17- إذا كنتم - أيها المؤمنون - قد انتصرتم عليهم ، وقتلتم من قتلتم منهم ، فإنكم لم تقتلوهم بقوتكم ، ولكن الله تعالى هو الذي نصركم وقتلهم بتأييده لكم وإلقاء الرعب في قلوبهم ، وما رميت - أيها الرسول - إذ كنت ترمى التراب والحصا في وجوههم إفزاعاً لهم ، ولكن الله تعالى هو الذي رمى فأفزعهم الرمى ، وكان ذلك لينعم الله على المؤمنين نعماً حسنة ، منها الابتلاء بالشدة ، ليظهر إخلاصهم ، وأن الله عليم بأمورهم ، سميع لأقوالهم ، وكذلك هو عليم بأمور أعدائهم وأقوالهم .
قوله تعالى : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } ، قال مجاهد : سبب هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول : أنا قتلت فلاناً ، ويقول الآخر مثله ، فنزلت الآية . ومعناه : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ، ولكن الله قتلهم بنصرته إياكم ، وتقويته لكم . وقيل : لكن الله قتلهم بإمداد الملائكة .
قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، قال أهل التفسير والمغازي :
ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم ، غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار ، غلام لبني العاص بن سعيد ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما : أين قريش ؟ قالا : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القوم ؟ قالا : كثير ، قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً عشرة ويوماً تسعة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه مكة قد ألقيت إليكم أفلاذ كبدها ، فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيب الذي جاؤوا منه إلى الوادي ، قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من حصىً عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق منهم مشرك إلا دخل في عينيه ، وفمه ، ومنخريه ، منها شيء . فانهزموا ، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . وقال قتادة ، وابن زيد : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وبحصاة في ميسرة القوم ، وبحصاة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفاً من الحصا إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء ، وقيل : معناه وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ ، وقيل : وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا .
قوله تعالى : { وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً } ، أي : ولينعم على المؤمنين منه نعمةً عظيمةً بالنصر والغنيمة .
يقول تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر ، وقتلهم المسلمون - فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بحولكم وقوتكم وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره .
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو اللّه ، ويناشده في نصرته ، ثم خرج منه ، فأخذ حفنة من تراب ، فرماها في وجوه المشركين ، فأوصلها اللّه إلى وجوههم ، فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها ، فحينئذ انكسر حدهم ، وفتر زندهم ، وبان فيهم الفشل والضعف ، فانهزموا .
يقول تعالى لنبيه : لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته إلى أعينهم ، وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا . وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا أي : إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين ، من دون مباشرة قتال ، ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين ، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات ، وأرفع المقامات ، ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيلا .
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن ، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها ، فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده ، ويجزي كلا بحسب نيته وعمله .
ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف ؛ ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم ؛ وتقتل لهم أعداءهم ، وترمي لهم وتصيب . . . وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء ، ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه :
( فلم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، وما رميت - إذ رميت - ولكن الله رمى . وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا . إن الله سميع عليم ) . .
وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها رسول الله [ ص ] في وجوه الكفار ، وهو يقول : " شاهت الوجوه . شاهت الوجوه " فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله . .
ولكن دلالة الآية أعم . فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي [ ص ] والعصبة المسلمة معه . ولذلك تلاها قول الله تعالى :
( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) . .
أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر ، بعد أن يكتب لهم به النصر . فهو الفضل المضاعف أولاً وأخيراً .
يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم ؛ ويجعلكم ستارا لقدرته ، متى علم منكم الخلوص له ؛ ويعطيكم النصر والأجر . . كما أعطاكم هذا وذاك في بدر . .
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد ، وأنه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خير ؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم ؛ ولهذا قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } أي : ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، أي : بل هو الذي أظفركم [ بهم ونصركم ]{[12764]} عليهم كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ] } [ آل عمران : 123 ] . {[12765]} وقال تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] يعلم - تبارك وتعالى - أن النصر ليس عن كثرة العدد ، ولا بلبس اللأمة والعدد ، وإنما النصر من عند الله تعالى{[12766]} كما قال : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] .
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب ، التي حصب بها وجوه المشركين{[12767]} يوم بدر ، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : " شاهت الوجوه " . ثم أمر الصحابة أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[12768]} { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أي : هو الذي بلغ ذلك إليهم ، وكبتهم بها لا أنت .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه - يعني يوم بدر - فقال : " يا رب إن تهلك هذه العصابة ، فلن تعبد في الأرض أبدا " . فقال له جبريل : " خذ قبضة من التراب ، فارم بها في وجوههم " فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين .
وقال السُّدِّيّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ، رضي الله عنه ، يوم بدر : " أعطني حصبا من الأرض " .
فناوله حصبا{[12769]} عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم ردفهم المؤمنون{[12770]} يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }
وقال أبو معشر المدني ، عن محمد بن قَيْس ومحمد بن كعب القُرَظِي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب ، فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : " شاهت الوجوه " . فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[12771]} يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رَمْية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في قوله [ تعالى ]{[12772]} { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة [ في ]{[12773]} ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، وقال : " شاهت الوجوه " ، فانهزموا .
وقد روي في هذه القصة{[12774]} عن عروة بن الزبير ، ومجاهد وعكرمة ، وقتادة وغير واحد من الأئمة : أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة ، عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية ، فانهزمنا{[12775]}
غريب من هذا الوجه . وهاهنا قولان آخران غريبان جدا .
أحدهما : قال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر ، دعا بقوس ، فأتى بقوس طويلة ، وقال : " جيئوني غيرها " . فجاؤوا بقوس كبداء ، فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن ، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو في فراشه ، فأنزل الله عز وجل : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }{[12776]}
وهذا غريب ، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، ولعله اشتبه عليه ، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله ، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم ، والله أعلم .
والثاني : روى ابن جرير أيضا ، والحاكم في مستدركه ، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا أنزلت{[12777]} في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أُبَي بن خلف بالحربة وهو في لأمته ، فخدشه في ترقوته ، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا ، حتى كانت وفاته [ بها ]{[12778]} بعد أيام ، قاسى فيها العذاب الأليم ، موصولا بعذاب البرزخ ، المتصل بعذاب الآخرة{[12779]}
وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها ، لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم ، والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } أي : ليُعَرّف المؤمنين من نعمته عليهم ، من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، ويشكروا بذلك نعمته .
وهكذا فسر{[12780]} ذلك ابن جرير أيضا . وفي الحديث : " وكل بلاء حسن أبلانا " .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع الدعاء ، عليم بمن يستحق النصر والغلب .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلََكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنّ اللّهَ رَمَىَ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش : فلم تقتلوا المشركين أيها المؤمنون أنتم ، ولكن الله قتلهم . وأضاف جلّ ثناؤه قتلهم إلى نفسه ، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين ، إذ كان جلّ ثناؤه هو مسبب قتلهم ، وعن أمره كان قتال المؤمنين إياهم ، ففي ذلك أدلّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صنع به وصلوا إلها . وكذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى فأضاف الرمي إلى نبيّ الله ، ثم نفاه عنه ، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي ، إذ كان جلّ ثناؤه هو الموصل المرميّ به إلى الذين رمُوا من به المشركين ، والمسبب الرمية لرسوله . فيقال للمسلمين ما ذكرنا : قد علمتم إضافة الله رمى نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه بعد وصفه نبيه به وإضافته إليه ذلك فعل واحد كان من الله بتسبيبه وتسديده ، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذف والإرسال ، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة : من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب ، ومن الخلق الاكتساب بالقوى ؟ فلن يقولوا في أحدهما قولاً إلاّ ألزموا في الاَخر مثله .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حين قال هذا : قتلت ، وهذا : قتلت . وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ قال لمحمد حين حَصَب الكفار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى قال : رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، قال : ما وقع منها شيء إلاّ في عين رجل .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، قال : لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا قال : «هَذِهِ مَصَارِعُهُمْ » . ووجد المشركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل إليه ، فلما طلعوا عليه زعموا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جاءَتْ بِخُيَلائها وَفَخْرِها تَحادّكَ وَتُكَذّبُ رَسُولَكَ ، اللّهُمّ إنّى أسألُكَ ما وَعَدْتَنِي » فلما أقبلوا استقبلهم ، فحثا في وجوههم ، فهزمهم الله عزّ وجلّ .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عمران ، قال : حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، عن حكيم بن حزام ، قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية ، فانهزمنا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي ، قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : «شاهَتِ الُوجُوهُ » فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأنزل الله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى . . . الاَية ، إلى : إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ . . . الاَية ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها في وجوه الكفار ، فهزموا عند الحجر الثالث .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعليّ رضي الله عنه : «أعْطِني حَصا مِنَ الأرْضِ » فناوله حصى عليه تراب فرمى به وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينيه من ذلك التراب شيء . ثم ردِفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . فذكر رمية النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال : «شاهَت الوُجُوهُ » فانهزموا ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر ، فقال : «يا رَبّ إنْ تَهْلِكْ هذِهِ العِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَد فِي الأرْضِ أبَدا » فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم فما من المشركين من أحد إلاّ أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال الله عزّ وجلّ في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم : وَلكنّ اللّهَ رَمى : أي لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك ، وما ألقى في صدور عدوّك منها حين هزمتهم .
ورُوي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال ، وهو ما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ : وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ قال : جاء أبيّ بن خلف الجمحي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ، فقال : الله محيي هذا يا محمد وهو رميم ؟ وهو يفتّ العظم . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يُحْيِيهِ اللّهُ ، ثُمّ يُمِيتُكَ ، ثُمّ يُدْخِلُكَ النّارَ » قال : فلما كان يوم أُحد ، قال : والله لأقتلنّ محمدا إذا رأيته فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «بَلْ أنا أقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ » .
وأما قوله : وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنا فإن معناه : ولينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم ، ويغنمهم ما معهم ، ويثبت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك البلاء الحسن ، رَمْيُ الله هؤلاء المشركين . ويعني بالبلاء الحسن : النعمة الحسنة الجميلة ، وهي ما وصفت ، وما في معناه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال في قوله : وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهَ بَلاءً حَسَنا : أي ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم في إظهارهم على عدوّهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه وليشكروا بذلك نعمته .
وقوله : إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني : إن الله سميع أيها المؤمنون لدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ومناشدته ربه ومسئلته إياه إهلاك عدوّه وعدوّكم ولقيلكم وقيل جميع خلقه ، عليم بذلك كله وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده ، وغير ذلك من الأشياء محيط به ، فاتقوه وأطيعوا أمره وأمر رسوله .
{ فلم تقتلوهم } بقوتكم . { ولكن الله قتلهم } بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم . روي : أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام : هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت ، فنزلت . والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم . { وما رميت } يا محمد رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه . { إذ رميت } أي إذ أتيت بصورة الرمي . { ولكنّ الله رمى } أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم ، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه . وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم . وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات . أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه ، والجمهور على الأول . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { ولكن } بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين . { وليُبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل . { إن الله سميع } لاستغاثتهم ودعائهم . { عليم } بنياتهم وأحوالهم .
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } .
الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملة : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } [ الأنفال : 12 ] تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره والأكثر أن يكون شرطاً فتكون رابطة لجوابه ، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقَطْع إيديهم فلَمْ تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم ، وإلى هذا يشير كلام صاحب « الكشاف » هنا وتبعه صاحب « المفتاح » في آخر باب النهي .
ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملة : { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذي كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار } [ الأنفال : 15 ] أي يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عَددا وعُدة ، والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول ، فإن كون قتل المشركين ورميهم حاصلاً من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلاً وتوجيهاً لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار . ولأَمْرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقوله : { واصبروا إن الله مع الصابرين } [ الأنفال : 46 ] فإنهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم ، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار ، لأنه يقطع عذر المتولين والفارين ، ولذلك قال الله تعالى في وقعة أحد : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمْعانِ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } [ آل عمران : 155 ] .
وإذ قد تضمنت الجملة إخباراً عن حالة أفعال فعلها المخاطبون ، كان المقصود اعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضَرب سيوف المسلمين ، فأنباهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بإبطال ذوي شجاعة ، وذوي شوكة وشِكّة ، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صورياً ، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعلَ الله تعالى الخارقَ للعادة ، فالمنفي هو الضرب الكائنُ سببَ القتل في العادة ، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذٍ معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكرامة لأصحابه ، وليس المنفي تأثير الضرب في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر ، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل ، في جاهلية أو إسلام ، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا . وليس السياق لتعليم العقيدة الحق .
وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه ، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلاً فلذلك صح النفي في قوله : { فلم تقتلوهم } مع كون القتل حاصلاً ، وإنما المنفي كونه صادراً عن أسبابهم .
ووجه الاستدراك المفاد ب { لكن } أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادراً عن المخاطبين فكانَ السامعُ بحيث يتطلب أكان القتلُ حقيقة أم هو دون القتل ، ومَن كان فاعلاً له ، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله : { ولكن الله قتلهم } .
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : { ولكن الله قتلهم } دون أن يقال ولكن قتلهم الله ، لمجرد الاهتمام لا الاختصاص ، لأن نفي اعتقاد المخاطبين أنهم القاتلون قد حصل من جملة النفي ، فصار المخاطبون متطلبين لمعرفة فاعل قتل المشركين فكان مهمّاً عندهم تعجيل العلم به .
{ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }
استطراد بذكر تأييد إلهي آخرَ لم يُجر له ذكر في الكلام السابق ، وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون وابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرّض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال خذ قُبْضة من تراب فارمهم بها فأخذ حفنة من الحصاء فاستقبل بها المشركين ثم قال : « شاهت الوجوه » ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال : شُدوا فكانت الهزيمة على المشركين ، وقال غيره لم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه فشغل بعينيه فانهزموا ، فلكون الرمي قصة مشهورة بينهم حذف مفعول الرمي في المواضع الثلاثة ، وهذا أصح الروايات ، والمراد بالرمي رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم بدر ، وفيه روايات أخرى لا تناسب مهيع السورة ، فالخطاب في قوله : { رميت } للنبيء صلى الله عليه وسلم .
والرمي حقيقته إلقاء شيء أمسكتْه اليد ، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من فِعل أو قول كما في قول النابغة :
رمَى الله في تلك الأكفِ الكَوانع
أي أصابها بما يُشلها وقول جميل :
رمَى الله في عيني بُثينة بالقذى *** وفي الغُر من أنيابها بالقوازح
وقوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } [ النور : 6 ] فيجوز أن يكون { رميتَ } الأول وقولَه : { ولكن الله رمى } مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينَهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكرامة لأهل بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله ، ويكون قوله : { إذ رميت } مستعملاً في معناه الحقيقي ، وفي « القرطبي » عن ثعلب أن المعنى وما رميتَ الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا ، وفيه عن أبي عبيدة أن ( رميتَ ) الأول والثاني ، و ( رمى ) مستعملة في معانيها الحقيقية ، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفي هو الرمي الحقيقي والمثبت في قوله : { إذ رميت } هو الرمي المجازي وجعله السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل ما رميت نفياً للرمي الحقيقي وجعل ( إذ رميت ) للرمي المجازي .
وقوله : { إذ رميت } زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور ، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله : { فلم تَقتلوهم } لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد ، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غيرِ الله ، لم يكن نفي ذلك التأثير ، وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجاً إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم حاصلاً منه ، فإن ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال ، فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالاً لاحتمال المجاز في النفي بأن يُحمل على نفي رمي كامل ، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يَجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار ، كقول عباس بن مرداس :
أي شيئاً مجدياً ، فدل قوله : { إذ رميت } على أن المراد بالنفي في قوله : { وما رميت } هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه ، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله : { فلم تقتلوهم } لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد نفي تأثيره ، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد ، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية ، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم ، عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق ، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف ، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله : { ولكن الله رمى } كالقول في { ولكن الله قتلهم } .
وقرأ نافع والجمهور { ولكن } بتشديد النون في الموضعين وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بسكون النون فيهما .
{ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ، إن الله سميع عليم }
عطف على محذوف يؤذن به قوله : { فلم تقتلوهم } الآية وقوله { وما رميت } الآية .
فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية ، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاءً حسناً أي يعطيهم عطاءً حسناً يشكرونه عليه ، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها ، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنةُ في الآخرة .
وأعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريفُ هذا الفعل أغفله الراغب في « المفردات » ومن رأيتُ من المفسرين ، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختيار ثم أطلق على إصابة أحد أحداً بشيء يظهر به مقدار تأثره ، والغالب أن الإصابة بشرّ ، ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى : { ونبلُوكم بالشر والخير فتنةً } [ الأنبياء : 35 ] وهو إطلاق كنائي وشاع ذلك الإطلاق الكنائي حتى صار بمنزلة المعنى الصريح ، وبقي الفعل المجرد صالحاً للإصابة بالشر والخير ، واستعملوا أبلاه مهموز أي أصابةُ بخير قال ابن قتيبة : « يقال من الخير أبليته إبلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاءً » .
قلت : جعلوا الهمزة فيه دالة على الإزالة أي إزالة البلاء الذي غلب في إصابة الشر ولهذا قال تعالى : { بلاء حسناً } وهو مفعول مطلق لفعل يُبليَ موكد له ، لأن فعل يبلي دال على بلاء حسن وضمير { منه } عائد إلى اسم الجلالة و ( من ) الابتداء المجازي لتشريف ذلك الإبلاء ويجوز عود الضمير إلى المذكور من القتل والرمي ويكون ( من ) للتعليل والسببية .
وقوله : { إن الله سميع عليم } تذييل للكلام و ( إن ) هذا مقيدة للتعليل والربط أي فعل ذلك لأنه سميع عليم ، فقد سمع دعاء المؤمنين واستغاثتهم وعلم أنهم لعنايته ونصره فقبل دعاءهم ونصرهم .