السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

{ فهزموهم بإذن الله } أي : بإرادته { وقتل داود جالوت } قال أهل التفسير : عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له ، وكان داود أصغرهم ، فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إليّ أو أبرز من يقاتلني ، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم ، فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره : من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي ، فهابوا لقاء جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا في ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه أن في ولد إيشا من يقتل الله تعالى به جالوت ، وكان داود أصغرهم يرعى الغنم ، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء فقال له طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتي وأناصفك ملكي ؟ قال : نعم قال : آنست من نفسك أن تقوى به قال : نعم أنا أرعى فيجيء الأسد فيأخذ شاة فأقوم إليه وأفتح لحييه عنها وأشقهما إلى قفاه ، فمرّ داود في الطريق فكلمه ثلاثة أحجار ، وقالت له : إنك تقتل جالوت بنا ، فحملها في مخلاته فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة وكان من أشدّ الناس وأقواهم ، كان يهزم الجيوش وحده ، وكان له بيضة فيها ثلثمائة رطل حديد ، انتدب له داود وأخذ مخلاته وتقلد بها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه الرعب فقال له : أنت تبرز لي قال : نعم ، وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام ، فقال : أتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب ؟ قال : نعم أنت شر من الكلب قال : لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء ، قال داود : أو يقسم الله لحمك ، فقال داود : باسم إله إبراهيم وأخرج حجراً ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحق ، ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال : بسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجراً واحداً ، ودوّر المقلاع ورمى به ، فسخر الله له الريح حتى أصاب أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه ، وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً ، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ جالوت قتيلاً ، فأخذه داود يجرّه حتى ألقاه بين يدي طالوت ، وفرح المسلمون فرحاً شديداً وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ، فجاء داود إلى طالوت وقال : أنجزني ما وعدتني فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه ، وأكثروا ذكره فحسده طالوت ، وأراد قتله فأخبر بذلك فهرب ، فسلط عليه العيون وطلبه أشدّ الطلب ، فلم يقدر عليه .

ثم إنّ طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال : أقتله فركض على أثره فاشتدّ داود وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غاراً ، فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتاً فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت فقال : لو كان دخل ههنا لخرق بناء العنكبوت ، فتركه ومضى وانطلق داود إلى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه إلى أن قتل طالوت ، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة ، وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم .

قال الكلبي والضحاك : ملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى : { وآتاه الله الملك والحكمة } أي : النبوّة بعد موت شمويل وطالوت ولم يجتمعا لأحد قبله بل كان الملك في سبط والنبوّة في سبط وقيل : الملك والحكمة العلم والعمل .

{ وعلمه مما يشاء } كصنعة الدروع كان يصنعها ويبيعها ، وكان لا يأكل إلا من عمل يده ، ومنطق الطير والصوت الطيب ، والألحان ، ولم يعط الله تعالى أحداً من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها ، وتظله الطير ويركد الماء الجاري ويسكن الريح والسلسلة ، كان لا يمسها ذو عاهة إلا برأ ، وكانوا يتحاكمون إليها بعده إلى أن رفعت ، فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقاً أتى السلسلة ، فمن كان صادقاً مد يده إليها فتناولها ، ومن كان كاذباً لم ينلها وكان ذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة ، فأودع بعض ملوكهم رجلاً جوهرة ثمينة فلما طلبها منه أنكرها ، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة ، إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقام صاحب الجوهرة فتناول السلسلة بيده ثم قام المنكر وقال لصاحب الجوهرة : خذ عكازتي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فقال الرجل :اللهمّ إن كنت تعلم أنّ الوديعة التي يدعيها قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمدّ يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها ، فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة .

{ ولولا دفع الله الناس بعضهم } بدل بعض من الناس { ببعض } أي : ولولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار { لفسدت الأرض } بغلبة المشركين وقتل المسلمين ، وتخريب المساجد ، أو لفسدت الأرض بشؤم الكفر فيكون المعنى : ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر .

وقد روي أنّ الله عز وجلّ ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ابن عمر الآية .

وروي عن ابن عباس أنه قال : ( يدفع الله تعالى بمن يصلي ، عمن لا يصلي وبمن يحج ، عمن لا يحج وبمن يزكي عمن لا يزكي ) وعن جابر بن عبد الله ( أنّ الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده ، وأهل دويرته ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم ) . وعن ابن مسعود ( إنّ لله عز وجلّ في الخلق ثلثمائة قلوبهم على قلب آدم ، ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى ، ولله في الخلق سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم ، ولله في الخلق خمسة قلوبهم على قلب جبرائيل ، ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل ، ولله في الخلق واحد قلبه في قلب إسرافيل ، فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة وإذا مات واحد من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة ، وإذا مات واحد من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة ، وإذا مات واحد من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين ، وإذا مات واحد من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلثمائة ، وإذا مات واحد من الثلثمائة أبدل الله مكانه من العامّة فيهم يحيي ويميت قال : لأنهم يسألون الله إكثار الأمم فيكثرون ويدعون على الجبابرة فينقصمون ويستسقون ، فيسقون ويسألون فتنبت لهم الأرض ويدعون فيدفع الله أنواع البلاء ) .

{ ولكن الله ذو فضل على العالمين } أي : كلهم أوّلاً بالإيجاد ، وثانياً بالدفاع ، فهو يكف عن ظلم الظلمة ، إمّا بعضهم ببعض أو بالصالحين ويسبغ عليهم غير ذلك من أنواع نعمه ظاهرة وباطنة .