13- شرع لكم من العقائد ما عهد به إلى نوح ، والذي أوحيناه إليك ، وما عهدنا به إلى إبراهيم وموسى وعيسى ، أن ثبِّتوا دعائم الدين - بامتثال ما جاء به - ولا تختلفوا في شأنه ، شق على المشركين ما تدعوهم إليه من إقامة دعائم الدين ، الله يصطفي لرسالته من يشاء ، ويوفق للإيمان وإقامة الدين من يترك العناد ويقبل عليه .
قوله تعالى :{ شرع لكم من الدين } بين وسن لكم ، { ما وصى به نوحاً } وهو أول أنبياء الشريعة . قال مجاهد : أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً . { والذي أوحينا إليك } من القرآن وشرائع الإسلام ، { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } واختلفوا في وجه الآية : فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام . وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات . وقال مجاهد : لم يبعث الله نبياً إلا أوصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة . فذلك دينه الذي شرع لهم . وقيل : هو التوحيد والبراءة من الشرك . وقيل : هو ما ذكر من بعد ، وهو قوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة . { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } من التوحيد ورفض الأوثان ثم قال : { الله يجتبي إليه من يشاء } يصطفي لدينه من عباده من يشاء ، { ويهدي إليه من ينيب } يقبل إلى طاعته .
{ 13 } { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ }
هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده ، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها ، وأزكاها وأطهرها ، دين الإسلام ، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده ، بل شرعه الله لخيار الخيار ، وصفوة الصفوة ، وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية ، أعلى الخلق درجة ، وأكملهم من كل وجه ، فالدين الذي شرعه الله لهم ، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم ، موافقا لكمالهم ، بل إنما كملهم الله واصطفاهم ، بسبب قيامهم به ، فلولا الدين الإسلامي ، ما ارتفع أحد من الخلق ، فهو روح السعادة ، وقطب رحى الكمال ، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم ، ودعا إليه من التوحيد والأعمال والأخلاق والآداب .
ولهذا قال : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } أي : أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه ، تقيمونه بأنفسكم ، وتجتهدون في إقامته على غيركم ، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان . { وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أي : ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه ، واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا ، وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على أصل دينكم .
ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه ، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة ، كاجتماع الحج والأعياد ، والجمع والصلوات الخمس والجهاد ، وغير ذلك من العبادات التي لا تتم ولا تكمل إلا بالاجتماع لها وعدم التفرق .
{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي : شق عليهم غاية المشقة ، حيث دعوتهم إلى الإخلاص للّه وحده ، كما قال عنهم : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وقولهم : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }
{ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ } أي يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته ومنه أن اجتبى هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم ، واختار لها أفضل الأديان وخيرها .
{ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } هذا السبب الذي من العبد ، يتوصل به إلى هداية الله تعالى ، وهو إنابته لربه ، وانجذاب دواعي قلبه إليه ، وكونه قاصدا وجهه ، فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية ، من أسباب التيسير لها ، كما قال تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ }
وفي هذه الآية ، أن الله { يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } مع قوله : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم ، وشدة إنابتهم ، دليل على أن قولهم حجة ، خصوصا الخلفاء الراشدين ، رضي الله عنهم أجمعين .
ثم أكد - سبحانه - الحقيقة التى افتتحت بها السورة الكريمة ، وهى وحدة الأديان فى جوهرها وأصولها ، وبين الأسباب التى أدت إلى اختلاف الناس فى عقائدهم ، وأرشد النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى أفضل الأساليب فى الدعوة إلى الحق ، فقال - تعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا . . . وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } .
قال الفخر الرازى : أعلم أنه - تعالى - لما عظم وحيه إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله : { كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } ذكر فى هذه الآية تفصيل ذلك فقال : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً . . } .
أى : شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا وإبراهيم وموسى وعيسى . . وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر ، لأنهم أكابر الأنبياء ، وأصحاب الشرائع العظيمة ، والأتباع الكثيرة .
والمراد بما شرعه - سبحانه - على ألسنة هؤلاء الرسل : أصول الأديان التى لا يختلف فيها دين عن دين ، أو شريعة عن شريعة ، كإخلاص العبادة لله - تعالى - والإِيمان بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر ، والتحلى بمكارم الأخلاق كالصدق والعفاف .
