قوله تعالى : { هنالك الولاية لله الحق } يعني : في القيامة ، قرأ حمزة والكسائي { الولاية } بكسر الواو ، يعني السلطان ، وقرأ الآخرون بفتح الواو ، من : الموالاة والنصر ، كقوله تعالى : { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة -257 ] ، قال القتيبي : يريد أنهم يولونه يومئذ ويتبرؤون مما كانوا يعبدون . وقيل : بالفتح : الربوبية ، وبالكسر : الإمارة . { الحق } برفع القاف : أبو عمرو و الكسائي على نعت الولاية ، وتصديقه قراءة أبي : { هنالك الولاية لله الحق } ، وقرأ الآخرون بالجر على صفة الله كقوله تعالى : { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } [ الأنعام – 62 ] . { هو خير ثواباً } ، أفضل جزاء لأهل طاعته لو كان غيره يثيب ، { وخير عقباً } أي : عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره ، فهو خير إثابته ، وعاقبة : طاعة ، قرأ حمزة و عاصم عقباً ساكنة القاف ، وقرأ الآخرون بضمها .
{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي : في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبة على من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ، والكرامة لمن آمن ، وعمل صالحا ، وشكر الله ، ودعا غيره لذلك ، تبين وتوضح أن الولاية لله الحق ، فمن كان مؤمنا به تقيا ، كان له وليا ، فأكرمه بأنواع الكرامات ، ودفع عنه الشرور والمثلات ، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه ، خسر دينه ودنياه ، فثوابه الدنيوي والأخروي ، خير{[490]} ثواب يرجى ويؤمل ، ففي هذه القصة العظيمة ، اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية ، فألهته عن آخرته وأطغته ، وعصى الله فيها ، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال ، وأنه وإن تمتع بها قليلا ، فإنه يحرمها طويلا ، وأن العبد ينبغي له -إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده- أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها ، وأن يقول : { ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله } ليكون شاكرا لله متسببا لبقاء نعمته عليه ، لقوله : { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } وفيها : الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها ، بما عند الله من الخير لقوله : { إِنْ تَرَن أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ } وفيها أن المال والولد لا ينفعان ، إن لم يعينا على طاعة الله كما قال تعالى : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا } وفيه الدعاء بتلف مال ما كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه ، خصوصا إن فضل نفسه بسببه على المؤمنين ، وفخر عليهم ، وفيها أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء ، ووجد العاملون أجرهم ف { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي : عاقبة ومآلا .
وقوله : هُنالكَ الوَلايَةُ لِلّهِ الحَقّ يقول عزّ ذكره : ثم وذلك حين حلّ عذاب الله بصاحب الجنتين في القيامة .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : الولاية ، فقرأ بعض أهل المدينة والبصرة والكوفة هُنالكَ الوَلايَةُ بفتح الواو من الولاية ، يعنون بذلك هنالك المُوالاة لله ، كقول الله : اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا وكقوله : ذلكَ بأنّ اللّهَ مَوْلَى الّذِينَ آمَنُوا يذهبون بها إلى الوَلاية في الدين . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة : «هُنالِكَ الوِلايَةُ » بكسر الواو : من المُلك والسلطان ، من قول القائل : وَلِيتُ عمل كذا ، أو بلدة كذا أليه ولاية .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ بكسر الواو ، وذلك أن الله عقب ذلك خبره عن مُلكه وسلطانه ، وأن من أحلّ به نقمته يوم القيامة فلا ناصر له يومئذٍ ، فإتباع ذلك الخبر عن انفراده بالمملكة والسلطان أولى من الخبر عن الموالاة التي لم يجر لها ذكر ولا معنى ، لقول من قال : لا يسمّى سلطان الله ولاية ، وإنما يسمى ذلك سلطان البشر ، لأن الولاية معناها أنه يلي أمر خلقه منفردا به دون جميع خلقه ، لا أنه يكون أميرا عليهم .
واختلفوا أيضا في قراءة قوله الحَقّ فقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والعراق خفضا ، على توجيهه إلى أنه من نعت الله ، وإلى أن معنى الكلام : هنالك الولاية لله الحقّ ألوهيته ، لا الباطل بطول ألوهيته التي يدعونها المشركون بالله آلهة . وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض متأخري الكوفيين : «لِلّهِ الحَقّ » برفع الحقّ توجيها منهما إلى أنه من نعت الولاية ، ومعناه : هنالك الولاية الحقّ ، لا الباطل لله وحده لا شريك له .
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه خفضا على أنه من نعت الله ، وأن معناه ما وصفت على قراءة من قرأه كذلك .
وقوله : هُوَ خَيْرٌ ثَوَابا يقول عزّ ذكره : خير للمنيبين في العاجل والاَجل ثوابا وخَيْرٌ عُقْبا يقول : وخيرهم عاقبة في الاَجل إذا صار إليه المطيع له ، العامل بما أمره الله ، والمنتهى عما نهاه الله عنه . والعقب هو العاقبة ، يقال : عاقبة أمر كذا وعُقْباه وعُقُبه ، وذلك آخره وما يصير إليه منتهاه .
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة عُقْبا بضم العين وتسكين القاف .
و القول في ذلك عندنا . أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله { هنالك } يحتمل أن يكون ظرفاً لقوله { منتصراً } ويحتمل أن تكون { الولاية } مبتدأ ، و { هنالك } خبره ، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب «الوِلاية » بكسر الواو ، وهي بمعنى الرياسة والزعامة ونحوه ، وقرأ الباقون «الوَلاية » بفتح الواو وهي بمعنى الموالاة والصلة ونحوه ، ويحكى عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن ، لأن فعالة ، إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلداً ، وليس هنا تولي أمر الموالاة ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «الحق » بالرفع على جهة النعت ل { الولاية } ، وقرأ الباقون «الحقِّ » بالخفض على النعت { لله } عز وجل ، وقرأ أبو حيوة «لله الحقَّ » بالنصب وقرأ الجمهور «عُقُباً » بضم العين والقاف وقرأ عاصم وحمزة والحسن «عُقْباً » بضم العين وسكون القاف وتنوين الباء ، وقرأ عاصم أيضاً «عقبى » بياء التأنيث{[7812]} ، والعُقُب والعُقْب بمعنى العاقبة .