اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا} (18)

قوله : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } يعني : المعاصي ، لما ذكر شَرَائِطَ التَّوْبَةِ المقبولة ، أرْدَفَهَا بِشَرْحِ التَّوبة التي لا تكونُ مقبولة ، قوله : { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } " حتَّى " حرف ابتداء ، والجملةُ الشَّرْطِيَّةُ بَعْدَهَا غايةٌ لما قَبْلََهَا ، أي : ليست التَّوْبَةُ لقوم يَعْمَلُونَ السَّيَئاتِ ، وغايةُ عملهم إذَا حَضَرَ أحدَهُمُ المَوْتُ قالوا " كيت وكيت " هذا وجه حَسَنٌ ، ولا يجوزُ أنْ تكُونَ " حتى " جارّة ل " إذا " أي : يعملون السَّيِّئاتِ إلى وقت حضور الموتِ من حيثُ إنَّهَا شرطيَّةٌ ، والشَّرْطُ لا يعمل فيه ما قبله ، وإذا جعلنا " حتَّى " جارَّةً تعلَّقت ب " يعملون " وأدوات الشَّرْطِ لا يعملُ فيها ما قَبْلَهَا ، ألا ترى أنَّهُ يجوزُ " بمَنْ تمرر أمْرُرْ " ، ولا يجوز : مَرَرْتُ بمن يقم أكرمْه ، لأنَّ له صَدر الكلام ، ولأنَّ " إذا " لا تَتَصَرَّفُ على المَشْهُورِ كما تَقَدَّمَ في أوَّل البَقَرَةِ ؛ واستدلَّ ابْنُ مَالِك على تصرُّفِهَا بوجُوهٍ :

منها جرها ب " حتَّى " نحو : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا } [ الزمر : 71 ] { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ }

[ يونس : 22 ] وفيه من الإشكال [ ما ذكرته لك ] وقد تَقَدمَ تقرير ذلك عند قوله ،

{ حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ } [ النساء : 6 ] .

فصل

دلت هذه الآية عَلَى أنَّ من حَضَرَهُ المَوْتُ وشاهد أهواله{[7015]} لا تقبل توبته ، ويُؤيِّدُهُ أيضاً قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .

وقال في صفةِ فِرْعَونَ { حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ [ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } ]{[7016]}

[ يونس : 90 ، 91 ] وقوله : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً [ فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُو ]َ{[7017]} قَائِلُهَا } [ المؤمنون : 99- 100 ] وقوله

{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ [ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا }{[7018]} ]

[ المنافقون : 10 ، 11 ] .

وقال عليه السلام " إن اللَّه - تعالى - يَقْبَلُ تَوْبَة الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ " {[7019]} وعن عطاءٍ : ولو قبل موته بفواق النَّاقَةِ{[7020]} .

وعن الحسن : أنَّ إبليس قال حين أهْبِطَ إلى الأرض وعِزّتِكَ لا أفارق ابْنَ آدم ما دَامَ روحه في جَسَده .

فقال : وَعِزَّتِي لا أُغْلِقُ عليه بَابَ التَّوْبَةِ ما لم يغرغر{[7021]} .

فصل

قال المُحَقِّقُونَ : قُرْبُ الموتِ لا يمنعُ من قَبُولِ التَّوْبَةِ ، بل المانع من قبول التَّوْبَةِ مشاهدة الأهوال الَّتي عندها يحصل العلم باللَّهِ تعالى على سَبِيل الاضطرار . وقالوا : لأنَّ جماعة أماتهم اللَّه تعالى ثُمَّ أحياهم مثل قوم من بني إسرائيل ، وأولاد أيُّوب - عليه السَّلاَمُ - ثمَّ إنَّهُ تعالى كلَّفهم بعد ذلك الإحياء ، فَدَلَّ ذلك على أنَّ مُشَاهَدَةِ الموت لا تخلّ بالتكليف ولأنّ الشَّدائِدَ التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشَّدائد الحاصلة عند القولنج{[7022]} ومثل الشّدائد التي تَلْْقاها المرأةُ عند الوِلادَةِ أو أزْيد ، فلمَّا لم تكن هذه الشَّدائد مانعة من بقاء التكاليف فكذا القول في تلك الشّدائد .

وأيضاً فالقرب من الموت إذَا عَظُمَتِ الآلامُ [ صار اضطرارُ العبد أشَدَّ ، واللَّهُ تعالى يقول { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] فتزايد الآلام ]{[7023]} في ذلك الوقت بأن يكون سبباً لِقَبُولِ التَّوبة أولى مِنْ أن يكون سبباً لعدم قَبُولِ التَّوْبَة .

فصل

لما بيّن تعالى أنَّهُ يقبل التَّوبةَ من القسم الأوَّل ، وهم الذين يعملونَ السُّوءَ بجهالة ، وبَيَّنَ في هذا القسم الثَّاني يعملون السَّيِّئات أنَّهُ لا يقبل توبتهم فبقي بحكم التَّقسيم العقلي قِسْمٌ ثَالِثٌ مَتَوَسط بين هذين القسمين ، وهم الَّذِينَ يعملون السُّوءَ على سبيل العَمْدِ ثم يَتُوبُونَ فلم يخبرْ عنهم أنَّهُ يَرُدُّ توبتهم ، بل تركهم في المَشِيئَةِ حيث قال :

{ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] .

قوله : { وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } " الذين " مجرور المحل عطفاً على قوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : لَيْسَت التَّوْبَةُ لهؤلاء ، ولا لهؤلاء ، فَسَوَّى بين مَنْ مَاتَ كافراً وبين من لم يَتُبْ إلاَّ عند معاينة الموتِ في عدمِ قَبُولِ تَوْبَتِه ، والمراد بالعاملين السيئات المنافقون .

وأجَازَ أبُو البَقَاءِ{[7024]} في { الَّذِينَ } أن يكون مرفوع المحلّ{[7025]} على الابتداء وخبره " أولئك " وما بَعْدَهُ مُعْتَقِداً أنَّ اللامَ لام الابتداء وليست ب " لا " النَّافية ، وهذا الَّذي قاله من كون اللام لام الابتداء لا يصحُّ أن يكون قد رُسِمَتْ في{[7026]} المُصْحَفِ لامٌ داخلة على { الَّذِينَ } فيصير " وللذين " وليس المرسوم كذلك ، وإنَّمَا هو لام وألف ، وألف لام التَّعريف الدَّاخلة على{[7027]} الموصول وصورته : ولا الذين .

فصل

قيل : المراد ب { الذين يعملون السيئات } العصاة وب { الذين يموتون وهم كفّار } الذي يموت كافراً ؛ لأنَّ المعطوف يكون مغايراً للمعطوف عليه . وقيل : المرادُ بالأوَّل : المنافقون ، وبالثاني : الكفَّار .

قال ابْنُ الخطيب{[7028]} : وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ المنافقَ كافرٌ فيدخل في الثَّاني ويمكن أن يجاب بأنَّ المنافق لما أظهر الإيمان فَمَنْ لم يَعْلَمْ حاله يعتقد أنَّ حكمه حكم المُؤمن ،

{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] و " أولئك " يجوزُ أن تكون إشارة إلى { الَّذِينَ يَمُوتُونَ } وهم كفَّار ؛ لأنَّ اسم الإشارةِ يجري مجرى الضَّمير فيعود إلى أقرب مذكور ، ويجوزُ أن يُشَار بِه إلى الصّنفين الذين يَعْمَلُونَ السيِّئاتِ ، والذين يموتون وهم كفار . { أَعْتَدْنَا } أي : أحْضَرِنَا وهذا يَدُلُّ على أنَّ النَّار مخلوقة ؛ لأنَّ العذاب الأليم ليس إلاَّ جهنم وقد أخبر عنه بصيغة الماضي ، واللَّهُ أعلم .


[7015]:في ب: أحواله.
[7016]:سقط في ب.
[7017]:سقط في ب.
[7018]:سقط في ب.
[7019]:أخرجه أحمد (2/132) والترمذي (5/247) في الدعوات (3538) وابن ماجه (2/1420) في الزهد (4253) وابن حبان (607 ـ موارد) والحاكم في "المستدرك" (4/257) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأخرجه الطبري في "تفسيره" (8/96) مرسلا عن الحسن البصري وبشير بن كعب. وأخرجه الطبري في "تفسيره" (8/96) من طريق قتادة عن عبادة بن الصامت مرفوعا. وقتادة لم يدرك عبادة بن الصامت.
[7020]:ينظر: تفسير الرازي 10/7.
[7021]:أخرجه بهذا اللفظ الطبري في "تفسيره" (8/95) عن الحسن وللحديث لفظ آخر: قال إبليس لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي ابن آدم ما دامت الأرواح فيهم قال له ربه: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني. أخرجه أحمد (3/29، 41) وأبو يعلى (2/458) رقم (1273) والحديث ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/207) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح وكذلك أحد إسنادي أبي يعلى.
[7022]:مرض معوي مؤلم يصعب معه خروج البراز والريح وسببه التهاب القولون. ينظر المعجم الوسيط 2/797.
[7023]:سقط في ب.
[7024]:ينظر: الإملاء 1/172.
[7025]:في أ: للمحل.
[7026]:في أ: من.
[7027]:في أ: على.
[7028]:ينظر: تفسير الرازي 10/9.