قوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } . يعني : المعاصي .
قوله تعالى : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } . ووقع في النزع .
قوله تعالى : { قال إني تبت الآن } . وهي حالة السوق ، حين يساق بروحه ، لا يقبل من كافر إيمان ، ولا من عاص توبة . قال الله تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر :85 ] ولذلك لم ينفع الإيمان فرعون حين أدركه الغرق .
قوله تعالى : { ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا } . أي : هيأنا وأعددنا ، { لهم عذاباً أليماً } .
{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : المعاصي فيما دون الكفر . { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها ، إنما تنفع توبة الاختيار . ويحتمل{[196]} أن يكون معنى قوله : { مِنْ قَرِيبٍ } أي : قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة ، فيكون المعنى : أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه ، بخلاف من استمر على ذنوبه{[197]} وأصر على عيوبه ، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة .
والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها ، كالذي يعمل السوء على علم تام{[198]} ويقين وتهاون{[199]} بنظر الله إليه ، فإنه سد{[200]} على نفسه باب الرحمة .
نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة{[201]} تامة{[202]} [ التي ] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته ، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب ، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }
فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته ، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة ، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه . والله أعلم .
( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ) .
فهذه التوبة هي توبة المضطر ، لجت به الغواية ، وأحاطت به الخطيئة . توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب ، ولا فسحة لمقارفة الخطيئة . وهذه لا يقبلها الله ، لأنها لا تنشىء صلاحا في القلب ولا صلاحا في الحياة ، ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه .
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الأمن ، فيستردون أنفسهم من تيه الضلال ، وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان ، ليعملوا عملا صالحا - إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتاب - أو ليعلنوا - على الأقل - انتصار الهداية على الغواية . إن كان الأجل المحدود ينتظرهم ، من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد . .
( ولا الذين يموتون وهم كفار ) . .
وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة ، وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة . . ( أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) .
اعتدناه : أي أعددناه وهيأناه . . فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار !
وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة ، ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة . فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد ، وينشىء آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد . .
وهذا كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ]{[6821]} } الآيتين ، [ غافر : 84 ، 85 ] وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها كما قال [ تعالى ]{[6822]} { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } الآية [ الأنعام : 158 ] .
وقوله : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ الآية ]{[6823]} يعني : أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته ، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض [ ذهبا ]{[6824]} .
قال ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } قالوا : نزلت في أهل الشرك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، قال : حدثني أبي ، عن مكحول : أن عُمَرَ بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان : أن أبا ذر حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل تَوْبَةَ عَبْدِه - أو يغفر لعبده - ما لم يَقَعِ الحِجَاب " . قيل : وما وُقُوع الحجاب ؟ قال : " أن تَخرجَ النَّفْسُ وهي مُشْرِكة " {[6825]} ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[6826]} { أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي : موجعا شديدا مقيما .
{ وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الاَنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُوْلََئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله ، حتى إذا حضر أحدهم الموت ، يقول : إذا حشرج أحدهم بنفسه ، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه قال : وقد غلب على نفسه ، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته : إني تبت الاَن ، يقول فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة ، لأنه قال ما قال في غير حال توبة . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن يعلى بن نعمان ، قال : أخبرني من سمع ابن عمر يقول : التوبة مبسوطة ما لم يَسُقْ . ثم قرأ ابن عمر : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } ثم قال : وهل الحضور إلا السّوْق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } قال : إذا تبين الموت فيه لم يقبل الله له توبة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } فليس لهذا عند الله توبة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت إبراهيم بن ميمون ، يحدّث عن رجل من بني الحارث ، قال : حدثنا رجل منا ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : «مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بعَامٍ تِيبَ عَلَيْهِ » ، حتى ذكر شهرا ، حتى ذكر ساعة ، حتى ذكر فُواقا ، قال : فقال رجل : كيف يكون هذا والله تعالى يقول : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } ؟ فقال عبد الله : أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : التوبة مبسوطة ما لم يؤخذ بكَظَمِه .
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بقوله : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } فقال بعضهم : عُني به أهل النفاق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : نزلت الأولى في المؤمنين ، ونزلت الوسطى في المنافقين ، يعني : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ } والأخرى في الكفار ، يعني : { وَلا الّذِينَ يَموتونَ وَهمْ كفّارٌ } .
وقال آخرون : بل عني بذلك أهل الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بلغنا في هذه الاَية : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ } قال : هم المسلمون ، ألا ترى أنه قال : { وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ } ؟
وقال آخرون : بل هذه الاَية كانت نزلت في أهل الإيمان ، غير أنها نسخت . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ المَوْتُ قالَ إنّي تبْتُ الاَنَ وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ } فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } فحرّم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم من المغفرة .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه في الإسلام ، وذلك أن المنافقين كفار ، فلو كان معنيا به أهل النفاق لم يكن لقوله : { وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كفّارٌ } معنى مفهوم ، لأنهم إن كانوا هم والذين قبلهم في معنى واحد من أن جميعهم كفار ، فلا وجه لتفريق أحد منهم في المعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد مقبولة . وفي تفرقة الله جلّ ثناؤه بين أسمائهم وصفاتهم بأن سمى أحد الصنفين كافرا ، ووصف الصنف الاَخر بأنهم أهل سيئات ، ولم يسمهم كفارا ما دلّ على افتراق معانيهم ، وفي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا ، وفساد ما خالفه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كفّارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابا ألِيما } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا التوبة للذين يموتون وهم كفار فموضع «الذين » خفض ، لأنه معطوف على قوله : { لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ } . وقوله : { أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابا ألِيما } يقول : هؤلاء الذين يموتون وهم كفار ، أعتدنا لهم عذابا أليما ، لأنهم أبعدهم من التوبة كونهم على الكفر . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { وَلا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كفّارٌ } أولئك أبعد من التوبة .
واختلف أهل العربية في معنى : { أعْتَدْنا لَهُمْ } فقال بعض البصريين : معنى : { أعْتَدْنا } : أفعلنا من العتاد ، قال : ومعناها : أعددنا . وقال بعض الكوفيين : أعددنا وأعتدنا معناهما واحد ، فمعنى قوله : { أعْتَدْنا لَهُمْ } أعددنا لهم { عَذَابا ألِيما } يقول : مؤلما موجعا .