فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا} (18)

وقوله : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ } متعلق بما تعلق به الخبر ، أو بمحذوف وقع حالاً . والسوء هنا : العمل السيىء . وقوله : { بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالاً ، أي : يعملونها متصفين بالجهالة ، أو جاهلين . وقد حكى القرطبي ، عن قتادة أنه قال : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية ، فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً . وحكى عن الضحاك ، ومجاهد أن الجهالة هنا : العمد ، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [ محمد : 36 ] وقال الزجاج : معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية . وقيل معناه : أنهم لا يعلمون كنه العقوبة ، ذكره ابن فورك ، وضعفه ابن عطية . قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } معناه قبل أن يحضرهم الموت ، كما يدل عليه قوله : { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } وبه قال أبو مجلز ، والضحاك ، وعكرمة ، وغيرهم ، والمراد قبل المعاينة للملائكة ، وغلبة المرء على نفسه ، و «من » في قوله : { مِن قَرِيبٍ } للتبعيض ، أي : يتوبون بعض زمان قريب ، وهو ما عدا وقت حضور الموت . وقيل معناه : قبل المرض ، وهو ضعيف ، بل باطل لما قدمنا ، ولما أخرجه أحمد ، والترمذي ، وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وقيل معناه : يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار .

قوله : { فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم .

وقوله : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ، ثم تاب من قريب . قوله : { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } «حتى » حرف ابتداء ، والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها ، وحضور الموت حضور علاماته ، وبلوغ المريض إلى حالة السياق ، ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه ، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق ، وهي بلوغ روحه حلقومه ، قاله الهروي . وقوله : { قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن } أي : وقت حضور الموت . قوله : { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } معطوف على الموصول في قوله : { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات } أي : ليست التوبة لأولئك ، ولا للذين يموتون ، وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأساً ، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت ، وأن وجودها كعدمها .

/خ18