أما ما يتعلق بفروع الشرائع ، كتحليل بعض الطيبات لقوم على سبيل التيسير لهم ، وتحريمها على قوم على سبيل العقوبة لهم فهذا لا يدخل فى الصول الثابتة فى جميع الأديان ، وإنما يختلف باختلاف الظروف والأحوال .
ويؤيد ذلك قوله - تعالى - : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وقوله - سبحانه - حكاية عن عيسى - عليه السلام - { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } والمعنى : سن الله - تعالى - لكم يا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من العقائد ومكارم الأخلاق ، ما سنه لنوح - عليه السلام - الذى هو أول أولى العزم من الرسل ، وأول أصحاب الشرائع الجامعة .
وشرع الله - تعالى - لكم أيضا ما أوحاه إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من آداب وأحكام وأوامر ونواه .
وشرع لكم كذلك ما وصى به - سبحانه - أنبياءه : إبراهيم وموسى وعيسى ، من وصايا تتعلق بوجوب طاعة الله - تعالى - ، وإخلاص العبادة له ، والبعد عن كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم .
وقوله - سبحانه - : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } تفصيل وتوضيح لما شرعه - سبحانه - لهؤلاء الكرام ، ولما أوصاهم به .
والمراد بإقامة الدين : التزام أوامره ونواهيه ، وطاة الرسل فى كل ما جاءوا به من عند ربهم طاعة تامة .
قال صاحب الكشاف : والمراد : إقامة دين الإِسلام الذى هو توحيد الله - تعالى - وطاعته ، والإِيمان برسله وكتبه ، وبيوم الجزاء ، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما ، ولم يرد الشرائع التى هى مصالح الأمم حسب أحوالها ، فإنها مختلفة متفاوتة . قال الله - تعالى - { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ومحل { أَنْ أَقِيمُواْ } إما النصب على أنه بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه ، وإما الرفع على الاستئناف ، كأنه قيل : وما ذلك المشروع ؟ فقيل : هو إقامة الدين .
أى : أوصاكم كما أوصى من قبلكم بالمحافظة على ما اشتمل عليه دين الإِسلام من عقائد وأحكام وآداب .
. وأصول أجمعت عليها جميع الشرائع الإِلهية ، كما أوصاكم بعدم الاختلاف فى أحكامه التى لا تقبل الاختلاف أو التفرق .
ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من الدين الحق فقال : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } .
أى : شق وعظم على المشركين دعوتكم إياهم إلى وحدانية الله - تعالى - وإلى ترك ما ألفوه من شرك ، ومن تقاليد فاسدة ورثوها عن آبائهم .
وقوله - تعالى - : { الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } بيان لكمال قدرته - تعالى - ونفاذ مشيئته . والاجتباء : الاصطفاء والاختيار . أى : الله - تعالى - بإرادته وحكمته يطصفى ويختار لرسالته من يشاء من عباده ، ويهدى إلى الحق من ينيب إليه ، ويرجع إلى طاعته - عز وجل - ويقبل على عبادته .
يقول تعالى لهذه الأمة : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ، فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح ، عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم : إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، عليهم السلام . وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية " الأحزاب " عليهم في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } الآية[ الأحزاب : 7 ] . والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو : عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . وفي الحديث : " نحن معشر{[25795]} الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " أي : القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم ، كقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } أي : وصى الله [ سبحانه و ]{[25796]} تعالى جميع الأنبياء ، عليهم السلام ، بالائتلاف والجماعة ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف .
وقوله : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي : شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد .
ثم قال : { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } أي : هو الذي يُقدّر الهداية لمن يستحقها ، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ؛ ولهذا قال : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } .
المعنى : { شرع لكم } وبين من المعتقدات والتوحيد { ما وصى به نوحاً } قبل .
وقوله : { والذي } عطف على { ما } ، وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه ، وذلك في المعتقدات أو في جملة أمرها من أن كل نبوة فإنما مضمنها معتقدات وأحكام ، فيجيء المعنى على هذا : شرع لكم شرعة هي كشرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام في أنها ذات المعتقدات المشهورة التي هي في كل نبوءة وذات أحكام كما كانت تلك كلها ، وعلى هذا يتخرج ما حكاه الطبري عن قتادة قال : { ما وصى به نوحاً } يريد الحلال والحرام ، وعليه روي أن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات . وأما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة ، وهي المراد في قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً }{[10117]} .
