قوله تعالى : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } . إنما قال : " اسمه " رد الكناية إلى عيسى ، واختلفوا في أنه لم سمي مسيحاً . فمنهم من قال : هو فعيل بمعنى المفعول ، يعني أنه مسح من الأقذار ، وطهر من الذنوب ، وقيل لأنه مسح بالبركة ، وقيل لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن ، وقيل مسحه جبريل بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل ، وقيل لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له .
وسمي الدجال مسيحاً : لأنه كان ممسوح إحدى العينين ، وقال بعضهم : هو فعيل بمعنى الفاعل مثل عليم وعالم .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : سمي عيسى عليه السلام مسيحاً لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برأ ، وقيل : سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان ، وعلى هذا القول تكون الميم فيه زائدة . وقال إبراهيم النخعي : المسيح الصديق ، ويكون المسيح بمعنى الكذاب ، وبه سمي الدجال والحرف من الأضداد .
يخبر تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم بشارة ، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله ، لأن حالته خارجة عن الأسباب ، وجعله الله من آياته وعجائب مخلوقاته ، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم ، فنفخ في جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الزكية من ذلك الملك الزكي ، فأنشأ الله منها تلك الروح الزكية ، فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية ، فلهذا سمى روح الله { وجيها في الدنيا والآخرة } أي : له الوجاهة العظيمة في الدنيا ، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع ، ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب ، وفي الآخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين ، ويظهر فضله على أكثر العالمين ، فلهذا كان من المقربين إلى الله ، أقرب الخلق إلى ربهم ، بل هو عليه السلام من سادات المقربين .
والأن نجيء إلى مولد عيسى : العجيبة الكبرى في عرف الناس ، والشأن العادي للمشيئة الطليقة :
( إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ، ويكلم الناس في المهد وكهلا ؛ ومن الصالحين . قالت : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ قال : كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن . فيكون . . ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل . ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ، فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ؛ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ؛ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين . ومصدقا لما بين يدي من التوارة ، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، وجئتكم بآية من ربكم ، فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم ) . .
لقد تأهلت مريم - إذن - بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل ، واستقبال هذا الحدث ، وها هي ذي تتلقى - لأول مرة - التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير :
( إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم . وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين . ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ) . .
إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله . بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة . وهو الكلمة في الحقيقة . فماذا وراء هذا التعبير ؟
إن هذه وأمثالها ، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد . . ربما كانت من الذي عناه الله بقوله : ( أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . . . ) إلخ .
ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله ، وصنعته وقدرته ، ومشيئته الطليقة :
لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب - وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب ، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله . سر الحياة التي لابست أول مخلوق حي ، أو لابست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت ! وهذه كتلك في صنع الله . وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة . . . .
من أين جاءت هذه الحياة ؟ وكيف جاءت ؟ إنها قطعا شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض . . شيء زائد . وشيء مغاير . وشيء ينشىء آثارا وظواهر لا توجد أبدا في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق . .
هذا السر من أين جاء ؟ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر ! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم !
نحن لا نعلم . وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها - نحن البشر - بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها . أو لإنشائها بأيدينا من الموات !
نحن لا نعلم . . ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم . . وهو يقول لنا : إنها نفخة من روحه . وإن الأمر قد تم بكلمة منه . ( كن . فيكون ) . .
ما هي هذه النفخة ؟ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام ؟
ما هي ؟ وكيف ؟ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه ، لأنه ليس من شأنه . إنه لم يوهب القدرة على إدراكه . إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئا في وظيفته التي خلقه الله لها - وظيفة الخلافة في الأرض - إنه لن يخلق حياة من موات . . فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة ، وماهية النفخة من روح الله ، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية ؟
والله - سبحانه - يقول : إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة - حتى علىالملائكة - فلا بد إذن أن تكون شيئا آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب ! وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنسا نشأ نشأة ذاتية ، وأن له اعتبارا خاصا في نظام الكون ، ليس لسائر الأحياء !
وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا ، إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارىء لما عرضناه جدلا حول نشأة الإنسان !
المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة ؛ وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات . .
وقد شاء الله - بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة - أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا . طريق التقاء ذكر وأنثى . واجتماع بويضة وخلية تذكير . فيتم الإخصاب ، ويتم الإنسال . والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة .
ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة . . حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان . فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى . وإن لم تكن مثلها تماما . أنثى فقط . تتلقى النفخة التي تنشىء الحياة ابتداء . فتنشأ فيها الحياة !
أهذه النفخة هي الكلمة ؟ آلكلمة هي توجه الإرادة ؟ آلكلمة : ( كن )التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة ؟ والكلمة هي عيسى ، أو هي التي منها كينونته ؟
كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات . . وخلاصتها هي تلك : أن الله شاء أن ينشىء حياة على غير مثال . فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشىء الحياة بنفخة من روح الله . ندرك آثارها ، ونجهل ماهيتها . ويجب أن نجهلها . لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض ، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلا في تكليف الاستخلاف !
