قوله تعالى :{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد* من كان يظن أن لن ينصره الله } يعني : نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم { في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب } أي : بحبل { إلى السماء } أراد بالسماء سقف البيت على قول الأكثرين ، أي : ليشد حبلاً في سقف بيته فليختنق به حتى يموت ، { ثم ليقطع } الحبل بعد الاختناق . وقيل : ثم ليقطع . أي ليمد الحبل حتى ينقطع في فيموت مختنقاً { فلينظر هل يذهبن كيده } صنعه وحيلته ، { ما يغيظ } ( ( ما ) ) بمعنى المصدر ، أي : هل يذهبن كيده وحيلته غيظه ؟ معناه : فليختنق غيظاً حتى يموت . وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعله لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت ، ولكنه كما يقال للحاسد : إن لم ترض هذا فاختنق ومت غيظاً . وقال ابن زيد : المراد من السماء السماء المعروفة . ومعنى الآية : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله ، فإن أصله من السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل . وروي أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان ، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف ، وقالوا : لا يمكننا أن نسلك لأنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود ، فلا يميرونا ولا يؤونا فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : ( ( النصر ) ) بمعنى الرزق والهاء راجعة إلى من ومعناه : من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة . نزلت فيمن أساء الظن بالله وخاف ألا يرزقه ، { فليمدد بسبب إلى السماء } أي : إلى سماء البيت ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ ، وهو خيفة أن لا يرزق . وقد يأتي النصر بمعنى الرزق ، تقول العرب : من ينصرني نصره الله . أي : من يعطني أعطاه الله ، قال أبو عبيدة : تقول العرب : أرض منصورة ، أي : ممطورة . قرأ أبو عمرو ، و نافع ، وابن عامر ، و يعقوب : ( ( ثم ليقطع ) ) ( ( ثم ليقضوا ) ) بكسر اللام ، والباقون بجزمها لأن الكل لام الأمر ، زاد ابن عامر وليوفوا نذورهم وليطوفوا بكسر اللام فيهما ، ومن كسر في : ( ( ثم ليقطع ) ) وفي ( ( ثم ليقضوا ) ) فرق بأن ثم مفصول من الكلام ، والواو كأنها من نفس الكلمة كالفاء في قوله : { فلينظر } .
{ 15 } { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
أي : من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ، وأن دينه سيضمحل ، فإن النصر من الله ينزل من السماء { فَلْيَمْدُدْ } ذلك الظان { بِسَبَبٍ } أي : حبل { إِلَى السَّمَاءِ } وليرقى إليها { ثُمَّ لِيَقْطَعْ } النصر النازل عليه من السماء{[536]} .
{ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } أي : ما يكيد به الرسول ، ويعمله من محاربته ، والحرص على إبطال دينه ، ما يغيظه من ظهور دينه ، وهذا استفهام بمعنى النفي [ وأنه ] ، لا يقدر على شفاء غيظه بما يعمله من الأسباب .
ومعنى هذه الآية الكريمة : يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، الساعي في إطفاء دينه ، الذي يظن بجهله ، أن سعيه سيفيده شيئا ، اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب ، وسعيت في كيد الرسول ، فإن ذلك لا يذهب غيظك ، ولا يشفي كمدك ، فليس لك قدرة في ذلك ، ولكن سنشير عليك برأي ، تتمكن به من شفاء غيظك ، ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا- ائت الأمر مع بابه ، وارتق إليه بأسبابه ، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره ، ثم علقه في السماء ، ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر ، فسدها وأغلقها واقطعها ، فبهذه الحال تشفي غيظك ، فهذا هو الرأي : والمكيدة ، وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك ، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق . وهذه الآية الكريمة ، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى ، ومن تأييس الكافرين ، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ، ولو كره الكافرون ، أي : وسعوا مهما أمكنهم .
فأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة ؛ ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة . فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء ؛ وليذهب بنفسه كل مذهب ، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء :
( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع ، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) !
وهو مشهد متحرك لغيظ النفس ، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ ، يجسم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه ، عندما ينزل بها الضر وهي على غير اتصال بالله .
والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة ، وكل نسمة رخية ، وكل رجاء في الفرج ، ويستبد به الضيق ، ويثقل على صدره الكرب ، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء .
فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلق به أو يختنق . ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق . . ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذاك مما يغيظه !
ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله . ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله . ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله . وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ، ومضاعفة الشعور به ، والعجز عن دفعه بغير عون الله . . فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ } .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالهاء التي في قوله : أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ .
فقال بعضهم : عُنِي بها نبي الله صلى الله عليه وسلم . فتأويله على قوله بعض قائلي ذلك : من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والاَخرة ، فليمدد بحبل وهو السبب إلى السماء : يعني سماء البيت ، وهو سقفه ، ثم ليقطع السبب بعد الاختناق به ، فلينظر هل يذهبن اختناقه ذلك وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ يقول : هل يذهبن ذلك ما يجد في صدره من الغيظ ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثني أبي ، قال : ثني خالد بن قيس ، عن قَتادة : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ولا دينه ولا كتابه ، فليمدُدْ بسببٍ يقول : بحبل إلى سماء البيت فليختنق به ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ قال : من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ يقول : بحبل إلى سماء البيت ، ثُمّ ليْقْطَعْ يقول : ثم ليختنق ثم لينظر هل يذهبنّ كيده ما يغيظ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، بنحوه .
وقال آخرون ممن قال الهاء في «ينصره » من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم : السماء التي ذكرت في هذا الموضع هي السماء المعروفة . قالوا : معنى الكلام ، ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ فقرأ حتى بلغ : هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ قال : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ويكابد هذا الأمر ليقطعه عنه ومنه ، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه ، فإن أصله في السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ليقطع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه من الله ، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه ، فكايد ذلك حتى قطع أصله عنه . فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ما دخلهم من ذلك وغاظهم الله به من نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وما ينزل عليه .
وقال آخرون ممن قال «الهاء » التي في قوله : «يَنْصُرَهُ » من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم معنى النصر ها هنا الرزق . فعلى قول هؤلاء تأويل الكلام : من كان يظنّ أن لن يرزق الله محمدا في الدنيا ، ولن يعطيه . وذكروا سماعا من العرب : من ينصرني نصره الله ، بمعنى : من يعطني أعطاه الله . وحكوا أيضا سماعا منهم : نصر المطر أرض كذا : إذا جادها وأحياها . واستشهد لذلك ببيت الفقعسيّ :
وإنّكَ لا تُعْطِي امْرأً فَوْقَ حَظّهِ *** وَلاَ تمْلِكُ الشّقّ الّذي الغَيْثُ ناصِرُهُ
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ ؟ قال : من كان يظنّ أن لن ينصر الله محمدا ، فليربط حبلاً في سقف ثم ليختنق به حتى يموت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ ، عن التميمّي ، قال : سألت ابن عباس ، عن قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال : أن لن يرزقه الله في الدنيا والاَخرة ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ والسبب : الحَبْل ، والسماء : سقف البيت فليعلق حبلاً في سماء البيت ثم ليختنق فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ قال : سماء البيت .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت التميميّ ، يقول : سألت ابن عباس ، فذكر مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنيا والاَخِرَةِ . . . إلى قوله : ما يَغِيظُ قال : السماء التي أمر الله أن يمد إليها بسبب سقف البيت أمر أن يمد إليه بحبل فيختنق به ، قال : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله
وقال آخرون : الهاء في «ينصره » من ذكر «مَنْ » . وقالوا : معني الكلام : من كان يظنّ أن لا يرزقه الله في الدنيا والاَخرة ، فليمدد بسبب إلى سماء البيت ثم ليختنق ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ ، أنه لا يرزق ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال : يرزقه الله . فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ قال : بحبل إلى السماءِ سماء ما فوقك . ثمّ لْيَقْطَعْ ليختنق ، هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ يرزقه الله . فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ قال : بحبل إلى السماء .
قال ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : إلى السماءِ إلى سماء البيت . قال ابن جُرَيج : وقال مجاهد : ثُمّ لْيَقْطَعْ قال : ليختنق ، وذلك كيده ما يَغِيظُ قال : ذلك خنقه أن لا يرزقه الله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ يعني : بحبل . إلى السماءِ يعني : سماء البيت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أبو رجاء ، قال : سُئل عكرِمة عن قوله : فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السّماءِ قال : سماء البيت . ثُمّ لْيَثقْطَعْ قال : يختنق .
وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال : الهاء من ذكر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قوما يعبدونه على حرف وأنهم يطمئنون بالدين إن أصابوا خيرا في عبادتهم إياه وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فيها ، ثم أتبع ذلك هذه الاَية فمعلوم أنه إنما أتبعه إياها توبيخا لهم على ارتدادهم عن الدين أو على شكهم فيه نفاقهم ، استبطاء منهم السعة في العيش أو السبوغ في الرزق . وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقيب الخبر عن نفاقهم ، فمعنى الكلام إذن إذ كان ذلك كذلك : من كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا فيوسع عليهم من فضله فيها ، ويرزقهم في الاَخرة من سَنيّ عطاياه وكرامته ، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم ، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه : إما سقف بيت ، أو غيره مما يعلق به السبب من فوقه ، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله فاستعجل انكشاف ذلك عنه ، فلينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ ؟ فإن لم يذهب ذلك غيظه ، حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه ، فكذلك استعجاله نصر الله محمدا ودينه لن يُؤَخّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجّل قبل حينه . وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في أسد وغطفان ، تباطئوا عن الإسلام ، وقالوا : نخاف أن لا يُنصر محمد صلى الله عليه وسلم فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يُرَوّوننا فقال الله تبارك وتعالى لهم : من استعجل من الله نصر محمد ، فليمدد بسبب إلى السماء فليختنق فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مُذْهِبٌ غيظه ؟ فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدّم نصره قبل حينه .
واختلف أهل العربية في «ما » التي في قوله : ما يَغِيظُ فقال بعض نحوّيي البصرة هي بمعنى «الذي » ، وقال : معنى الكلام : هل يذهبنّ كيده الذي يغيظه . قال : وحذفت الهاء لأنها صلة «الذي » ، لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الحذف أخفّ . وقال غيره : بل هو مصدر لا حاجة به إلى الهاء ، هل يذهبنّ كيده غيظه .
{ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة } كلام فيه اختصار والمعنى : أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه . وقيل المراد بالنصر الرزق والضمير لمن . { فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع } فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غيظا ، أو المبالغ جزعا حتى يمد حبلا إلى سماء بيته فيختنق من قطع إذا اختنق ، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه . وقيل فليمدد حبلا إلى سماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها فيجتهد في دفع نصره أو تحصيل رزقه . وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر " ليقطع " بكسر اللام . { فلينظر } فليتصور في نفسه . { هل يذهبن كيده } فعله ذلك وسماه على الأول كيدا لأنه منتهى ما يقدر عليه . { ما يغيظ } غيظه أو الذي يغيظه من نصر الله . وقيل نزلت في قوم مسلمين استبطأووا نصر الله لاستعجالهم وشدة غيظهم على المشركين .
{ فليمدد بسبب } وليختنق ولينظر هل يذهب بذلك غيظه ، قال هذا المعنى قتادة وهذا على جهة المثل السائر قولهم دونك الحبل فاختنق ، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه ، و «السبب » الحبل ، و «النصر » معروف ، إلا أن أبا عبيدة ذهب به إلى معنى الرزق كما قالوا أرض منصورة أي ممطورة{[8322]} وكما قال الشاعر : [ الطويل ]
وإنك لا تعطي امرأً فوق حقه . . . ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره{[8323]}
وقال : وقف بنا سائل من بني أبي بكر فقال من ينصرني ينصره الله ، و { السماء } على هذه الأقوال الهواء علواً فكأنه أراد سقفاً أو شجرة أو نحوه وقال ابن يزيد { السماء } هي المعروفة ، وذهب إلى معنى آخر كأنه قيل لمن يظن أن الله تعالى لا ينصر محمداً إن كنت تظن ذلك فامدد { بسبب إلى السماء } واقطعه إن كنت تقدر على ذلك فإن عجزت فكذلك لا تقدر على قطع سبب محمد صلى الله عليه وسلم إذ نصرته من هنالك والوحي الذي يأتيه .
قال القاضي أبو محمد : و «القطع » على هذا التأويل ليس بالاختناق بل هو جزم السبب ، وفي مصحف ابن مسعود «ثم ليقطعه » بهاء ، والجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق ، وقال الخليل : وقطع الرجل إذا اختنق بحبل أو نحوه ثم ذكر الآية ، وتحتمل الآية معنى آخر وهو أن يراد به الكفار وكل من يغتاظ بأن ينصره الله ويطمع أن لا ينصر قيل له من ظن أن هذا لا ينصر فليمت كمداً هو منصور لا محالة فليختنق هذا الظان غيظاً وكمداً ويؤيد هذا أن الطبري والنقاش قالا : ويقال نزلت في نفر من بني أسد وغطفان قالوا نخاف أن ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع ، والمعنى الأول الذي قيل فيه للعابدين { على حرف } [ الحج : 11 ] ليس بهذا ولكنه بمعنى من قلق واستبطأ النصر وظن أن محمداً لا ينصر فليختنق سفاهة إذ تعدى الأمر الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله ، وقال مجاهد : الضمير في { ينصره } عائد على { من } والمعنى من كان من المتقلقين من المؤمنين .
ع والضمير في التأويل الذي ذكرناه في أن يراد الكفار لا يعود إلا على النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، وقالت فرقة : الضمير عائد على الدين والقرآن ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «لِيقطع فلِينظر » بكسر اللام فيهما على الأصل وهي قراءة الجمهور ، وقرأ عاصم والحمزة والكسائي بسكون اللام فيهما في لام الأمر في كل القرآن مع الواو والفاء و «ثم » ، واختلف عن نافع وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وعيسى ، ع أما الواو والفاء إذا دخلا ( إحداهما ){[8324]} على الأمر فحكى سيبويه أنهم يرونها كأنها من الكلمة ، فسكون اللام تخفيف وهو أفصح من تحريكها ، وأما «ثم » فهي كلمة مستقلة فالوجه تحريك اللام بعدها ع وقد رأى بعض النحويين الميم من «ثم » بمنزلة الواو والفاء ، وقوله تعالى : { ما يغيظ } يحتمل أن تكون { ما } بمعنى الذي ، وفي { يغيظ } عائد عليها ، ويحتمل أن تكون مصدرية حرفاً فلا عائد عليها ، و «الكيد » هو مده السبب ع وأبين وجوه هذه الآية أن تكون مثلاً ويكون «النصر » المعروف و «القطع » الاختناق و { السماء } الارتفاع في الهواء بسقف أو شجرة ونحوه فتأمله ، وقوله تعالى : { وكذلك أنزلناه } إلى { شهيد } المعنى وكما وعدنا بالنصر وأمرنا بالصبر كذلك أنزلنا القرآن آية بينة لمن نظر واهتدى لا ليقترح معها ويستعجل القدر ، وقال الطبري : المعنى وكما بينت حجتي على من جحد قدرتي على إحياء الموتى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
من كان يظن} يعني: يحسب {أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة} يعنى النبي صلى الله عليه وسلم {فليمدد بسبب إلى السماء} يعني: بحبل إلى سقف البيت {ثم ليقطع} يعني: ليختنق {فلينظر هل يذهبن كيده} يقول: فعله بنفسه إذا فعل ذلك، هل يذهبن ذلك ما يجد في قلبه من الغيظ بأن محمدا لا ينصر {ما يغيظ}: هل يذهب ذلك ما يجد في قلبه من الغيظ، نزلت في نفر من أسد وغطفان، قالوا: إنا نخاف ألا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود، فلا يجيرونا ولا يأوونا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالهاء التي في قوله:"أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ".
فقال بعضهم: عُنِي بها نبي الله صلى الله عليه وسلم. فتأويله على قوله بعض قائلي ذلك: من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والآخرة، فليمدد بحبل وهو السبب "إلى السماء": يعني سماء البيت، وهو سقفه، ثم ليقطع السبب بعد الاختناق به، فلينظر هل يذهبن اختناقه ذلك وقطعه السبب بعد الاختناق "ما يغيظ "يقول: هل يذهبن ذلك ما يجد في صدره من الغيظ... وقال آخرون ممن قال الهاء في «ينصره» من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: السماء التي ذكرت في هذا الموضع هي السماء المعروفة... قال ابن زيد...: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ويكابد هذا الأمر ليقطعه عنه ومنه، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه، فإن أصله في السماء، فليمدد بسبب إلى السماء، ليقطع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه من الله، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه، فكايد ذلك حتى قطع أصله عنه، "فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ "ما دخلهم من ذلك وغاظهم الله به من نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وما ينزل عليه.
وقال آخرون ممن قال «الهاء» التي في قوله: «يَنْصُرَهُ» من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم؛ معنى النصر ها هنا: الرزق، فعلى قول هؤلاء، تأويل الكلام: من كان يظنّ أن لن يرزق الله محمدا في الدنيا ولن يعطيه...
وقال آخرون: الهاء في «ينصره» من ذكر «مَنْ». وقالوا: معني الكلام: من كان يظنّ أن لا يرزقه الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى سماء البيت ثم ليختنق، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ، أنه لا يرزق... وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه، وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قوما يعبدونه على حرف وأنهم يطمئنون بالدين إن أصابوا خيرا في عبادتهم إياه وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فيها، ثم أتبع ذلك هذه الآية، فمعلوم أنه إنما أتبعه إياها توبيخا لهم على ارتدادهم عن الدين أو على شكهم فيه نفاقا، استبطاء منهم السعة في العيش أو السبوغ في الرزق. وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقيب الخبر عن نفاقهم، فمعنى الكلام إذن إذ كان ذلك كذلك: من كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا فيوسع عليهم من فضله فيها، ويرزقهم في الآخرة من سَنيّ عطاياه وكرامته، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه: إما سقف بيت، أو غيره مما يعلق به السبب من فوقه، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله فاستعجل انكشاف ذلك عنه، فلينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ؟ فإن لم يذهب ذلك غيظه، حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه، فكذلك استعجاله نصر الله محمدا ودينه لن يُؤَخّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجّل قبل حينه.
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان، تباطئوا عن الإسلام، وقالوا: نخاف أن لا يُنصر محمد صلى الله عليه وسلم فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يُرَوّوننا فقال الله تبارك وتعالى لهم: من استعجل من الله نصر محمد، فليمدد بسبب إلى السماء فليختنق فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مُذْهِبٌ غيظه؟ فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدّم نصره قبل حينه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والمعنى: من كان يظن أن الله لا ينصر نبيه ولا يعينه على عدوه، ويظهر دينه فليمت غيظا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي أنَّ الحقَّ -سبحانه- يرغم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ لم تَطبْ نفْسُه بشهود تخصيص الله سبحانه بما أفرده به، فليقتلْ نَفْسَه من الغيظ خَنْقاً، ثم لا ينفعه ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فمن كان يظنّ من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه، ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه، فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه، بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيط كل مبلغ حتى مدّ حبلاً إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر وليصوّر في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه؟ وسمي الاختناق قطعاً؛ لأنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه... وسمي فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على غيره. أو على سبيل الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه... وقيل: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يثبت أمره، فنزلت.
وقد فسر النصر: بالرزق، وقيل: معناه أن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته ولا بد للعبد من الرضا بقسمته، فمن ظنّ أن الله غير رازقه وليس به صبر واستسلام، فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يردّه مرزوقاً.
... واعلم أن المقصد على كل هذه الوجوه معلوم، فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه، وهو في معنى قوله: {فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء} حساده وأعداؤه كانوا يتوقعون أن لا ينصره الله وأن لا يعليه على أعدائه، فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
أي: الأمور بيد الله فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله ولا ينقلب إذا أصابته فتنة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فإن المعنى: من ظن أن الله ليس بناصر محمدًا وكتابه ودينه، فليذهب فليقتل نفسه، إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51، 52]؛ ولهذا قال: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم الدليل على خسران هذا المنقلب وربح الثابت، وكان هذا مفهماً لأن من رجاه لما وعد به بادر الإقبال عليه ولم ينفع إلا نفسه، ومن لم يرج ذلك أعرض عن الله سبحانه منقلباً على وجهه فلم يضر إلا نفسه، ترجم عن حال هذا الثاني العابد على حرف بقوله: {من كان يظن} أي ممن أصابته فتنة {أن لن ينصره الله} ذو الجلال والإكرام في حال من أحواله {في الدنيا والآخرة} فأعرض عنه انقلاباً على وجهه، فإنه لا يضر إلا نفسه وإن ظن أنه لا يضرها {فليمدد بسبب} أي حبل أو شيء من الأشياء الموصلة له {إلى السماء} التي يريدها من سقف أو سحاب أو غيرهما.
ولما كان مده ذلك متعسراً أو متعذراً، عبر عما يتفرع عليه بأداة التراخي فقال: {ثم ليقطع} أي ليوجد منه وصل وقطع، أي ليبذل جهده في دفع القضاء والقدر عنه... {فلينظر} ببصره وبصيرته {هل يذهبن} وإن اجتهد {كيده ما يغيظ} أي شيئاً يحصل له منه غيظ، أو يكون المعنى: فليفعل ما يفعله من بلغ منه الغيظ بأن يربط حبلاً بسقف بيته ثم ليربطه في عنقه ثم ليقطع ما بين رجليه وبين الأرض ليختنق، وهذا كما يقال لمن أدبر عنه أمر فجزع: اضرب برأسك الجدار إن لم ترض هذا، مت غيظاً -ونحو ذلك، والحاصل أنه إن لم يصبر على المصائب لله طوعاً صبر عليها كرهاً مع ما ناله من أسباب الشقاء.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ومعنى هذه الآية الكريمة: يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الساعي في إطفاء دينه، الذي يظن بجهله، أن سعيه سيفيده شيئا، اعلم أنك مهما فعلت من الأسباب، وسعيت في كيد الرسول، فإن ذلك لا يذهب غيظك، ولا يشفي كمدك، فليس لك قدرة في ذلك، ولكن سنشير عليك برأي، تتمكن به من شفاء غيظك، ومن قطع النصر عن الرسول -إن كان ممكنا- ائت الأمر مع بابه، وارتق إليه بأسبابه، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره، ثم علقه في السماء، ثم اصعد به حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر، فسدها وأغلقها واقطعها، فبهذه الحال تشفي غيظك، فهذا هو الرأي: والمكيدة، وأما ما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك، ولو ساعدك من ساعدك من الخلق.
وهذه الآية الكريمة، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه ولرسوله وعباده المؤمنين ما لا يخفى، ومن تأييس الكافرين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون، أي: وسعوا مهما أمكنهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة؛ ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة. فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء؛ وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء:
(من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء، ثم ليقطع، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ)!
وهو مشهد متحرك لغيظ النفس، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ، يجسم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه، عندما ينزل بها الضر وهي على غير اتصال بالله.
والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخية، وكل رجاء في الفرج، ويستبد به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء.
فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلق به أو يختنق. ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق.. ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذاك مما يغيظه!
ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله. ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله. ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب، ومضاعفة الشعور به، والعجز عن دفعه بغير عون الله.. فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية غامض، ومُفادها كذلك. ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالاً.
فيحتمل أن يكون موقعها استئنافاً ابتدائياً أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} [الحج: 8] الآية، وقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11]. وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطأوا نصْر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجُّلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون.
ويحتمل أن يكون موقعها تذييلاً لقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] الآية بعد أن اعتُرض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد: أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله: {خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11] هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إنْ بقُوا على الإسلام.
فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاءً، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل {لن ينصره} بالمجرور بقوله {في الدنيا والآخرة} إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله {خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11]. فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده، وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم، وهؤلاء مشركون مترددون.
ويترجح هذا الاحتمالُ بتغيير أسلوب الكلام، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله {ومن الناس من يعبد الله} [الحج: 11] ولم تورد فيه جملة {ومن الناس} كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق. فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله {من كان يظن} الخ إظهاراً في مقام الإضمار؛ فإن مقتضى الظاهر أن يؤتَى بضمير ذلك الفريق فيقالَ بعد قوله: {إن الله يفعل ما يريد} [الحج: 14]، {فليمدد بسبب إلى السماء} الخ... عائداً الضميرُ المستتر في قوله {فليمدد} على {مَن يعبد الله على حرف} [الحج: 11].
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين، أحدهما: بُعد معاد الضمير، وثانيهما: التنبيه على أنّ عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في اتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين.
وضمير النصب في {ينصره} عائد إلى {من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] على كلا الاحتمالين.
واسم {السماء} مرادٌ به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضاً أخذاً بما رواه القرطبي عن ابن زيد (يعني عبد الرحمان بن زيد بن أسلم) أنه قال في قوله تعالى: {فليمدد بسبب إلى السماء} قال: هي السماء المعروفة، يعني المُظِلة. فالمعنى: فليَنُط حبلاً بالسماء مربوطاً به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئاً من إزالة غيظه.
ومفعول {يقطع} محذوف لدلالة المقام عليه.
والتقدير: ثم ليقطعه، أي ليقطع السبب.
والأمر في قوله {فليمدد بسبب إلى السماء} للتعجيز، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرطٍ لا يقع كقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33].
وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نُسجت على إيجاز بديع، شُبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارِهم الإسلام على حنَق، أو حالةُ تردّدهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم: عليكم أن تفعلوا ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سُبل الانفراج، فامدُدوا حبلاً بأقصى ما يُمَدّ إليه حبلٌ، وتعلّقوا به في أعلى مكان ثم قطعوه تخرّوا إلى الأرض، وذلك تهكم بهم في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم، وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة.
ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطأوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومُرتابين في نَيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضرّ الله ولا رسوله ولا يكيد الدينَ وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم، ولعلّ هؤلاء من المنافقين.
فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف، والمناسبة ظاهرة.
ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير {ينصره الله} عائداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مروي عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج.
ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريضاً بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين} [الأحزاب: 2324] الآية.
والسبب: الحبل. وتقدم في قوله {وتقطعت بهم الأسباب} في [سورة البقرة: 166].
والقطع: قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس.
والاستفهام ب {هل} إنكاري، وهو معلق فعلَ {فلينظر} عن العمل، والنظر قلبي، وسمي الفعلُ كيداً لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه الآية لبطلان وهم من يتوهم أن الله تعالى لن ينصره إذا طلب النصرة العادلة منه، واعتمد على غيره، وذلك رد على من يوالي العباد من الموالي والعشراء في النصرة، فالله وحده هو نعم المولى ونعم النصير، وبئس من يطلب نصرا من غيره وإنه ناصر نبيه في الدنيا والآخرة.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
ويتبادر لنا: أن الآية جاءت كتعقيب آخر على تلك الآيات التي نددت بالذين يعبدون الله على حرف ويجعلون إخلاصهم رهناً بما يصيبهم من رحمة الله وبرّه. وقد انطوت على توبيخ وتقريع ساخرين، وعلى تقرير كون الإنسان لا يصحّ أن يؤمن إلا على شرط أن لا يناله إلا الخير. وكون الإيمان بالله مسألة مستقلة لا علاقة لها بأعراض الدنيا المتقلّبة على الناس، وكون واجب المؤمن التأميل في رحمة الله ونصره في الدنيا والآخرة؛ لأن ذلك مما وعده الله به، وكون البطء في تحقق هذا الوعد والجزع والهلع واليأس منه غير متّسق مع معنى الإيمان بالله والثقة به والاعتماد عليه. وعلى من لا يتدبّر ويرعى ويصدق أن يشنق نفسه! وكما أن شنق الإنسان لنفسه لن يشفيه من غيظه وغير ضارّ بغيره فكذلك المغيظ المحنق المرتدّ بسبب تأخّر نصر الله له لن يضرّ غير نفسه؛ لأن مصيره إلى عذاب الله وسخطه. وفي الآية معالجة روحية قوية نافذة من دون ريب في مثل الحالات التي جاءت في صددها.