28- إذا كان الله - سبحانه وتعالى - هو - وحده - مالك الملك ، ويعز ويذل ، وبيده وحده الخير والخلق والرزق ، فلا يصح للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم ، متجاوزين نصرة المؤمنين ؛ لأن في هذا خذلاناً للدين وإيذاء لأهله ، وإضعافاً للولاية الإسلامية ، ومن يسلك هذا المسلك فليس له من ولاية الله مالك الملك شيء ، ولا يرضى مؤمن بولايتهم إلا أن يكون مضطرا لذلك ، فيتقي أذاهم بإظهار الولاء لهم . وعلى المؤمنين أن يكونوا في الولاية الإسلامية دائماً وهي ولاية الله ، وليحذروا أن يخرجوا إلى غير ولايته فيتولى عقابهم بنفسه بكتابة الذلة عليهم بعد العزة . وإليه - وحده - المصير فلا مفرَّ من سلطانه في الدنيا ولا في الآخرة .
قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } . قال ابن عباس رضي الله عنه : كان الحجاج بن عمرو ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد يبطنون ، بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في المنافقين ، عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل هذه الآية ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم .
قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك } أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عورة المسلمين . فقوله تعالى : { فليس من الله في شيء } أي ليس من دين الله في شيء ، ثم استثنى .
قوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } يعني : إلا أن تخافوا منهم مخافة ، قرأ مجاهد ، ويعقوب " تقية " على وزن بقية لأنهم كتبوها بالياء ولم يكتبوها بالألف ، مثل حصاة ونواة وهي مصدر يقال : تقيت تقاة ، وتقى تقية وتقوى ، فإذا قلت : اتقيت كان المصدر الاتقاء ، وإنما قال : " تتقوا " من الاتقاء ، ثم قال : " تقاة " ولم يقل اتقاء ، لأن معنى اللفظين إذا كان واحداً يجوز إخراج مصدر أحدهما على لفظ الآخر ، كقوله تعالى ( وتبتل إليه تبتيلا ) ومعنى الآية أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين ، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ، دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً ، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين . والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل ، وسلامة النية . قال الله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثم هذا رخصة ، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم ، وأنكر قوم التقية اليوم ، قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في جدة بالإسلام قبل استحكام الدين ، وقوة المسلمين . فأما اليوم ، فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم . وقال يحيى البكاء : قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج إن الحسن كان يقول : لكم تقية باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان ؟ فقال سعيد : ليس في الإسلام تقية إنما التقية في أهل الحرب .
قوله تعالى : { ويحذركم الله نفسه } أي يخوفكم الله عقوبته على موالاة الكفار ، وارتكاب المنهي ، ومخالفة المأمور .
{ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين ، وتوعد على ذلك فقال : { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي : فقد انقطع عن الله ، وليس له في دين الله نصيب ، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان ، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه ، قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين ، وصار من حزب الكافرين ، قال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم ، والميل إليهم والركون إليهم ، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين ، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين . قال الله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة }{[155]} أي : تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية . ثم قال تعالى : { ويحذركم الله نفسه } أي : فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى الله المصير } أي : مرجع العباد ليوم التناد ، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم ، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة ، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة .
هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله ، المتضمن لمنهج الله للبشر ، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر . . وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين . ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول . والأمر كله بيد الله . وهو ولي المؤمنين دون سواه :
( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل : إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله على كل شيء قدير . يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا . ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ) . .
لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله ، والقوة كلها لله ، والتدبير كله لله ، والرزق كله بيد الله . . فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله ؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون . . ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد ، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو وإلى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة ، سواء كانت الموالاة بمودة القلب ، أو بنصره ، أو باستنصاره سواء :
( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) . .
هكذا . . ليس من الله في شيء . لا في صلة ولا نسبة ، ولا دين ولا عقيدة ، ولا رابطة ولا ولاية . . فهو بعيد عن الله ، منقطع الصلة تماما في كل شيء تكون فيه الصلات .
ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات . . ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - " ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان " . . فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر - والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق ، كما يدل السياق هنا ضمنا وفي موضع آخر من السورة تصريحا - كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية . فما يجوز هذا الخداع على الله !
ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكا للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب ، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقا :