{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة ، ولا للذي وافى على الكفر .
فالأول : كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق ، وكالذين قال تعالى فيهم : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } وحضور الموت أول أحوال الآخرة ، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة ، فكذلك هذا الذي حضره الموت .
قال الزمخشري : سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت ، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم ، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة .
فكما أنَّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين ، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت ، لمجاوزة كل واحد منهما .
أو أنَّ التكليف والاختيار انتهى كلامه .
زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظرياً ، فإذا صار العلم بالله ضرورياً سقط التكليف .
وأهلُ الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة ، فلذلك سقط التكليف .
وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار .
والذي قاله المحققون : إن القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة ، لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم الله ، ثم أحياهم وكلفهم ، فدل على أنّ مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف ، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما ، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف ، فكذلك تلك .
ولأنّه عند القرب يصير مضطراً فيكون ذلك سبباً للقبول ، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء .
وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات ، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر ، وله أن يجعل المقبول مردوداً ، والمردود مقبولاً ، { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة ، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار .
وقال الربيع : نزلت وليست التوبة في المسلمين ، ثم نسخها : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لم يشاء } فحتم أن لا يغفر للكافرين ، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته .
وطعن على ابن زيد : بأن الآية خبر ، والأخبار لا تنسخ .
وأجيب : بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي ، فيجوز نسخ ذلك الحكم ، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنَّ من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له ، فيحتاج أن ينسخ بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
وظاهر قوله : ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله : الذين يعملون السيئات ، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين ، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول : هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما ، وليس هذا لزيد ولا لعمرو ، فينتفي عن كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما ، وليس هذا لزيد ولا لعمرو ، فينتفي عن كل واحد منهما ، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما .
وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله : ( فإن قلت ) : من المراد بالذين يعملون السيئات ، أهم الفساق من أهل القبلة ، أم الكفار ؟ ( قلت ) : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد به الكفار لظاهر قوله : وهم كفار ، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين ، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا ، ويكون قوله : وهم كفار وارداً على سبيل التغليظ كقوله : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وقوله : « فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً » ، من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ، لأنّ من كان مصدقاً ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حال الكافر ، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى لامه .
وهو في غاية الاضطراب ، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين : أحدهما : الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت ، والثاني : الذين ماتوا على الكفر .
وفي هذا الجواب حمل الآية على أنها أريد بها أحد القسمين .
أما الكفار فقط وهم الذين وصفوا عنده بأنهم يعملون السيئات ويموتون على الكفر ، وعلل هذا الوجه بقوله : لظاهر قوله : وهم كفار ، فجعل هذه الحالة دالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار ، وأما الفساق من المؤمنين فيكون قوله : وهم كفار لا يراد به الكفر حقيقة ، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة ، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده : فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره الآية ، أولاً وكل ذلك انتصار لمذهبه حتى يرتب العذاب : إما للكافر ، وإما للفاسق ، فخرج بذلك عن قوانين النحو ، والحمل على الظاهر .
لأن قوله : وهم كفار ، ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله : ولا الذين يموتون ، وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة .
وكما أنه شرط في انتفاء قبول توبة الذين يعملون السيئات إيقاعها في حال حضور الموت ، كذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت ، وظاهر العطف التغاير والزمخشري كما قيل في المثل : حبك الشيء يعمي ويصم .
وجاء يعملون بصيغة المضارع لا بصيغة الماضي إشعاراً بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضرهم الموت .
وظاهر قوله : قال إني تبت الآن ، وهو توبتهم عند معاينة الموت فلم تقبل تفسيره ، فلا تقبل توبتهم لأنها توبة دفع .
وقيل : قوله تبت الآن توبة شريطية فلم تقبل ، لأنه لم يقطع بها .
وقوله : وليست التوبة ظاهرة النفي لوجودها ، والمعنى على نفي القبول أي : أن توبتهم وإن وجدت فليست بمقبولة .
وظاهر قوله : ولا الذين يموتون وهم كفار ، وقوع الموت حقيقة .
فالمعنى : أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم ، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا ، لأنهم ماتوا ملتبسين بالكفر .
قيل : ويحتمل أن يراد بقوله : يموتون ، يقربون من الموت كما في قوله : { حضر أحدهم الموت } أي علاماته .
فكما أنّ التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت ، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت .
{ أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين ، ويكونان قد شركا في إعداد العذاب لهما ، وإن كان عذاب أحدهما منقطعاً والآخر خالداً .
ويكون ذلك وعيداً للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينة الموت حيث شرّك بينه وبين الذي وافى على الكفر ، ويحتمل أن يكون أولئك إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقرب مذكور .
واسم الإشارة يجري مجرى الضمير ، فيشار به إلى أقرب مذكور ، كما يعود الضمير على أقرب مذكور ، ويكون إعداد العذاب مرتباً على الموافاة على الكفر ، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو الله تعالى .
وظاهر الإعداد أنّ النار مخلوقة وسبق الكلام على ذلك .
وقال الزمخشري : أولئك أعتدنا لهم في الوعيد ، نظير قوله : { أولئك يتوب الله عليهم } في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة انتهى .
وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا ، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامه بأنّ من نفى عنهم التوبة صنفان ، ثم ذكر هذا عقيبه ، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين ، كائن لا محالة ، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور ، قبل هذه الآية واقع لا محالة ، فدل على أنّ العصاة الذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار ، وهذا هو مذهب المعتزلة .
ومع احتمال أن يكون أولئك إشارة إلى الذين يوافون على الكفر ، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق ، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعاً به للفاسق .
وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له ، فلا يلزم وقوع ما دل عليه ، إذ يجوز العقاب ويجوز العفو .
وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق .
وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها .
وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري : إلى أن قوله : { للذين يعملون السيئات } في حق المنافقين ، واختاره المروزي .
قال : فرق بالعطف ، ودل على أنَّ المراد بالأول المنافقون .
كما فرق بينهم في قوله : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } لأن المنافق كان مخالفاً للكافر بظاهره في الدنيا .
والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأس من الحياة ، لأن المنافقين مندرجون في قوله : { ولا الذين يموتون وهم كفار } فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم .
وقيل : إنما التوبة على الله في الصغائر ، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر ، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.