محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا} (44)

{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ( 44 ) } .

{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك . ( الولاية ) بفتح الواو ، أي النصرة لله وحده ، لا يقدر عليها أحد غيره . فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ } لأنها بمعناها . أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم ، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن ، وصدق قوله : { فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء } ويعضده قوله تعالى : { هو خير ثوابا وخير عقبا } أي لأوليائه . فلا ينقص لمؤمن درجة ، لدناءته في الدنيا ، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه ، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه .

وقرئ ( الولاية ) بكسر الواو بمعنى السلطان والملك . أي هنالك/ السلطان له والملك . لا يغلب ولا يمتنع منه . أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر . يعني أن : { يا ليتني لم أشرك بربي أحدا } كلمة ألجئ إليها فقالها ، جزعا مما دهاه من شؤم كفره . ولولا ذلك لم يقلها . كقوله تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } .

وكقوله إخبارا عن فرعون : { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } أو { هنالك } إشارة إلى الآخرة . أي في تلك الدار الولاية لله . كقوله : { لمن الملك اليوم } ويناسبه قوله : { هو خير ثوابا وخير عقبا } . و { هنالك } على الأوجه المتقدمة ، خبر مقدم و { الولاية } مبتدأ مؤخر . والوقف على { منتصرا } . وجوز بعضهم كون { هنالك } معمولا ل { منتصرا } وإن الوقف عليه . أي على { هنالك } وإن { الولاية لله } جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة . أي وما كان منتصرا في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله . فلم يكن منقذ له منه .

وأقول : هذا الثاني ركيك جدا ، مفكك لرؤوس الآي في السورة . فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب . وشبهة قائله جوازه عربية . وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة . ولذلك لم يعول عليه الزمخشري ومن تابعه . و { الحق } قرئ بالرفع صفة { للولاية } وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر . وبالجر صفة للفظ الجلالة . { عقبا } قرئ بسكون القاف وضمها . وهما العاقبة كالعشر والعشر .

تنبيه :

يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل . وهو أن الرجلين المذكورين فيه كانا موجودين ولهما قصة . ولا دليل في ذلك ولا اتجاه . فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده . وجوز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه . وأن يكون المثل مستعارا للحال الغريبة ، بتقدير ( اضرب ) مثلا ، مثل رجلين ، من غير تشبيه واستعارة . وقد عنى بأحد الرجلين في التمثيل ، مشركو مكة ، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم ، وغمط المستضعفين من المؤمنين . وما آل إليه أمر الفريقين ، مما طابق المثل الممثل ، مطابقة طبقت الآفاق . مصداقا لوعده تعالى ، سيكون الأمر في الآخرة أعلى : { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } .