قوله تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } ، عبرنا بهم { فأتبعهم } ، لحقهم وأدركهم ، { فرعون وجنوده } ، يقال : أتبعه وتبعه إذا أدركه ولحقه ، وأتبعه بالتشديد إذا سار خلفه واقتدى به . وقيل : هما واحد . { بغياً وعدواً } أي : ظلما واعتداء . وقيل : بغيا في القول وعدوا في الفعل . وكان البحر قد انفلق لموسى وقومه ، فلما وصل فرعون بجنوده إلى البحر هابوا دخوله فتقدمهم جبريل على فرس وديق وخاض البحر ، فاقتحمت الخيول خلفه ، فلما دخل آخرهم وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم الماء .
وقوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق } ، أي : غمره الماء وقرب هلاكه ، { قال آمنت أنه } ، قرأ حمزة والكسائي إنه بكسر الألف أي : آمنت وقلت إنه . وقرأ الآخرون { أنه } بالفتح على وقوع آمنت عليها { لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } ، فدس جبريل عليه السلام في فيه من حمأة البحر .
{ 90 } { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } وذلك أن الله أوحى إلى موسى ، لما وصل البحر ، أن يضربه بعصاه ، فضربه ، فانفلق اثنى عشر طريقًا ، وسلكه بنو إسرائيل ، وساق فرعون وجنوده خلفه{[415]} داخلين .
فلما استكمل موسى وقومه خارجين من البحر ، وفرعون وجنوده داخلين فيه ، أمر الله البحر فالتطم على فرعون وجنوده ، فأغرقهم ، وبنو إسرائيل ينظرون .
حتى إذا أدرك فرعون الغرق ، وجزم بهلاكه { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } وهو الله الإله الحق الذي لا إله إلا هو { وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : المنقادين لدين الله ، ولما جاء به موسى .
ثم ختم - سبحانه قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون في هذه السورة الكريمة ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف ، وهى حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين فقال - تعالى - :
{ وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر . . . }
قوله سبحانه - { وَجَاوَزْنَا } هو من جاوز المكان ، إذا قطعه وتخطاه وخلفه وراء ظهره وهو متعد بالباء إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل ، وإلى الثانى بنفسه .
والمراد بالبحر هنا : بحر القزم ، وهو المسمى الآن بالبحر الأحمر . وقوله { بَغْياً وَعَدْواً } أى ظلما واعتداء . يقال : بغى فلان على فلان بغيا ، إذا تطاول عليه وظلمه . ويقال : عدا عليه عَدْواً إذا سلبه حقه .
وهما مصدران منصوبان على الحالية بتأويل اسم الفاعل . أى : باغين وعادين . أو على المفعولية لأجله أى : من أجل البغى والعدوان .
والمعنى : وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر ، وهم تحت رعايتنا وقدرتنا ، حيث جعلناه لهم طريقا يبسا ، فساروا فيه حتى بلغوا نهايته ، فأتبعهم فرعون وجنوده لا لطلب الهداية والإِيمان ، ولكن لطلب البغى والعدوان .
قال الآلوسى : " وذلك أن الله - تعالى - لما أخبر موسى وهارون - عليهما السلام - بإجابته دعوتهما ، أمرهما بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا ، فخرجا بهم على حين غفلة من فرعون وملئه ، فلما أحسن بذلك ، خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين ، فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى ، وراءهم ، فقالوا يا موسى ، هذا فرعون وجنوده وراءنا . وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص ، فأوحى الله - تعالى - إلى موسى ، أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانلفق اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم ، وصار لكل سبط طريق فسلكوا ، ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وبنو إسرائيل قد خرجوا من البحر ومسلهكم باق على حاله ، فسلكه فرعون وجنوده ، فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج من البحر ، انطبق عليهم وغشيهم من اليم ما غشيهم " .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله فرعون عندما نزل به قضاء الله الذي لا يرد فقال - تعالى - : { حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } .
أى : لقد اتبع فرعون وجنوده بنى إسرائيل بغيا وعدوا ، فانطبق عليه البحر ، ولفه تحت أمواجه ولججه ، حتى إذا أدركه الغرق وعاين الموت وأيقن أنه لا نجاة له منه ، قال آمنت وصدقت . بأنه لا معبود بحق سوى الإِله الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وأنا من القوم الذين أسلموا نفوسهم لله وحده وأخلصوها لطاعته .
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } أي جوزناهم في البحر حتى بلغوا الشط حافظين لهم ، وقرئ " جوزنا " وهو من فعل المرادف لفاعل كضعف وضاعف . { فأتبعهم } فأدركهم يقال تبعته حتى اتبعته . { فرعون وجنوده بغيا وعدوا } باغين وعادين ، أو للبغي والعدو وقرئ " وعدوا " . { حتى إذا أدركه الغرق } لحقه . { قال آمنت أنه } أي بأنه . { لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } وقرأ حمزة والكسائي إنه بالكسر على إضمار القوم أو الاستئناف بدلا وتفسيرا ل { آمنت } فنكب عن الإيمان أو أن القبول وبالغ فيه حين لا يقبل .
قرأ الحسن بن أبي الحسن «وجوّزنا » بشد الواو ، وطرح الألف ، ويشبه عندي أن يكون «جاوزنا » كتب في بعض المصاحف بغير ألف ، وتقدم القول في صورة جوازهم في البقرة والأعراف ، وقرأ جمهور الناس «فأتبعهم » لأنه يقال تبع وأتبع بمعنى واحد ، وقرأ قتادة والحسن «فاتّبعهم » بشد التاء ، قال أبو حاتم : القراءة «أتبع » بقطع الألف لأنها تتضمن الإدراك ، و «اتّبع » بشد التاء هي طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك ، وروي أن بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف ، وكان يعقوب قد استقر أولاً بمصر في نيف على السبعين ألفاً من ذريته فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور ، وروي أن فرعون كان في ثمانمائة ألف أدهم حاشى ما يناسبها من ألوان الخيل ، وروي أقل من هذه الأعداد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والذي تقتضيه ألفاظ القرآن أن بني اسرائيل كان لهم جمع كثير في نفسه قليل بالإضافة إلى قوم فرعون المتبعين ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكوفيون وجماعة { عدواً } على مثال غزا غزاً ، وقرأ الحسن وقتادة «غزواً » على مثال علا علواً ، وقوله { أدركه الغرق } أي في البحر ، وروي في ذلك أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومشى فيه بنو إسرائيل ، قال لقومه إنما انفلق بأمري وكان على فرس ذكر فبعث الله جبريل على فرس أنثى وديق{[6216]} فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وحثت الجيوش خلفه فلما رأى الانفراق يثبت له استمر ، وبعث ميكائيل يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر ، فانطبق عليهم حينئذ ، فلما عاين فرعون قال ما حكى عنه في هذه الآية ، قرأ الجمهور الناس «أنه » بفتح الألف ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب ، ويحتمل أن تكون في موضع خفض على إسقاط الباء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو «إنه » بكسر الألف ، إما على إضمار الفعل أي آمنت فقلت إنه ، وإما على أن يتم الكلام في قوله { آمنت } ثم يتبدىء إيجاب «إنه » وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن جبريل عليه السلام قال ما أبغضت أحداً بغضي لفرعون ، ولقد سمعته يقول { آمنت } الآية ، فأخذت من حال البحر{[6217]} فملأت فمه مخافة أن تلحقه رحمة الله »{[6218]} وفي بعض الطرق : «مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتلحقه الرحمة »{[6219]} .
قال القاضي أبو محمد : فانظر إلى كلام فرعون ففيه مجهلة وتلعثم ، ولا عذر لأحد في جهل هذا وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه كقول علي رضي الله عنه ، «أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم » ، والحال الطين ، كذا في الغريب المصنف وغيره ، والأثر بهذا كثير مختلف اللفظ والمعنى واحد ، وفعل جبريل عليه السلام هذا يشبه أن يكون لأنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإن عاين ولم يكن عنده قبل إعلام من الله تعالى أن التوبة بعد المعاينة غير نافعة
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} بيان ذلك في طه...
{فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا}: ظلما، {وعدوا} يعني اعتداء،
{حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت} يعني صدقت، وذلك حين غشيه الموت،
{أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل} يعني بالذي صدقت به بنو إسرائيل من التوحيد، {وأنا من المسلمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جاوزوه. "فَأتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ "يقول: فتبعهم فرعون "وَجُنُودُهُ"... "بَغْيّا" على موسى وهارون ومن معهما من قومهما من بني إسرائيل. "وَعَدْوا" يقول: واعتداء عليهم...
"حتى إذَا أدْرَكَهُ الغَرَقُ" يقول: حتى إذا أحاط به الغرق. وفي الكلام متروك قد ترك ذكره بدلالة ما ظهر من الكلام عليه وذلك: فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا فيه، فغرّقناه "حتى إذَا أدْرَكَهُ الغرق".