والأمر هكذا سهل الإدراك . ووقوعه لا يثير الشبهات !
وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم . . فتضمنت البشارة نوعه ، وتضمنت اسمه ونسبه . وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه . . ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه : ( وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) . .
{ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ } وما كنت لديهم إذ يختصمون ، وما كنت لديهم أيضا إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله يبشرك . والتبشير : إخبار المرء بما يسرّه من خبر . وقوله : { بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } يعني : برسالة من الله ، وخبر من عنده ، وهو من قول القائل : ألقى فلان إليّ كلمة سرّني بها ، بمعنى : أخبرني خبرا فرحت به ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ } يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها .
فتأويل الكلام : وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم : يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده ، هي ولد لك ، اسمه المسيح عيسى ابن مريم .
وقد قال قوم ، وهو قول قتادة : إن الكلمة التي قال الله عزّ وجلّ بكلمة منه ، هو قوله : «كن » .
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } قال : قوله : «كن » .
فسماه الله عزّ وجلّ كلمته ، لأنه كان عن كلمته ، كما يقال لما قدر الله من شيء : هذا قدر الله وقضاؤه ، يعني به : هذا عن قدر الله وقضائه حدث ، وكما قال جلّ ثناؤه : { وَكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } يعني به : ما أمر الله به ، وهو المأمور الذي كان عن أمر الله عزّ وجلّ .
وقال آخرون : بل هي اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء . ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الكلمة : هي عيسى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { إذْ قالَتِ المَلاَئِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } قال : عيسى هو الكلمة من الله .
وأقرب الوجوه إلى الصواب عندي القول الأول : وهو أن الملائكة بشرت مريم بعيسى عن الله عزّ وجلّ برسالته وكلمته التي أمرها أن تلقيها إليها ، أن الله خالق منها ولدا من غير بعل ولا فحل ، ولذلك قال عزّ وجلّ : { اسْمُهُ المَسِيحُ } فذكّر ، ولم يقل اسمها فيؤنث ، والكلمة مؤنثة ، لأن الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان ، وإنما هي بمعنى البشارة ، فذكرت كنايتها ، كما تذكر كناية الذرّية والدابة والألقاب ، على ما قد بيناه قبل فيما مضى .
فتأويل ذلك كما قلنا آنفا ، من أن معنى ذلك : إن الله يبشركِ ببشرى ، ثم بين عن البشرى ، أنها ولد اسمه المسيح .
وقد زعم بعض نحويي البصرة ، أنه إنما ذكّر فقال : { اسْمُهُ المَسِيحُ } ، وقد قال : { بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } والكلمة عنده : هي عيسى ، لأنه في المعنى كذلك ، كما قال جلّ ثناؤه : { أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا } ، ثم قال : { بَلَى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذّبْتَ بِها } وكما يقال : ذو الثدية ، لأن يده كانت قصيرة قريبة من ثدييه ، فجعلها كأن اسمها ثَدْيَة ، ولولا ذلك لم تدخل الهاء في التصغير .
وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة ، في أن الهاء من ذكر الكلمة ، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله { اسْمُهُ } ، والكلمة متقدمة قبله ، فزعم أنه إنما قيل اسمه ، وقد قدمت الكلمة ، ولم يقل اسمها ، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضع لتعريف المسمى به كفلان وفلان ، وذلك مثل الذرّية والخليفة والدابة ، ولذلك جاز عنده أن يقال : ذرّية طيبة ، وذرّية طيبا¹ ولم يجز أن يقال : طلحة أقبلت ، ومغيرة قامت . وأنكر بعضهم اعتلال من اعتلّ في ذلك بذي الثدية ، وقالوا : إنما أدخلت الهاء في ذي الثدية لأنه أريد بذلك : القطعة من الثدي ، كما قيل : كنا في لحمة ونبيذة ، يراد به : القطعة منه . وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك .
وأما قوله : { اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } فإنه جلّ ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى ، وأنه ابن أمه مريم ، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جلّ ثناؤه من النصارى ، من إضافتهم بنوته إلى الله عزّ وجلّ ، وما قَذَفَت أُمّهُ به المفتريةُ عليها من اليهود . كما :
حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيها فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ المُقَرّبِينَ } : أي هكذا كان أمره ، لا ما يقولون فيه .
وأما المسيح ، فإنه فَعِيل ، صرّف من مفعول إلى فعيل ، وإنما هو ممسوح ، يعني : مسحه الله فطهره من الذنوب ، ولذلك قال إبراهيم : المسيح الصديق . . . .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : قال سعيد : إنما سمي المسيح ، لأنه مسح بالبركة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجِيها فِي الدّنْيا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ المُقَرّبِينَ } .
يعني بقوله «وجيها » : ذا وجه ومنزلة عالية عند الله وشرف وكرامة ، ومنه يقال للرجل الذي يشرف وتعظمه الملوك والناس : وجيه¹ يقال منه : ما كان فلان وجيها ، ولقد وَجُهَ وجاهةً ، وإن له لَوَجْها عند السلطان ، وجاها ووجاهة . والجاه : مقلوب قلبت واوه من أوّله إلى موضع العين منه ، فقيل جاه ، وإنما هو وجه وفعل من الجاه : جَاهَ يَجُوهُ ، مسموع من العرب : أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا ، بمعنى : أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه . وأما نصب الوجيه فعلى القطع من عيسى ، لأن عيسى معرفة ، ووجيه نكرة ، وهو من نعته ، ولو كان مخفوضا على الردّ على الكلمة كان جائزا .
وكما قلنا من أن تأويل ذلك وجيها في الدنيا والاَخرة عند الله ، قال فيما بلغنا محمد بن جعفر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَجِيها } قال : وجيها في الدنيا والاَخرة عند الله .
وأما قوله : { وَمِنَ المُقَرّبِينَ } فإنه يعني : أنه ممن يقرّبه الله يوم القيامة ، فيسكنه في جواره ، ويدنيه منه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَمِنَ المُقَرّبِينَ } يقول : من المقرّبين عند الله يوم القيامة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَمِنَ المُقَرّبِينَ } يقول : من المقرّبين عند الله يوم القيامة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
بدل اشتمال من جملة { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك } [ آل عمران : 42 ] قصد منه التكرير لتكميل المقُول بعد الجمل المعترضة . ولكونه بدلاً لم يعطف على إذْ قالت الأولِ . وتقدّم الكلام على يُبشرك .
والكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله : « ويؤمر بأرْبَع كَلِمَات بكتب رزقه وأجله » إلخ .
ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة .
وقوله : { منه } مِن للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دلّ على ذلك قوله : { إذا قضى أمراً } [ البقرة : 117 ] .
وقوله : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } عبر عن العَلَم واللقَب والوصفِ بالاسم . لأنّ لثلاثتها أثراً في تمييز المسمّى . فأما اللقب والعلم فظاهر . وأما الوصف المفيد للنسب فلأنّ السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف ، وتذكر الأمّ في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم : زياد بن سُمَيةَ قبل أن يُلْحق بأبي سفيان في زمنِ معاويةَ بن أبي سفيان ، وإما لأنّ لأمّه مفخراً عظيماً كقولهم : عَمْرو ابن هند ، وهو عمرو بن المنذر ملكُ العرب .
والمسيح كلمة عبرانية بمعنى الوصف . ونقلت إلى العربية علماً بالغلبة على عيسى وقد سمى متنصرة العرب بعضَ أبنائهم « عبد المسيح » وأصلها مَسِّيِّح بميم مفتوحة ثم سين مهملة مكسورة مشدّدة ثم ياء مثنّاة مكسورة مشدّدة ثم حاء مهملة ساكنة ونطق به بعض العرب بوزن سِكِّين .
ومعنى مسيح ممسوح بدهن المَسْحة وهو الزيت المعطّر الذي أمر الله موسى أن يتّخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهناً لبني إسرائيل ، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملِّكونهم عليهم من عهد شاول الملِك ، فصار المسيح عندهم بمعنى المَلِك : ففي أول سفر صمويل الثاني من كتب العهد القديم قال داود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت « كيف لم تخف أن تمدّ يدك لتهلك مسيح الرب » .
فيحتمل أنّ عيسى سمّي بهذا الوصف كما يُسَمّون بمَلِك ويحتمل أنه لقبٌ لقبه به اليهود تهكماً عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكاً على إسرائيل ثم غَلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك ، فلذلك سمي به في القرآن .
والوجيه ذو الوجاهة وهي : التقدّم على الأمثال ، والكرامةُ بين القوم ، وهي وصف مشتق من الوَجْه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه ، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال ، فأطلق الوجه على أول الشيء على طريقة الاستعارة الشائعة فيقال : وجهُ النهار لأول النهار قال تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفُروا آخرَه } [ آل عمران : 72 ] وقال الربيع بن زياد العبسي :
مَن كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأتِ نسوتنا بوجه نهار
* ولاَح لهم وَجْهَ العَشِيَّاتِ سَمْلَقُ *
ويقولون : هو وَجْه القوم أي سيّدهم والمقدّم بينهم . واشتق من هذا الاسم فعل وَجُه بضم الجيم ككَرُم فجاء منه وَجيه صفةً مشبّهة ، فوجيه الناس المكرّم بينهم ، ومقبول الكلمة فيهم ، قال تعالى في وصف موسى عليه السلام : { وكان عند اللَّه وجيهاً } .