{ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف } وهو يهوذا ، وقال قتادة روبيل ، وكان ابن خالة يوسف ، وكان أكبرهم سنا وأحسنهم رأيا فيه . والأول أصح أنه يهوذا ، نهاهم عن قتله ، وقال : القتل كبيرة عظيمة . { وألقوه في غيابة الجب } ، قرأ أبو جعفر ، ونافع : غيابات الجب على الجمع في الحرفين ، وقرأ الباقون غيابة الجب على الواحد : أي : في أسفل الجب وظلمته . والغيابة : كل موضع ستر عنك الشيء وغيبه . والجب : البئر غير المطوية لأنه جب ، أي : قطع ولم يطو . { يلتقطه } : يأخذه ، والالتقاط : أخذ الشيء من حيث لا يحتسبه ، { بعض السيارة } ، أي : بعض المسافرين ، فيذهب به إلى ناحية أخرى ، فتستريحوا منه ، { إن كنتم فاعلين } ، أي : إن عزمتم على فعلكم ، وهم كانوا يومئذ بالغين ، ولم يكونوا أنبياء بعد . وقيل : لم يكونوا بالغين ، وليس بصحيح ، بدليل أنهم قالوا : { وتكونوا من بعده قوما صالحين } . { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا } والصغير لا ذنب له . وقال محمد بن إسحاق : اشتمل فعلهم على جرائم من : قطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، وقلة الرأفة بالصغير ، الذي لا ذنب له ، والغدر بالأمانة ، وترك العهد ، والكذب مع أبيهم . وعفا الله عنهم ذلك كله حتى لا ييأس أحد من رحمة الله . وقال بعض أهل العلم : إنهم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم ، ولو فعلوا لهلكوا أجمعين ، وكل ذلك كان قبل أن أنبأهم الله تعالى . وسئل أبو عمروا بن العلاء : كيف قالوا { يرتع ويلعب } وهم أنبياء ؟ قال : كان ذلك قبل أن نبأهم الله تعالى ، فلما أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الحيل .
{ 10 } { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }
أي : { قَالَ قَائِلٌ ْ } من إخوة يوسف الذين أرادوا قتله أو تبعيده : { لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ْ } فإن قتله أعظم إثما وأشنع ، والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه من غير قتل ، ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه { فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ْ } وتتوعدوه على أنه لا يخبر بشأنكم ، بل على أنه عبد مملوك آبق منكم ، لأجل أن { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ْ } الذين يريدون مكانا بعيدا ، فيحتفظون فيه .
وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف ، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية ، فإن بعض الشر أهون من بعض ، والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل ، . فلما اتفقوا على هذا الرأي .
ولكن ضميرا واحدا فيهم ، يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه . فيقترح حلا يريحهم من يوسف ، ويخلي لهم وجه أبيهم ، ولكنه لا يقتل يوسف ، ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك . إنما يلقيه في الجب على طريق القوافل ، حيث يرجح أن تعثر عليه إحدى القوافل فتنقذه وتذهب به بعيدا :
( قال قائل منهم : لا تقتلوا يوسف ، وألقوه في غيابة الجب ، يلتقطه بعض السيارة . إن كنتم فاعلين ) . .
روح التشكيك والتثبيط . كأنه يشككهم في أنهم مصرون على إبقاع الأذى بيوسف . وهو أسلوب من أساليب التثبيط عن الفعل ، واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ . ولكن هذا كان أقل ما يشفي حقدهم ؛ ولم يكونوا على استعداد للتراجع فما اعتزموه . . نفهم هذا من المشهد التالي في السياق . .
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ } قال قتادة ، ومحمد بن إسحاق : كان أكبرهم واسمه روبيل . وقال السدي : الذي قال ذلك يهوذا . وقال مجاهد : هو شمعون { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } أي : لا تَصِلوا{[15070]} في عداوته وبغضه إلى قتله ، ولم يكن لهم{[15071]} سبيلٌ إلى قتله ؛ لأن الله تعالى كان يريد منه أمرًا لا بدّ من إمضائه وإتمامه ، من الإيحاء إليه بالنبوة ، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها ، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب ، وهو أسفله .
قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس .
{ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } أي : المارة من المسافرين ، فتستريحوا بهذا ، ولا حاجة إلى قتله .
{ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } أي : إن كنتم عازمين على ما تقولون .
قال محمد بن إسحاق بن يسار : لقد اجتمعوا على أمر عظيم ، من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير الضَّرَع الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، وخطره عند الله ، مع حق الوالد على ولده ، ليفرقوا بينه وبين ابنه{[15072]} وحبيبه ، على كبر سنه ، ورِقَّة عظمه ، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا ، وبين أبيه على ضعف قوته وصغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه ، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمرا عظيما .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ قَآئِلٌ مّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال قائل من إخوة يوسف : { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } ، وقيل : إن قائل ذلك : روبيل ، كان ابن خالة يوسف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } ، ذكر لنا أنه روبيل ، كان أكبر القوم ، وهو ابن خالة يوسف ، فنهاهم عن قتله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { اقْتُلُوا يُوسُفَ . . . } ، إلى قوله : { إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ } ، قال : ذكر لي ، والله أعلم ، أن الذي قال ذلك منهم : روبيل ، الأكبر من بني يعقوب ، وكان أقصدهم فيه رأيا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } ، قال : كان أكبر إخوته ، وكان ابن خالة يوسف ، فنهاهم عن قتله .
وقيل : كان قائل ذلك منهم : شمعون . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : { قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } ، قال : هو شمعون .
وقوله : { وألْقُوهُ فِي غَيابَتِ الجُبّ } ، يقول : وألقوه في قعر الجبّ حيث يغيب خبره .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرأة أهل المدينة : { غَياباتِ الجُبّ } ، على الجماع . وقرأ ذلك عامة قرّاء سائر الأمصار : { غَيابَةِ الجُبّ } ، بتوحيد الغيابة . وقراءة ذلك بالتوحيد أحبّ إليّ .
والجبّ : بئر . وقيل : إنه اسم بئر ببيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { فِي غَيابَةِ الُجْبّ } ، قال : بئر ببيت المقدس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { غَيابَةِ الجُبّ } ، قال : بئر ببيت المقدس .
والغيابة : كل شيء غيب شيئا فهو غيابة ، والجبّ : البئر غير المطوية .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { فِي غَيابَةِ الجُبّ } ، في بعض نواحيها : في أسفلها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وألْقُوهُ فِي غَيابَةِ الجُبّ } ، يقول : في بعض نواحيها .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وألْقُوهُ فِي غَيابَةِ الجُبّ } ، قال : قالها كبيرهم الذي تخلف . قال : والجبّ : بئر بالشام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ألْقُوهُ فِي غَيابَةِ الجُبّ } ، يعني : الركية .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : الجبّ : البئر .
وقوله : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ } ، يقول : يأخذه بعض مارّة الطريق من المسافرين . { إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ } ، يقول : إن كنتم فاعلين ما أقول لكم . فذكر أنه التقطه بعض الأعراب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ } ، قال : التقطه ناس من الأعراب .
وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ : { تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ } ، بالتاء .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن هارون ، عن مطر الورّاق ، عن الحسن .
وكأن الحسن ذهب في تأنيثه بعض السيارة إلى أن فعل بعضها فعلها ، والعرب تفعل ذلك في خبر كان عن المضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبرا عن جميعه ، وذلك كقول الشاعر :
أرَى مَرّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنّي *** كمَا أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ
فقال : «أخذن مني » ، وقد ابتدأ الخبر عن المراد ، إذ كان الخبر عن المرّ خبرا عن السنين ، وكما قال الاَخر :
إذا ماتَ مِنْهُمْ سَيّدٌ قامَ سَيّدٌ *** فَدَانَتْ لهُ أهْلُ القُرَى والكَنائِسِ
فقال : «دانت له » ، والخبر عن أهل القرى ، لأن الخبر عنهم كالخبر عن القرى . ومن قال ذلك ، لم يقل : فدانت له غلام هند ، لأن الغلام لو ألقى من الكلام لم تدلّ هند عليه ، كما يدل الخبر عن القرية على أهلها . وذلك أنه لو قيل : فدانت له القرى ، كان معلوما أنه خبر عن أهلها ، وكذلك بعض السيارة ، لو ألقى البعض ، فقيل : تلتقطه السيارة ، علم أنه خبر عن البعض أو الكلّ ، ودلّ عليه الخبر عن السيارة .
{ قال قائل منهم } يعني يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا . وقيل روبيل . { لا تقتلوا يوسف } فإن القتل عظيم . { وألقوه في غيابة الجبّ } في قعره ، سمي به لغيبوبته عن أعين الناظرين0 وقرأ نافع في " غيابات " في الموضعين على الجمع كأنه لتلك الجب غيابات . وقرئ " غيبة " و " غيابات " بالتشديد . { يلتقطه } يأخذه . { بعض السيارة } بعض الذين يسيرون في الأرض . { إن كنتم فاعلين } بمشورتي أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه .
والقائل منهم قيل : هو روبيل - أسنهم - قاله قتادة وابن إسحاق ، وقيل : يهوذا أحلمهم ، وقيل شمعون أشجعهم ، قاله مجاهد ، وهذا عطف منه على أخيه لا محالة لما أراد الله من إنفاذ قضائه . و «الغيابة » ما غاب عنك من الأماكن أو غيب عنك شيئاً آخر .
وقرأ الجمهور : «غيابة الجب » ، وقرأ نافع وحده «غيابات الجب » ، وقرأ الأعرج «غيّابات الجب » بشد الياء ، قال أبو الفتح : هو اسم جاء على فعالة ، كان أبو علي يلحقه بما ذكر سيبويه من الفياد ونحوه{[6573]} ، ووجدت أنا من ذلك : التيار للموج والفجار للخزف .
قال القاضي أبو محمد : وفي شبه غيابة بهذه الأمثلة نظر لأن غيابة جارية على فعل{[6574]} .
وقرأ الحسن : «في غيبة الجب » على وزن فعلة{[6575]} ، وكذلك خطت في مصحف أبي بن كعب ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر - وهو المنخل -
فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي*** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل{[6576]}
و { الجب } البئر التي لم تطو{[6577]} لأنها جبت من الأرض فقط .
وقرأ الجمهور : «يلتقطه بعض » بالياء من تحت على لفظ بعض ، وقرأ الحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبو رجاء «تلتقطه » بالتاء ، وهذا من حيث أضيف { البعض } إلى { السيارة } فاستفاد منها تأنيث العلاقة ، ومن هذا قول الشاعر : [ الوافر ]
أرى مرّ السنين أخذنْ منّي*** كما أخذ السرار من الهلال{[6578]}
إذا مات منهم سيد قام سيد*** فذلت له أهل القرى والكنائس{[6579]}
ذلت لوقعتها جميع نزار . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[6580]}
حين أراد بنزار القبيلة ، وأمثلة هذا كثير .
وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه السلام : و { السيارة } جمع سيار . وهو بناء للمبالغة ، وقيل في هذا { الجب } : أنه بئر بيت المقدس . وقيل : غيره : وقيل : لم يكن حيث طرحوه ماء ولكن أخرجه الله فيه حتى قصده الناس للاستقاء : وقيل : بل كان فيه ماء كثير يغرق يوسف فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت عليه يوسف ، وروي أنهم رموه بحبل فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه حينئذ ، وهموا برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك .
فصْل جملة { قال قائل } جار على طريقة المقاولات والمحاورات ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .
وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنّه منهم .
والعدول عن اسمه العَلَم إلى التنكير والوصفيّة لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنّما المهمّ أنّه من جماعتهم . وتجنّباً لما في اسمه العلم من الثقل اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه . قيل : إنّه ( يهوذا ) وقيل : ( شمعون ) وقيل ( روبين ) ، والذي في سفر التّكوين من التّوراة أنه ( راوبين ) صدّهم عن قتله وأن يهوذا دل عليه السيارة كما في الإصحاح37 . وعادة القرآن أن لا يذكر إلاّ اسم المقصود من القصّة دون أسماء الذين شملتهم ، مثل قوله : { وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعون } [ سورة غافر : 28 ] .
والغيابات : جمع غيابة ، وهي ما غاب عن البصر من شيء . فيقال : غيابة الجبّ وغيابة القبر والمراد قعر الجبّ .
والجبّ : البئر التي تحفر ولا تطوى .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر غيابات بالجمع . ومعناه جهات تلك الغيابة ، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم ، كقوله تعالى : { أوْ كظلماتتٍ في بحرٍ لجّيّ } [ سورة النور : 40 ] وقرأ الباقون { في غيابة الجبّ } بالإفراد .
والتّعريف في { الجبّ } تعريف العهد الذهني ، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم : ادخل السوق . وهو في المعنى كالنكرة .
فلعلّهم كانوا قد عهدوا جباباً كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم ، وقد توخوا أنْ تكون طرائقهم عليها ، وأحسب أنّها كانت ينصب إليها ماء السيول ، وأنّها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أنّ إلقاءه في الجبّ لا يهشّم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه .
و { يلتقطه } جواب الأمر في قوله : { وألقوه } . والتّقدير : إن تلقوه يلتقطه . والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أنّ ما أشار به القائل من إلقاء يوسف عليه السّلام في غيابة جبّ هو أمثل ممّا أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنّه يحصل به إبعاد يوسف عليه السّلام عن أبيه إبعاداً لا يرجى بعدَه تلاقيهما دون إلحاق ضرّ الإعدام بيوسف عليه السّلام ؛ فإنّ التقاط السيّارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده ، لأنّه إذا التقطه السيّارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعداً على بعد .
والالتقاط : تناول شيء من الأرض أو الطريق ، واستعير لأخذ شيء مضاع .
والسيّارة : الجماعة الموصوفة بحالة السّير وكثرته ، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاّحة والبَحّارة .
والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنّهم علموا أنّ الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتّجارة والميرة .
وجملة { إن كنتم فاعلين } شرط حذف جوابه لدلالة { وألقوه } ، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألْقوه في غيابات الجبّ ولا تقتلوه .
وفيه تعريض بزيادة التريّث فيما أضمروه لعلّهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه ، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو { إنْ } إيماء إلى أنّه لا ينبغي الجزم به ، فكَانَ هذا القائل أمثل الإخوة رأياً وأقربهم إلى التّقوى ، وقد علموا أنّ السيّارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء ، لأنّها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر . وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال قائل منهم}... {لا تقتلوا يوسف} فإن قتله عظيم، {و} لكن {وألقوه في غيابت الجب} على طريق الناس، فيأخذونه فيكفونكم أمره، يعني: الزائغة من البئر ما يتوارى عن العين ولا يراه أحد، فهو غيابت الجب، {يلتقطه بعض السيارة}، فيذهبوا به فيكفونكم أمره، {إن كنتم} لا بد {فاعلين}، من الشر الذي تريدون به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال قائل من إخوة يوسف: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ}... وقوله: {وألْقُوهُ فِي غَيابَتِ الجُبّ}، يقول: وألقوه في قعر الجبّ حيث يغيب خبره. والجبّ: بئر... والجبّ: البئر غير المطوية...
{يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ}، يقول: يأخذه بعض مارّة الطريق من المسافرين.
{إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ}، يقول: إن كنتم فاعلين ما أقول لكم. فذكر أنه التقطه بعض الأعراب.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ في غَيَابَةِ الجُبِّ}. لما تآمروا على أحد شيئين مِنْ قَتْلٍ أو إبعادٍ عن أبيه أشار عليهم هذا القائل حين قالوا لا بد من أحد هذين بأنقص الشرَّين وهو الطرح في جُبٍّ قليل الماء ليأخذه بعض السيارة وهم المسافرون...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إخوةُ يوسف -وإنْ قابلوه بالجفاء- مَنَعَتْهُم شفقةُ النَّسَبِ وحُرْمةُ القرابةِ من الإقدام على قتله؛ فقالوا لا تقتلوه وغَيِّبُوا شَخْصَه. ويقال إنما حَمَلَهم على إلقائه مرادُهم أن يخلوَ لهم وجهُ أبيهم، فلمَّا أرادوا حصولَ مرادهم في تغييبه لم يبالغوا في تعذيبه. ويقال لمَّا كان المعلوم له -سبحانه- في أمر يوسف تبليغه إياه تلك القربة ألقى الله في قلبِ قائلهم حتى قال: {لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ}. ثم إنه -وإن أبلاه في الحال- سَهَّلَ عليه ذلك في جَنْبِ ما رقَّاه إليه في المآل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: إن هذا لمن أعجب العجب من مطلق الأقارب فضلاً عن الإخوة، فماذا قالوا عند سماعه؟ فقيل: {قال} ولما كان السياق لأن الأمر كله لله، فهو ينجي من يشاء بما يشاء، لم يتعلق القصد ببيان الذي كانت على يده النجاة، فقال مبهماً إشعاراً بأنه يجب قول النصح من أيّ قائل كان، وأن الإنسان لا يحقر نفسه في بذل النصح على أيّ حال كان: {قائل} ثم عينه بعض التعيين فقال: {منهم} أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام {لا تقتلوا يوسف} لا بأيديكم ولا بالإلقاء في المهالك، فإن القتل أكبر الكبائر بعد الشرك، وكأنه لم يكن في ناحيتهم تلك غير جب واحد فعرفه فقال: {وألقوه} وكأنه كان فيه ماء ومكان يمكن الاستقرار فيه ولا ماء به، فأراده بقوله: {في غيابت الجب} أي غوره الغائب عن الأعين، فإن ذلك كافٍ في المقصود، وإنكم إن تفعلوا {يلتقطْهُ بعض السيارة} جمع سيار، وهو المبالغ في السير، هذا {إن كنتم} ولا بد {فاعلين} ما أردتم من تغييبه عن أبيه ليخلو لكم وجهه؛ والجب: البئر التي لم تطو، لأنه قطع عنها ترابها حتى بلغ الماء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال قائل منهم} أبهمه القرآن لأن تعيينه بتسميته لا فائدة منها في عبرة ولا حكمة، وإنما الفائدة في وصفه بأنه منهم، وهي أنهم لم يجمعوا على جناية قتله... {لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب} الجب: البئر غير المطوية، أي غير المبنية من داخلها بالحجارة... وغيابته (بالفتح) ما يغيب عن رؤية البصر من قعره أو حفرة بجانبه تكون فوق سطح الماء يدخلها من يدلي فيه لإخراج شيء وقع فيه أو إصلاح خلل عرض له، وعلم من التعريف أنه جب معروف كان هنالك حيث يرعون، وجواب ألقوه. {يلتقطه بعض السيارة} وهم جماعة المسافرين الذين يسيرون في الأرض يقطعون الأرض من مكان إلى آخر لأجل التجارة فيأخذوه إلى حيث ساروا من الأقطار البعيدة فيتم لكم الشق الثاني مما اقترحتم وهو إبعاده عن أبيه {إن كنتم فاعلين} ما هو الصواب المقصود لكم بالذات فهذا هو الصواب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن ضميرا واحدا فيهم، يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه. فيقترح حلا يريحهم من يوسف، ويخلي لهم وجه أبيهم، ولكنه لا يقتل يوسف، ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك. إنما يلقيه في الجب على طريق القوافل، حيث يرجح أن تعثر عليه إحدى القوافل فتنقذه وتذهب به بعيدا: (قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف، وألقوه في غيابة الجب، يلتقطه بعض السيارة. إن كنتم فاعلين).. ونحس من قوله: (إن كنتم فاعلين).. روح التشكيك والتثبيط. كأنه يشككهم في أنهم مصرون على إبقاع الأذى بيوسف. وهو أسلوب من أساليب التثبيط عن الفعل، واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ. ولكن هذا كان أقل ما يشفي حقدهم؛ ولم يكونوا على استعداد للتراجع فما اعتزموه.. نفهم هذا من المشهد التالي في السياق...