وقوله: "قالَ آمَنْتُ أنّهُ لا إلَهَ إلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ وأنا مِن المُسلِمِينَ" يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل فرعون حين أشرف على الغرق وأيقن بالهلكة: "آمَنْتُ" يقول: أقررت، "أنّهُ لا إلَهَ إلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... ثم إيمانه لم يقبل في ذلك الوقت لوجهين:
أحدهما: لما يحتمل أن يكون إيمانه عند رؤية البأس وخوف الهلاك، فهو إيمان دفع البأس لا إيمان حقيقة، وهو على ما أخبر عن إيمان الكفرة في الآخرة لما عاينوا العذاب؛ كقولهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ)؛ وكقوله تعالى: (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، وكقولهم: (نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وأمثاله (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)؛ فما عاينوا هم من العذاب أكبر وأشد مما عاين فرعون، ثم أخبر أنهم لو ردوا لعادوا إلى ما كانوا يعملون لكنهم قالوا ذلك قول دفع، فعلى ذلك إيمان فرعون إيمان دفع البأس عن نفسه لا إيمان حقيقة واختيار.
والثاني: أن الإيمان والإسلام هو تسليم النفس إلى اللَّه، فإذا آمن في وقت خرجت نفسه من يده لم يصر مسلمًا نفسه إلى اللَّه؛ إذ نفسه ليست في يده ولذلك لم يقبل الإيمان في ذلك الوقت وقت الإشراف على الهلاك.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن الإيمان باللَّه لا يكون إلا بالاستدلال بالشاهد على الغائب، ولا يمكن الاستدلال بالشاهد على الغائب في ذلك الوقت؛ إذ لا يكون ذلك إلا بالنظر والتفكر وفي ذلك الوقت لا يمكن النظر والتفكر؛ لذلك لم يكن إيمان حقيقة، واللَّه أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حَمَلَتْ العِزَّةُ فِرعونَ على تَقَحُّمِ البحر على إثرهم، فلمَّا تحقَّقَ الهلاك حَمَلَتْه ضرورةُ الحِيلةِ على الاستعاذة، فلم ينفَعه ذلك لفوات وقت الاختيار. ويقال لما شهد صوْلَةَ التقدير أفاق من سُكْرِ الغلطة، لكن: بعد شهود البَاسْ لا ينفع التخاشعُ والابتئاسْ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته، وقاله حين لم يبق له اختيار قط، وكانت المّرة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر بالتأني الذي هو نتيجة العلم، عطف على ذلك الإخبار بالاستجابة قوله: {وجاوزنا} أي فعلنا بعظمتنا في إجازتهم فعل المناظر للآخر المباري له، ودل بإلصاق الباء بهم على مصاحبته سبحانه لهم دلالة على رضاه بفعلهم فقال: {ببني إسرائيل} أي عبدنا المخلص لنا {البحر} إعلاماً بأنه أمرهم بالخروج من مصر وأنجز لهم ما وعد فأهلك فرعون وملأه باتباعهم سبيل من لا يعلم بطشهم وعدم صبرهم، ونجى بني إسرائيل بصبرهم وخضوعهم؛ والالتفات من الغيبة إلى التكلم لما في هذه المجاوزة ومقدماتها ولواحقها من مظاهر العظمة ونفوذ الأوامر ومضاء الأحكام؛ وبين سبحانه كيفية إظهار استجابة الدعوة بقوله مسبباً عن المجاوزة: {فأتبعهم} أي بني إسرائيل {فرعون وجنوده} أي أوقعوا تبعهم أي حملوا نفوسهم على تبعهم، وهو السير في أثرهم، واتبعه -إذا سبقه فلحقه، ويقال: تبعه في الخير واتبعه في الشر. ولما أفهم ذلك، صرح به فقال: {بغياً} أي تعدياً للحق واستهانة بهم {وعدواً} أي ظلماً وتجاوزاً للحد.
ولما كان فاعل ذلك جديراً بأن يرجع عما سلكه من الوعورة، عجب منه في تماديه فقال- عاطفاً على ما تقديره: واستمر يتمادى في ذلك -: {حتى} ولما كانت رؤية انفراج البحر عن مواضع سيرهم مظنة تحقق رجوع الماء إلى مواضعه فيغرق، عبر بأداة التحقق فقال: {إذا أدركه} أي قهره وأحاط به {الغرق} أي الموت بالماء كما سأل موسى في أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم {قال آمنت} أي أوقعت إيمان الداعي لي من التكذيب؛ ثم علل إيمانه بقوله مبدلاً من {آمنت} في قراءة حمزة والكسائي بالكسر مؤكداً من شدة الجزع: {أنه} وعلى تقدير الباء تعليلاً في قراءة الجماعة أي معترفاً بأنه {لا إله إلا الذي} ويجوز أن يكون أوقع {آمنت} على {أنه} وما بعدها -أي {آمنت} نفي الإلهية عن كل شيء غير من استثنيته من أن أعبره أو أرجع عنه.
ولما كان قد تحقق الهلاك وعلم أنه لا نجاة إلا بالصدق، أراد الإعلام بغاية صدقه فقال: {آمنت} أي أوقعت التصديق معترفة {به بنو إسرائيل} فعينه تعييناً أزال الاحتمال؛ ثم قال: {وأنا من المسلمين} فكرر قبول ما كان دعي إليه فأباه استكباراً، وعبر بما دل على ادعاء الرسوخ فيه بياناً لأنه ذل ذلاً لم يبق معه شيء من ذلك الكبر ولم ينفعه ذلك لفوات شرطه، فاتصل ذله ذلك بذل الخزي في البرزخ وما بعده، وقد كانت المرة الواحدة كافية له عند وجود الشرط.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وجَاوزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْر} يقال جاز المكان وجاوزه إذا ذهب فيه وقطعه حتى خلفه وراءه. وأصله من جوز الطريق ونحوه وهو وسطه... ومجاوزة الله البحر بهم عبارة عن كونهم جاوزوه بمعونته تعالى وقدرته وحفظه، إذ كان آية من آياته لنبيه موسى عليه السلام بفرقه تعالى بهم البحر وانفلاقه لهم كما تقدم في سورة البقرة والأعراف.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ بَغْياً وعَدْواً} أي لحقهم فأدركهم ظلما وعدوانا عليهم ليفتك بهم، أو يعيدهم إلى مصر حيث يتعبدهم ويسومهم سوء العذاب.
{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي فخاض البحر وراءهم حتى إذا وصل إلى حد الغرق قال {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} أي قال قبل أن يغرق- وهو يدل على أن البحر لم يطبق عليه دفعة واحدة-: آمنت أنه لا إله بالحق إلا الرب الذي آمنت به جماعة بني إسرائيل بدعوة موسى.
{وأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي أنا فرد من جماعة المذعنين له، المنقادين لأمره، بعد ما كان من كفر الجحود بآياته والعناد لرسوله، يعني أنه جمع بين الإيمان الذي هو التصديق بالقلب، والإسلام الذي هو الإذعان والخضوع بالفعل، بدون امتياز لعظمة الملك، وكان من قبل جاحدا، أي مصدقا غير مذعن ولا خاضع، بدليل قوله تعالى فيه وفي آله {وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] يعني آيات موسى. وهذه هي العاقبة، وقد أجيب فيها فرعون عن دعواه بقوله تعالى -الذي يعرف بلسان الحال أو بقول جبريل عليه السلام-: {آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِين}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه الموقف الحاسم والمشهد الأخير في قصة التحدي والتكذيب. والسياق يعرضه مختصراً مجملاً، لأن الغرض من سياقة هذه الحلقة من القصة في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة. بيان رعاية اللّه وحمايته لأوليائه، وإنزال العذاب والهلاك بأعدائه، الذين يغفلون عن آياته الكونية وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معطوفة على جملة {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تَتَبَوَّءا لقومكما بمصر بيوتاً} [يونس: 87] عطف الغرض على التمهيد، أي، أمرناهما باتخاذ تلك البيوت تهيئة للسفر ومجاوزة البحر.
وجاوزنا، أي قطعنا بهم البحر، والباء للتعدية، أي أقطعناهم البحر بمعنى جعلناهم قاطعين البحر. وتقدم نظيره في سورة الأعراف [138]. ومجاوزتهم البحر تقتضي خوضهم فيه، وذلك أن الله جعل لهم طرائق في البحر يمُرون منها.
و {أتبعهم} بمعنى لحقهم. يقال: تَبعه فأتْبَعَه إذا سار خلفه فأدركه. ومنه {فأتبعَه شهابٌ ثاقب} [الصافات: 10]. وقيل: أتبع مُرادف تبع.
والبغي: الظلم، مصدر بغى. وتقدم عند قوله تعالى: {والإثم البغيَ بغير الحق} في [الأعراف: 33].
والعَدْو: مصدر عدا. وهو تجاوز الحد في الظلم، وهو مسوق لتأكيد البغي. وإنما عطف لما فيه من زيادة المعنى في الظلم باعتبار اشتقاق فعل عدا.
والمعنى: أن فرعون دخل البحر يتقصّى آثارهم فسار في تلك الطرائق يريد الإحاطة بهم ومنْعَهم من السفر، وإنما كان اتباعه إياهم ظلماً وعُدواناً إذ ليس له فيه شائبة حق، لأن بني إسرائيل أرادوا مفارقة بلاد فرعون وليست مفارقة أحد بلده محظورة إن لم يكن لأحد عليه حق في البقاء، فإن لذي الوطن حقاً في الإقامة في وطنه فإذا رام مغادرة وطنه فقد تخلى عن حق له، وللإنسان أن يتخلى عن حقه، فلذلك كان الخَلع في الجاهلية عقاباً، وكان النفي والتغريب في الإسلام عقوبة لا تقع إلا بموجب شرعي، وكان الإمساك بالمكان عقاباً، ومنه السجن، فليس الخروج من الوطن طوعاً بعُدوان. فلما رام فرعون منع بني إسرائيل من الخروج وشدّ للحاق بهم لردهم كرهاً كان في ذلك ظالماً معتدياً، لأنه يبتغي بذلك إكراههم على البقاء ولأن غرضه من ذلك تسخيرهم.
و {حتى} ابتدائية لوقوع {إذا} الفُجائية بعدها. وهي غاية للإتباع، أي استمر إتباعه إياهم إلى وقت إدراك الغرق إياه، كل ذلك لا يفتأ يجدّ في إدراكهم إلى أن أنجى الله بني إسرائيل فاخترقوا البحر، ورد الله غمرة الماء على فرعون وجنوده، فغرقوا وهلك فرعون غريقاً، فمنتهى الغاية هو الزمان المستفاد من (إذا)، والجملة المضافة هي إليها وفي ذلك إيجاز حذفٍ. والتقدير: حتى أدركه الغرق فإذا أدركه الغرق قال آمنت، لأن الكلام مسوق لكون الغاية وهي إدراك الغرق إياه فعند ذلك انتهى الإتباع، وليست الغاية هي قوله: {آمنت} وإن كان الأمران متقارنين.
والإدراك: اللحاق وانتهاء السير. وهو يؤذن بأن الغرق دنا منه تدريجياً بهول البحر ومصارعته الموج، وهو يأمل النجاة منه، وأنه لم يُظهر الإيمان حتى أيس من النجاة وأيقن بالموت، وذلك لتصلبه في الكفر.
وتركيب الجملة إيجاز، لأنها قامت مقام خمس جمل:
جملة: تفيد أن فرعون حاول اللحاق ببني إسرائيل إلى أقصى أحوال الإمكان والطمع في اللحاق.
وهاتان مستفادان من (حتى)، وهاتان منَّة على بني إسرائيل.
وجملة: تفيد أنه غمره الماء فغرق، وهذه مستفادة من قوله: {أدركه الغرق} وهي عقوبة له وكرامة لموسى عليه السلام.
وجملة: تفيد أنه لم يسعه إلا الإيمان بالله لأنه قهرته أدلة الإيمان. وهذه مستفادة من ربط جملة إيمانه بالظرف في قوله: {إذا أدركه الغرق}. وهذه منقبة للإيمان وأن الحق يغلب الباطل في النهاية.
وجملة: تفيد أنه مَا آمن حتى أيس من النجاة لتصلبه في الكفر ومع ذلك غلبه الله. وهذه موعظة للكافرين وعزة لله تعالى.
وقد بُني نظم الكلام على جملة: {إذا أدركه الغرق}، وجعل ما معها كالوسيلة إليها، فجعلت (حتى) لبيان غاية الإتْبَاع وجعلت الغاية أن قال: {آمنتُ} لأن إتباعه بني إسرائيل كان مندفعاً إليه بدافع حنقه عليهم لأجل الدين الذي جاء به رسولهم ليخرجهم من أرضه، فكانت غايتُه إيمانَه بحقهم. ولذلك قال: {الذي آمنت به بنو إسرائيل} ليفيد مع اعترافه بالله تصويبه لبني إسرائيل فيما هُدوا إليه، فجعل الصلة طريقاً لمعرفته بالله، ولعدم علمه بالصفات المختصة بالله إلا ما تضمنته الصلة إذ لم يتبصر في دعوة موسى تمام التبصر، ولذلك احتاج أن يزيد {وأنا من المسلمين} لأنه كان يسمع من موسى دعوتَه لأنْ يكون مسلماً فنطق بما كان يسمعه وجعل نفسه من زمرة الذين يحق عليهم ذلك الوصف، ولذلك لم يقل: أسلمتُ، بل قال أنا من المسلمين، أي يلزمني ما التزموه. جاء بإيمانه مجملاً لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله.
وسيأتي قريباً في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه.