قوله تعالى : { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } : والملأ هم الأشراف والرؤساء . { ما نراك } ، يا نوح ، { إلا بشرا } ، آدميا ، { مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } ، سفلتنا ، والرذل : الدون من كل شيء والجمع : أرذل ، ثم يجمع على أراذل ، مثل : كلب وأكلب وأكالب ، وقال في سورة الشعراء :{ واتبعك الأرذلون } يعني : السفلة . وقال عكرمة : الحاكة والأساكفة ، { بادي الرأي } ، قرأ أبو عمرو بادئ بالهمزة ، أي : أول الرأي ، يريدون أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير روية وتفكر ، ولو تفكروا لم يتبعوك . وقرأ الآخرون بغير همز ، أي ظاهر الرأي من قولهم : بدا الشيء : إذا ظهر ، معناه : اتبعوك ظاهرا من غير أن يتدبروا ويتفكروا باطنا . قال مجاهد : رأي العين ، { وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين } .
{ 27 } { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } أي : الأشراف والرؤساء ، رادين لدعوة نوح عليه السلام ، كما جرت العادة لأمثالهم ، أنهم أول من رد دعوة المرسلين .
{ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا } وهذا مانع بزعمهم عن اتباعه ، مع أنه في نفس الأمر هو الصواب ، الذي لا ينبغي غيره ، لأن البشر يتمكن البشر ، أن يتلقوا عنه ، ويراجعوه في كل أمر ، بخلاف الملائكة .
{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي : ما نرى اتبعك منا إلا الأراذل والسفلة ، بزعمهم .
وهم في الحقيقة الأشراف ، وأهل العقول ، الذين انقادوا للحق ولم يكونوا كالأراذل ، الذين يقال لهم الملأ ، الذين اتبعوا كل شيطان مريد ، واتخذوا آلهة من الحجر والشجر ، يتقربون إليها ويسجدون لها ، فهل ترى أرذل من هؤلاء وأخس ؟ .
وقولهم : { بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : إنما اتبعوك من غير تفكر وروية ، بل بمجرد ما دعوتهم اتبعوك ، يعنون بذلك ، أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم ، ولم يعلموا أن الحق المبين تدعو إليه بداهة العقول ، وبمجرد ما يصل إلى أولي الألباب ، يعرفونه ويتحققونه ، لا كالأمور الخفية ، التي تحتاج إلى تأمل ، وفكر طويل .
{ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } أي : لستم أفضل منا فننقاد لكم ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } وكذبوا في قولهم هذا ، فإنهم رأوا من الآيات التي جعلها الله مؤيدة لنوح ، ما يوجب لهم الجزم التام على صدقه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأْيِ وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم ، وهم الملأ الذين كفروا بالله وجحدوا نبوّة نبيهم نوح عليه السلام : ما نَرَاكَ يا نوح إلاّ بَشَرا مِثْلَنا يعنون بذلك أنه آدميّ مثلُهم في الخلق والصورة والجنس ، كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولاً إلى خلقه . وقوله : وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بادِيَ الرأيِ يقول : وما نراك اتبعك إلا الذين هم سَفِلتنا من الناس دون الكبراء والأشراف فيما يُرَى ويظهر لنا . وقوله : بادِيَ الرأيِ اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق : بادِيَ الرأيِ بغير همز «البادي » وبهمز «الرأي » ، بمعنى : ظاهر الرأي ، من قولهم : بدا الشيء يبدو : إذا ظهر ، كما قال الراجز :
أضْحَى لخالي شَبَهِي بادِيَ بَدِيْ *** وصَارَ للفَحْلِ لِسانِي وَيَدِي
«بادي بدي » بغير همز . وقال آخر :
*** وَقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأةٌ بادِي بَدِي ***
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة : «بادِىءَ الرأيِ » مهموز أيضا ، بمعنى : مبتدأ الرأي ، من قولهم : بدأت بهذا الأمر : إذا ابتدأت به قبل غيره .
وأولى القراءتينِ بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأ : بادِيَ بغير همز «البادي » ، وبهمز «الرأي » ، لأن معنى ذلك الكلام : إلا الذين هم أراذلنا في ظاهر الرأي وفيما يظهر لنا .
وقوله : وَما نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يقول : وما نتبين لكم علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في عبادة الأوثان إلى عبادة الله وإخلاص العبودة له ، فنتبعكم طلب ذلك الفضل وابتغاء ما أصبتموه بخلافكم إيانا بَلْ نَظُنّكُمْ كاذِبِينَ وهذا خطاب منهم لنوح عليه السلام ، وذلك أنهم إنما كذّبوا نوحا دون أتباعه ، لأن أتباعه لم يكونوا رسلاً . وأخرج الخطاب وهو واحد مخرج خطاب الجميع ، كما قيل : يا أيّها النّبِيّ إذا طَلّقْتُمُ النّساءَ وتأويل الكلام : بل نظنك يا نوح في دعواك أن الله ابتعثك إلينا رسولاً كاذبا .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله بادِيَ الرأي قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجا ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخُراسانيّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما نَرَاكَ اتّبَعَكَ إلاّ الّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنا بادِيَ الرأيِ قال : فيما ظهر لنا .
و { الملأ } الجمع والأكثر من القبيلة والمدينة ونجوه ، ويسمى الأشراف ملأ إذ هم عمدة الملأ والسادّون مسدّه في الآراء والأمور ، وكل جماعة كبيرة ملأ .
ولما قال لهم نوح : { إني لكم نذير . . . } قالوا : { ما نراك إلا بشراً مثلنا . . . } أي والله لا يبعث رسولاً من البشر ، فأحالوا الجائز على الله تعالى .
و «الأراذل » جمع أرذل ، وقيل جمع أرذل وأرذال جمع رذل{[6302]} وكان اللازم على هذا أن يقال : أراذيل ؛ وإذا ثبتت الياء في جمع«صيرف » فأحرى ألا تزال في موضع استحقاقها . وهم سفلة الناس ومن لا أخلاق له ، ولا يبالي ما يقول ولا ما يقال له .
وقرأ الجمهور «بادي الرأي » بياء دون همز ، من بدا يبدو ، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلاً ، وقرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي «بادىء الرأي » بالهمز من بدأ يبدأ .
قال القاضي أبو محمد : وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر{[6303]} ، فتركت التطويل ببسطه ، والعرب تقول :«أما بادىء بدء فإني أحمد الله » و«أما بادي بدي » بغير همز فيهما ، وقال الراجز : [ الرجز ]
أضحى لخالي شبهي بادي بدي*** وصار للفحل لساني ويدي{[6304]}
*وقد علتني ذرأة بادي بدي{[6305]}*
وقرأ الجمهور بهمز «الرأي » وقرأ أبو عمرو بترك همزه . و { بادي } نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفاً كما يصح في قريب ونحوه ، وفعيل وفاعل متعاقبان أبداً على معنى واحد ، وفي المصدر كقولك : جهد نفسي أحب كذا وكذا .
وتعلق قوله : { بادي الرأي } يحتمل ستة أوجه .
أحدها : أن يتعلق ب { نراك } بأول نظر وأقل فكرة ، وذلك هو { بادي الرأي } ، أي إلا ومتبعوك أراذلنا .
والثاني : أن يتعلق بقوله : { اتبعك } أي ، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل ، ثم يحتمل على هذا قوله : { بادي الرأي } معنيين :
أحدهما : أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك .
والثاني : أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب ولو تثبتوك لم يتبعوك . وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي{[6306]} .
والوجه الثالث : من تعلق قوله { بادي الرأي } أن يتعلق بقوله : { أراذلنا } أي الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم ، وببادي الرأي يعلم ذلك منهم ، ويحتمل أن يكون قولهم : { بادي الرأي } وصفاً منهم لنوح ، أي تدعي عظيماً وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك ، ونصبه على الحال وعلى الصفة ، ويحتمل أن يكون اعتراضاً في الكلام مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم . ويجيء جميع هذا ستة معان ، ويجوز التعلق في هذا الوجه ب { قال } .
ومعنى { وما نرى لكم علينا من فضل } أي ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة . ثم قال : { بل نظنكم كاذبين } فيحتمل أنهم خاطبوا نوحاً ومن آمن معه من قومه ، أي أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب ، وقولكم إنه نبي مرسل . ويحتمل أنهم خاطبوا نوحا وحده فيكون من باب قوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم }{[6307]} .