قوله تعالى : { فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض } ، يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله عز وجل في الأرض ، { بغير الحق } ، أي : بالفساد . { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } ، لأن وباله راجع عليها ، ثم ابتدأ فقال : { متاع الحياة الدنيا } ، أي : هذا متاع الحياة الدنيا ، خبر ابتداء مضمر ، كقوله : { لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغ } [ الأحقاف-35 ] ، أي : هذا بلاغ . وقيل : هو كلام متصل ، والبغي : ابتداء ، ومتاع : خبره . ومعناه : إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا ، لا يصلح زادا لمعاد لأنكم تستوجبون به غضب الله . وقرأ حفص : " متاع " بالنصب ، أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، { ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } .
{ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ْ } أي : نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء ، وما ألزموه أنفسهم ، فأشركوا بالله ، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد ، ولا يدفع عنهم المضايق ، فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء ، كما أخلصوها في الشدة ؟ ! !
ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم ، ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ْ } أي : غاية ما تؤملون ببغيكم ، وشرودكم عن الإخلاص لله ، أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا وجاهها النزر اليسير الذي سينقضي سريعًا ، ويمضي جميعًا ، ثم تنتقلون عنه بالرغم .
{ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ْ } في يوم القيامة { فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ } وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم .
وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج ، وتهدأ الأنفاس اللاهثة ، وتسكن القلوب الطائرة ، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ ، ويوقن الناس بالحياة ، وأرجلهم مستقرة على اليابسة . فماذا ?
( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ! ) . .
إنه مشهد كامل ، لم تفتنا منه حركة ولا خالجة . . مشهد حادث . ولكنه مشهد نفس ، ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل . ومن ثم يجيء التعقيب تحذيرا للناس أجمعين :
( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) . .
سواء كان بغيا على النفس خاصة ، بإيرادها موارد التهلكة ، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية ؛ أو كان بغيا على الناس فالناس نفس واحدة . على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة
والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه ، واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده .
والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدينا ، قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة .
يذوقون هذه العاقبة فسادا في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به ، ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضار به .
إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله . وإما أن يتعبدهم الطغاة . والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض ، وربوبية الله وحدها في حياة البشر ، هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة ، ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد ، ودنس المستنقع ، وامتهان الكرامة ، وفساد المجتمع ، ودناءة الحياة !
( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . . متاع الحياة الدنيا ) . .
( ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . .
فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك ، بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا في البحر أنهم أحيط بهم من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه من الكفر به والعمل بمعاصيه على ظهرها. يقول الله:"يا أيها الناس" إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم وإياها تظلمون، وهذا الذي أنتم فيه "مَتَاعَ الحَيَاةِ الدّنْيَا "يقول: ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم... وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم، لأنكم بكفركم تكسبونها غضب الله، "متاع الحياة الدنيا"، كأنه قال: إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا...
وقوله: "ثُمّ إلَيْنا مَرّجِعُكُمْ" يقول: ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم، وذلك بعد الممات. "فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" يقول: فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم أخبر عن سفههم بعودهم إلى ما كانوا عليه من قبل: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) وهكذا كانت عادتهم؛ كانوا يفزعون إلى الله عند خوف الهلاك للإياس من آلهتهم التي عبدوها، ويخلصون الدعاء. فإذا كشف ذلك الكرب عنهم ودفع، عادوا إلى ما كانوا عليه من قبل. والبغي في الأرض هو الفساد فيها.
(إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يحتمل قوله: (على أنفسكم) أي بغي بعضكم على بعض، ويحتمل (على أنفسكم) أي حاصل بغيكم يرجع على أنفسكم. والبغي هو الظلم. فإن كان التأويل في قوله: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) حاصل بغيكم يرجع إلى أنفسكم في العاقبة فيكون الوعيد لهم في ذلك بعينه. وإن كان التأويل بغي بعضكم على بعض فيكون الوعيد في قوله: (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ما قد ذكرنا، وهو حرف وعيد، والله أعلم.
المسألة الثالثة: حاصل الكلام في قوله تعالى: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها {ثم إلينا} أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم {مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} في الدنيا، والإنباء هو الإخبار، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أعلم سبحانه أنهم أكدوا هذا الوعد هذا التأكيد، أتبعه بيان أنهم أسرعوا في نقضه غاية الإسراع فقال: {فلما أنجاهم} ولما أبانت الفاء عن الإسراع في النقض، أكد مناجاتهم لذلك بقوله: {إذا هم يبغون} أي يتجاوزون الحدود {في الأرض} أي جنسها {بغير الحق} أي الكامل، فلا يزال الباغي مذموماً حتى يكون على الحق الكامل الذي لا باطل فيه بوجه، وجاء الخطاب أولاً في {يسيركم} ليعم المؤمنين لأن التسيير يصلح للامتنان، ثم التفت إلى الغيبة عند صدور ما لا يليق بهم -نبه على ذلك أبو حيان، وأحسن منه أن يقال: إنه سبحانه أقبل عليهم تنبيهاً على أنه جعلهم- بما هيأ فيهم من القوى -أهلاً لخطابه ثم أعرض عنهم إشارة إلى أنهم استحقوا الإعراض لإعراضهم اغتراراً بما أتاهم من الريح الطيبة في محل يجب فيه الإقبال عليه والغنى عن كل ما سواه لعظم الخطر وشدة الأمر، وكأنه يذكر لغيرهم من حالهم ما يعجبه منه لينكر عليهم ويقبح حالهم؛ والتسيير: التحريك في جهة تمتد كالسير؛ والبر: الأرض الواسعة التي تقطع من بلد، ومنه البر لاتساع الخير به؛ والبحر: مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه؛ والفلك: السفن التي تدور في الماء، وأصله الدور، فمنه فلكة المغزل، والفلك الذي يدور فيه النجوم؛ والنجاة: التخليص من الهلاك؛ والبغي: قصد الاستعلاء بالظلم، وأصله الطلب؛ والحق: وضع الشيء في موضعه على ما يدعو إليه العقل؛ ثم بين أن ما هم فيه من الإمهال إنما هو متاع الدنيا وأنها دار زوال فقال تعالى: {يا أيها الناس} أي الذي غلب عليهم وصف الاضطراب {إنما بغيكم} أي كل بغي يكون منكم {على أنفسكم} لعود الوبال عليها خاصة وهو على تقدير انتفاعكم به عرض زائل {متاع الحياة الدنيا} ثم يبقى عاره وخزيه بعد الموت {ثم إلينا} أي خاصة {مرجعكم} بعد البعث {فننبئكم} على ما لنا من العظمة إنباء عظيماً {بما كنتم} أي كوناً هو كالجبلة {تعملون} ونجازيكم عليه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى في وصف أولئك القوم {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ} أي إذا هم يفاجئون الناس في الأرض التي يهبطون إليها بالبغي عليهم- وهو الظلم والعدوان والإفساد -يمعنون في ذلك ويصرون عليه، وأصل البغي طلب ما زاد على القصد والاعتدال إلى الإفراط المفضي إلى الفساد والاختلال، من بغى الجرح إذا زاد حتى ترامى إلى الفساد، ومنه قولهم: بغت السماء، إذا تجاوزت في المطر الحد المحتاج إليه للزرع والشجر وإمداد الينابيع، وبغت المرأة إذا تجاوزت في بعضها الحق الخاص بالزوج إلى الفجور، والأصل فيه أن يكون كما وصفه {بِغَيْرِ الْحَقِّ} فتكون الصفة كاشفة للواقع، للتذكير بقبحه وسوء حال أهله، وقد يكون البغي- وهو تجاوز حد الاعتدال- بحق إذا كان عقابا على مثله، أو ما هو شر منه، كما يقع في الحروب وقتال البغاة من اضطرار أهل الحق والمعتدى عليهم، إلى تجاوز الحدود في أثناء الدفاع عن أنفسهم، وقد قال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هو ينتصرون} إلى قوله {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ويَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 37]، وقال في بيان أصول الجرائم {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ وَالإِثْمَ و الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 32] الخ.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} هذا التفات عن حكاية المثل إلى مخاطبة البغاة أينما كانوا، وفي أي زمان وجدوا، مبدوءا بالنداء الذي يصيح به الواعظ المنذر بالبعيد في مكانه، أو الغافل الذي يشبه الغائب في حاجته إلى من ويصيح به لينبهه، يقول: يا أيها الضالون عن رشدهم، الغافلون عن أنفسهم، حسبكم بغيا على المستضعفين منكم، وغرورا بكبريائكم وقوتكم، إنما بغيكم في الحقيقة على أنفسكم، لأن عاقبة وباله عائدة عليكم، أو لأن من تبغون عليهم من قومكم أو من أبناء جنسكم، كقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] المراد به لا يقتل بعضكم بعضا، والشر داعية الشر.
{مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي حال كون بغيكم أو تتمتعون ببغيكم متاع الحياة الدنيا الفانية الزائلة، فهو ينقضي وعقابيله باقية، وأقلها توبيخ الوجدان.
وقرأ الجمهور "متاعُ "بالرفع على أنه خبر لما قبله وفيه وجهان، أو على تقدير هو متاع الحياة الدنيا.
{ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} أي ثم إنكم بعد هذا التمتع القليل ترجعون إلينا وحدنا {فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} دائما من الظلم والبغي والتمتع بالباطل مصرين فنجازيكم به.
دلت الآية على أن البغي يجازى أصحابه عليه في الدنيا والآخرة، فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنذار أهله الرجوع إلى الله وإنباؤه إياهم بما كانوا يعملونه، إذ المراد به لازمه وهو الجزاء به، وقد تكرر مثله في التنزيل. وأما في الدنيا فهو قوله تعالى: {إنما بغيكم على أنفسكم} [يونس: 23]، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وأخرج ابن عدي وابن النجار من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا: "احذروا البغي، فإنه ليس من عقوبة هي أحضر من عقوبة البغي "!!والترمذي و ابن ماجه عن عائشة:"أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم"، وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس موقوفا: "لو بغى جبل على جبل لدك الباغي"، ورواه ابن مردويه مرفوعا وموقوفا، والموقوف أصح كما قال ابن أبي حاتم، وفي الجامع الصغير عن أبي هريرة بزيادة" لدك الباغي منهما "أخرجه ابن لال بسند ضعيف.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنكث والبغي"، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} [فاطر: 43] {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} [الفتح: 10] والمراد نكث العهود مع الله أو مع الناس.
وأخرج الحاكم –وصححه- والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبغ، ولا تكن باغيا، فإن الله يقول: {إنما بغيكم على أنفسكم}" وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن الزهري.
وأقول: إنه يجب علينا أن نرجع في تحقيق الحق في هذا الموضوع إلى سنن الله تعالى في العمران، وطبائع الاجتماع البشري التي تثبتها وقائع التاريخ، فهي التي تفسر لنا أن البغي وهو من أخص ضروب الظلم للناس يرجع على فاعله، ذلك أنه سبب من أقوى أسباب العداوة والبغضاء بين الأفراد، وإيقاد نيران الفتن والثورات في الأقوام، فالفرد الذي يبغي على مثله يخلق له بغيه عدوا أو أعداء ممن يبغي عليهم، وممن يكرهون البغي وأهله، فوجود الأعداء والمبغضين ضرب من ضروب العقوبة- وإن لم يستطيعوا إيذاء الباغي لعجزهم- فكيف إذا قدروا وفعلوا وهو الغالب؟ وأما بغي الملوك والحكام على الأقوام والشعوب فأهون عاقبته عداوتهم والطعن عليهم، وقد تفضي إلى اغتيال أشخاصهم، أو إلى ثل عروشهم والقضاء على حكمهم، إما بثورة من الشعب تستبدل بها عرشا بعرش، أو نوعا من الحكم بنوع آخر، وإما بإغارة دولة قوية على الدولة التي يضعفها البغي تسلبها استقلالها، وتستولي على بلادها، ولا تنس ما تكرر عليك في هذا التفسير من أن ذنوب الأفراد من بغي وظلم وغيرهما لا يطرد العقاب عليها في الدنيا بخلاف ذنوب الأمم والدول، فإن عقابها أثر طبيعي لظلمها وفسادها. وإنما يوفى كل أحد جزاءه في الآخرة...
ضرب الله هذا المثل هنا للكافرين بنعمه من الباغين في الأرض والظالمين للناس، فذكر من إخلاصهم في دعائه عند الشدة أنهم يقسمون له لئن أنجاهم منها ليكونن من المؤمنين بربوبيته، فقال: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65]، وضربه في أواخر سورة لقمان لجميع أصناف الناس فقال: {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} [لقمان: 31، 32] الختار الكفور هنا ضد مقابل للصبار الشكور فيما قبله، والختر الغدر الذي يحمل عليه ضعف الإرادة.
والعبرة في هذه الآيات كلها أنه تعالى أخبر عن المشركين به، وعن الكافرين بنعمه، وعن الختارين الفاقدين لفضليتي الصبر والشكر، أنهم كلهم يدعونه في شدة الضيق ومساورة خطر البحر لهم مخلصين له الدين، لا يتوجهون إلى غيره ممن اتخذوهم شركاء لله تعالى بعبادتهم لهم وتوسلهم بهم واتخاذهم وسطاء عنده، وأنهم إنما يقترفون هذا الشرك وما ينسبه من البغي والظلم وكفر النعمة بعدم إسنادها إلى المنعم الحقيقي في أوقات التمتع بها والسلامة من منغصاتها، وأن الذين يثبتون على توحيده وشكره هم المقتصدون، أي المعتدلون في عقائدهم وأخلاقهم، فلا تقنطهم الشدة، ولا تبطرهم النعمة.
ولكن يوجد في زماننا من هم أشد شركا وكفرا بالنعم والمنعم، وهم قوم يدعون غيره من دونه في أشد أوقات الضيق والخطر، ويدَّعون مع ذلك أنهم مسلمون موحدون؛ لأنهم ينطقون بكلمة التوحيد الموروثة بألسنتهم وهم لا يعقلون معناها، والله تعالى يقول {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19]، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج، وتهدأ الأنفاس اللاهثة، وتسكن القلوب الطائرة، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ، ويوقن الناس بالحياة، وأرجلهم مستقرة على اليابسة. فماذا؟ (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق!).. هكذا بغتة ومفاجأة! إنه مشهد كامل، لم تفتنا منه حركة ولا خالجة.. مشهد حادث. ولكنه مشهد نفس، ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل. ومن ثم يجيء التعقيب تحذيرا للناس أجمعين: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم).. سواء كان بغيا على النفس خاصة، بإيرادها موارد التهلكة، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية؛ أو كان بغيا على الناس فالناس نفس واحدة. على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه، واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده. والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدينا، قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة. يذوقون هذه العاقبة فسادا في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به، ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضار به. إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله. وإما أن يتعبدهم الطغاة. والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض، وربوبية الله وحدها في حياة البشر، هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة، ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد، ودنس المستنقع، وامتهان الكرامة، وفساد المجتمع، ودناءة الحياة! (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم.. متاع الحياة الدنيا).. لا تزيدون عليه! (ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون).. فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك، بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{لما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} وأتى بحرف (إذا) الفجائية في جواب (لما) للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة. والبغي: الاعتداء. وتقدم في قوله: {والإثم والبغي بغير الحق} في سورة [الأعراف: 33]. والمراد به هنا الإشراك كما صُرح به في نظيرها {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65]. وسمي الشرك بغياً لأنه اعتداء على حق الخالق وهو أعظم اعتداء، كما يسمى ظلماً في آيات كثيرة منها قوله: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]. ولا يحسن تفسير البغي هنا بالظلم والفساد في الأرض، إذ ليس ذلك شأن جميعهم فإن منهم حلماء قومهم، ولأنه لا يناسب قولَه بعد {إنما بغيكم على أنفسكم}. ولمعنى هذه الآية في القرآن نظائر، كقوله: {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه ثم إذا خَوَّله نعمة منه نسي ما كَان يدعُو إليه من قبل وجَعل لله أنداداً ليضل عن سبيله} [الزمر: 8] الآية.
وزيادة {في الأرض} لمجرد تأكيد تمكنهم من النجاة. وهو كقوله تعالى: {فلما نجّاهم إلى البر فمنهم مقتصد} [لقمان: 32] أي جعلوا مكان أثر النعمة بالنجاة مكاناً للبغي. وكذلك قوله: {بغير الحق} هو قيد كاشف لمعنى البغي، إذ البغي لا يكون بحق، فهو كالتقييد في قوله تعالى: {ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50].
وافتُتح الخطاب ب {يأيها الناس لاستصغاء أسماعهم. والمقصود من هذا تحذير المشركين ثم تهديدهم. وصيغة قصر البغي على الكون مُضراً بهم كما هو مفاد حرف الاستعلاء تنبيه على حقيقة واقعية وموعظة لهم ليعلموا أن التحذير من الشرك والتهديد عليه لرعي صلاحهم لا لأنهم يضرونه كقوله: {ولا تضروه شيئاً} [التوبة: 39]. فمعنى (على) الاستعلاء المجازي المكنَّى به عن الإضرار لأن المستعلي الغالب يضر بالمغلوب المستعلَى عليه، ولذلك يكثر أن يقولوا: هذا الشيء عليك، وفي ضده: هذا الشيء لك، كقوله: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصلت: 46]. ويقول المقر: لك عليّ كذا
وذلك أن (على) تدل على الإلزام والإيجاب، واللام تدل على الاستحقاق. وفي الحديث:"القرآنُ حجة لك أو عليك". فالمراد بالأنفس أنفس الباغين باعتبار التوْزيع بين أفراد معاد ضمير الجماعة المخاطبين في قوله: {بغيكُم} وبين أفراد الأنفس، كما في قولهم: « ركب القوم دوابَّهم» أي، ركب كل واحد دابته...
وجملة: ثم إلينا مرجعكم} عطفت ب (ثم) لإفادة التراخي الرتبي لأن مضمون هذه الجملة أصرح تهديداً من مضمون جملة {إنما بغيكم على أنفسكم}.
...وتفريع {فننبئكم} على جملة: {إلينا مرجعكم} تفريع وعيد على تهديد. واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة، والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع. وفي ذكر {كنتم} والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم. والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظاً من هذا الوعيد.