتعلق على العالمين بفضل ، لأن فعله يتعدى : بعلى ، فكذلك المصدر ، وربما حذفت : على ، مع الفعل ، تقول : فضلت فلاناً أي على فلان ، وجمع بين الحذف والإثبات في قول الشاعر :

وجدنا نهشلاً فضلت فقيماً***

كفضل ابن المخاض على الفصيل

واذا عدى إلى مفعول به بالتضعيف لزمت عليه ، كقوله : { فضَّل الله المجاهدين على القاعدين }

/خ252