و { أن } في قوله : { أن أقيموا } يجوز أن تكون في موضع نصب بدلاً من { ما } ، ويجوز في موضع خفض بدلاً من الضمير في { به } ، وفي موضع رفع على خبر ابتداء تقديره : ذلك أن ، و [ يجوز ] {[10118]} { أن } تكون مفسرة بمعنى : أي ، لا موضع لها من الإعراب ، وإقامة الدين هو{[10119]} توحيد الله تعالى ورفض سواه .
وقوله : { ولا تفرقوا } نهي عن المهلك من تفرق الأنحاء والمذاهب ، والخير كله في الألفة واجتماع الكلمة . ثم أخبر تعالى نبيه بصعوبة موقع هذه الدعوة إلى إقامة الدين على المشركين بالله العابدين الأصنام . قال قتادة : كبّرت عليهم : لا إله إلا الله ، وأبى الله إلا نصرها ، ثم سلاه عنهم بقوله : { الله يجتبي } أي يختار ويصطفي ، قاله مجاهد وغيره : و : { ينيب } معناه يرجع عن الكفر ويحرص على الخير ويطلبه .
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } .
انتقال من الامتنان بالنعم الجثمانية إلى الامتنان بالنعمة الروحية بطريق الإقبال على خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للتنويه بدين الإسلام وللتعريض بالكفار الذين أعرضوا عنه . فالجملة ابتدائية .
ومعنى { شرع } أوضح وبيّن لكم مسالك ما كلفكم به . وأصل { شَرَعَ } جعل طريقاً واسعة ، وكثُر إطلاقه على سنّ القوانين والأديان فسُمّي الدّين شريعة . فشرع هنا مستعار للتبيين كما في قوله : { أم لَهم شركاء شرَعُوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] ، وتقدم في قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شِرْعَةً ومنهاجاً } في سورة [ العقود : 48 ] .
والتعريف في { الدين } تعريف الجنس ، وهو يعمّ الأديان الإلهاية السابقة . و { من } للتبعيض .
والتوصية : الأمر بشيء مع تحريض على إيقاعه والعمل به . ومعنى كونه شرع للمسلمين من الدّين ما وصَّى به نوحاً أن الإسلام دين مثل ما أمر بِه نوحاً وحضَّه عليه . فقوله : { ما وصى به نوحاً } مقدر فيه مضاف ، أي مثلَ ما وصَّى به نوحاً ، أو هو بتقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ مبالغة في شدة المماثلة حتى صار المِثل كأنّه عين مثله . وهذا تقدير شائع كقول ورقة بن نوفل : « هذا هو الناموس الذي أنزل على عيسى » .
والمراد : المماثلة في أصول الدّين مما يجب لله تعالى من الصفات ، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع ، وأعظمُها توحيدُ الله ، ثم ما بعده من الكليات الخمس الضروريات ، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر بدونها ، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أُودع مثله في دين الإسلام . فالأديان السابقة كانت تأمر بالتوحيد ، والإيمان بالبعث والحياةِ الآخرة ، وتقْوى الله بامتثال أمره واجتناب مَنْهِيّه على العموم ، وبمكارم الأخلاق بحسب المعروف ، قال تعالى : { قد أفلح من تزكّى وذكر اسمَ ربّه فَصلَّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا والآخرة خير وأبقى إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحفِ إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 14 19 ] . وتختلف في تفاصيل ذلك وتفاريعه .
ودين الإسلام لم يَخْلُ عن تلك الأصول وإن خالفها في التفاريع تضييقاً وتوسيعاً ، وامتازت هذه الشريعة بتعليل الأحكام وسدّ الذرائع والأمر بالنظر في الأدلة وبرفع الحرج وبالسماحة وبشدة الاتصال بالفطرة ، وقد بيّنتُ ذلك في كتابي « مقاصدِ الشريعة الإسلامية » . أو المراد المماثلة فيما وقع عقبه بقوله : { أن أقيموا الدين } إلخ بناء على أن تكون { أنْ } تفسيرية ، أي شرع لكم وجوب إقامة الدّين المُوحَى به وعدم التفرّق فيه كما سيأتي . وأيًّا مَّا كان فالمقصود أن الإسلام لا يخالف هذه الشرائع المسمّاة ، وأن اتّباعه يأتي بما أتت به من خير الدّنيا والآخرة .
والاقتصار على ذكر دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن نوحاً أول رسول أرسله الله إلى النّاس ، فدينه هو أساس الدّيانات ، قال تعالى :
{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] ولأن دين إبراهيم هو أصل الحنيفية وانتشر بين العرب بدعوة إسماعيل إليه فهو أشهر الأديان بين العرب ، وكانوا على أثارة منه في الحجّ والختان والقِرى والفتوة . ودين موسى هو أوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام ، وأما دين عيسى فلأنه الدّين الذي سبق دين الإسلام ولم يكن بينهما دين آخر ، وليتضمنَ التهيئةَ إلى دعوة اليهود والنصارى إلى دين الإسلام . وتعقيب ذكر دين نوح بما أُوحي إلى محمّد عليهما السلام للإشارة إلى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان ، فعطف على أول الأديان جمعاً بين طَرفيْ الأديان ، ثم ذُكر بعدهما الأديانُ الثلاثة الأخَر لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها . وهذا نسج بديع من نظم الكلام ، ولولا هذا الاعتبار لكان ذكر الإسلام مبتدأ به كما في قوله : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] وقوله : { وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح } الآية في سورة [ الأحزاب : 7 ] .
وذكرَ في « الكشاف » في آية الأحزاب أن تقديم ذِكر النبي صلى الله عليه وسلم في التفصيل لبيان أفضليته لأن المقام هنالك لسرد من أخذ عليهم الميثاق ، وأما آية سورة الشورى فإنّما أوردت في مقام وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنّ الله قال : شرع لكم الدّينَ الأصيل الذي بعث به نوحاً في العهد القديم وبعث به محمداً صلى الله عليه وسلم في العهد الحديث ، وبعث به من توسط بينهما .
فقوله : { والذي أوحينا إليك } هو ما سبق نزوله قبل هذه الآية من القرآن بما فيه من أحكام ، فعطْفُهُ على ما وصَّى به نوحاً لما بينه وبين ما وصَّى به نوحاً من المغايرة بزيادة التفصيل والتفريع . وذكرُه عقب ما وصّى به نوحاً للنكتة التي تقدمت .
وفي قوله تعالى : { ما وصى به نوحاً } وقولِه : { وما وصينا به إبراهيم } ، جيء بالموصول { ما } ، وفي قوله : { والذي أوحينا إليك } جيء بالموصول { الذي } ، وقد يظهر في بادىء الرأي أنه مجرّد تفنّن بتجنب تكرير الكلمة ثلاثَ مرات متواليات ، وذلك كافٍ في هذا التخالف . وليس يبعد عندي أن يكون هذا الاختلافُ لغرض معنويّ ، وأنه فَرق دقيق في استعمال الكلام البليغ وهو أن { الذي } وأخواته هي الأصل في الموصولات فهي موضوعة من أصل الوضع للدلالة على من يُعيَّن بحالة معروفة هي مضمون الصلة ، ف { الذي } يدلّ على معروف عند المخاطب بصلته .
وأمّا { مَا } الموصولةُ فأصلها اسم عام نكرة مبهمة محتاجة إلى صفة نحو قوله تعالى : { إنَّ الله نعِمَّا يَعِظُكم به } [ النساء : 58 ] عند الزمخشري وجماعة إذ قدّروه : نعم شيئاً يعظكم به . ف { ما } نكرة تمييز ل ( نِعْم ) وجملة { يعظكم به صفة لتلك النكرة . وقال سيبويه في قوله تعالى : { هذا ما لديَّ عتيد } [ ق : 23 ] المراد : هذا شيء لدي عتِيد ، وأنشدوا :
لِمَا نافعٍ يسعَى اللبيبُ فلا تكُن *** لشيء بَعيدٍ نفعُه الدّهرَ ساعيا
أي لشيء نَافع ، فقد جاءت صفتها اسماً مفرداً بقرينة مقابلته بقوله : لشيء بعيد نفعه ، ثم يعْرِض ل { مَا } التعريفُ بكثرة استعمالها نكرة موصوفة بجملةٍ فتعرفت بصفتها وَأشْبهت اسم الموصول في ملازمة الجملة بعدها ، ولذلك كثر استعمال { ما } موصولة في غير العقلاء ، فيكون إيثار { ما وصَّى به نوحاً } و { ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } بحرف { ما } لمناسبة أنّها شرائع بَعُد العهدُ بها فلم تكن معهودة عند المخاطبين إلا إجمالاً فكانت نكرات لا تتميز إلا بصفاتها ، وأما إيثار الموحَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم باسم { الذي } فلأنه شرع متدَاوَل فيهم معروفٌ عندهم . فالتقدير : شرع لكم شيئاً وصَّى به نوحاً وشيئاً وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى ، والشيءَ الموحى به إليك . ولعل هذا من نكت الإعجاز المغفول عنها . وفي العدول من الغيبة إلى التكلم في قوله : { والذي أوحينا إليك } بعد قوله { شرع لكم } التفات .
وذُكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل { وصى } وفي جانب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فعل الإيحَاء لأن الشرائع التي سبقت شريعةَ الإسلام كانت شرائع موقتة مقدّراً ورود شريعة بعدها فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه ، وليقع الاتصال بين فعل { أوحينا إليك } وبين قوله في صدر السورة { كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } [ الشورى : 3 ] .
و { أنْ } في قوله : { أن أقيموا الدين } يجوز أن تكون مصدرية ، فإنّها قد تدخل على الجملة الفعلية التي فعلها متصرف ، والمصدرُ الحاصل منها في موضع بدل الاشتمال من { مَا } الموصولة الأولى أو الأخيرة . وإذا كان بدلاً من إحداهما كان في معنى البدل من جميع أخواتهما لأنها سواء في المفعولية لفعل { شرع } بواسطة العطف فيكون الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه مما اشتملت عليه وصاية الأديان . ويجوز أن تكون تفسيريةً لمعنى { وصى } لأنه يتضمن معنى القول دون حروفه . فالمعنى : أن إقامة الدّين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كلَّ رسول من الرّسل الذين سماهم . وهذا الوجه يقتضي أن ما حُكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدّين المشروع كما هو ، والإقامة مُجملةٌ يفسرها ما في كل دين من الفروع .
وإقامة الشيء : جعله قائماً ، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله : { ويقيمون الصلاة } وقد تقدم في سورة [ البقرة : 3 ] .
وضمير { أقيموا } مراد به : أُمَم أولئك الرسل ولم يسبق لهم ذكر في اللّفظ لكن دل على تقديرهم ما في فعل { وصى } من معنى التبليغ . وأعقب الأمرُ بإقامة الدّين بالنهي عن التفرق في الدين .
والتفرق : ضد التجمع ، وأصله : تباعد الذوات ، أي اتساع المسافة بينها ويستعار كثيراً لقُوّة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا ، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرّسول ، والكفر به ، أي لا تختلفوا على أنبيائكم ، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نِحَلاً وأحزاباً ، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها ، أي في أصوله وقواعده ومقاصده ، فإن الاختلاف في الأصول يفضي إلى تعطيل بعضها فينخرم بعض أساس الدّين .
والمراد : ولا تتفرقوا في إقامته بأن ينشط بعضهم لإقامته ويتخاذل البعض ، إذ بدون الاتفاق على إقامة الدّين يضطرب أمره . ووجه ذلك أن تأثير النفوس إذا اتفقت يَتوارد على قصد واحد فيقوَى ذلك التأثير ويسرع في حصول الأثر إذ يصير كل فرد من الأمة مُعِيناً للآخر فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم . أما إذا حصل التفرق والاختلاف فذلك مُفضضٍ إلى ضياع أمور الدّين في خلال ذلك الاختلاف ، ثم هو لا يلبث أن يُلقِيَ بالأمة إلى العداوة بينها وقد يجرّهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائرَ ، ولذلك قال الله تعالى : { ولا تَنَازَعُوا فتفْشَلُوا وتَذهَبَ ريحُكم } [ الأنفال : 46 ] .
وأما الاختلاف في فروعه بحسب استنباط أهل العلم بالدّين فذلك من التفقّه الوارد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم « من يُرِدِ الله به خيراً يفقِهْه في الدّين » .
{ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إليه } .
اعتراض بين جملة { شرع لكم من الدين } وجملةِ { وما تفرّقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم } [ الشورى : 14 ] . ولك أن تجعله استئنافاً بيانياً جواباً عن سُؤال مَن يتعجب من إعراض المشركين عن الإسلام مع أنه دين مؤيّد بما سَبق من الشرائع الإلهاية ، فأجيب إجمالاً بأنه كَبُر على المشركين وتجهموه و { كبر } بمعنى صعُب ، وقريب منه إطلاق ثقل ، أيْ عجزوا عن قبول ما تدعوهم إليه ، فالكبر مجاز استعير للشيء الذي لا تطمئن النفس لقبوله ، والكِبرُ في الأصل الدّال على ضخامة الذات لأن شأن الشيء الضخم أن يعسر حمله ولما فيه من تضمين معنى ثقل عدّي ب { على } .
وعبر عن دعوة الإسلام ب { ما } الموصولة اعتباراً بنُكران المشركين لهذه الدعوة واستغرابِهم إيّاها ، وعدِّهم إيّاها من المحال الغريب ، وقد كبر عليهم ذلك من ثلاث جهات :
جهة الداعي لأنه بشر مثلهم قالوا { أبعَث الله بشراً رسولاً } [ الإسراء : 94 ] ، ولأنه لم يكن قبْل الدعوة من عظماء القريتين { لولا نُزّل هذا القرآن على رجللٍ من القريتين عظيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
وجهةِ ما به الدعوة فإنهم حسبوا أن الله لا يخاطب الرّسل إلا بكتاب ينزله إليه دفعة من السماء فقد قالوا { لن نُؤمن لِرُقيِّك حتى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا } [ الفرقان : 21 ] { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] والقائلون هم المشركون .
ومن جهة ما تضمنته الدعوة مما لم تساعد أهواؤهم عليه قالوا : { أجعل الآلهة إلها واحداً } [ ص : 5 ] { هل ندُلُّكم على رجل ينبِّئكم إذا مُزِّقتم كلَّ مُمَزَّققٍ إنكم لفي خلققٍ جديدٍ } [ سبأ : 7 ] . وجيء بالفعل المضارع في { تدعوهم } للدلالة على تجدد الدعوة واستمرارها .
{ الله يجتبى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدى إِلَيْهِ مَن ينيب } .
استئناف بياني جواب عن سؤال من يسأل : كيف كبرت على المشركين دعوة الإسلام ، بأن الله يجتبي من يشاء ، فالمشركون الذين لم يقتربوا من هدى الله غيرُ مجتبَيْنَ إلى الله إذ لم يشأ اجتباءهم ، أي لم يقدر لهم الاهتداء . ويجوز أن يكون ردّاً على إحدى شبههم الباعثة على إنكارهم رسالته بأن الله يجتبي من يشاء ولا يلزمه مراعاة عوائدكم في الزعامة والاصطفاء .
والاجتباء : التقريب والاختيار قال تعالى : { قالوا لولا اجتَبَيْتَها } [ الأعراف : 203 ] . ومن يشاء الله اجتباءه مَن هداه إلى دينه ممن ينيب وهو أعلم بسرائر خلقه .
وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفِعلي لإفادة القصر ردّاً على المشركين الذين أحالوا رسالة بشر من عند الله . وحين أكبروا أن يكون الضعفة من المؤمنين خيراً منهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"شَرَعَ لَكُمْ" ربكم أيها الناس "مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً "أن يعمله، "وَالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد، فأمرناك به.
"وَما وَصّيْنا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدّينَ" يقول: شرع لكم من الدين، أن أقيموا الدين «فأن» إذ كان ذلك معنى الكلام، في موضع نصب على الترجمة بها عن «ما» التي في قوله: ما وَصّى بِهِ نُوحاً. ويجوز أن تكون في موضع خفض ردّاً على الهاء التي في قوله: بِهِ، وتفسيراً عنها، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. وجائز أن تكون في موضع رفع على الاستئناف، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: شرع لكم من الدين ما وصى به، وهو أن أقيموا الدين. وإذ كان معنى الكلام ما وصفت، فمعلوم أن الذي أوصى به جميع هؤلاء الأنبياء وصية واحدة، وهي إقامة الدين الحق، ولا تتفرّقوا فيه...
عن قتادة، قوله: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً" بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل الحلال، وتحريم الحرام "وَما وَصّيْنا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَموسَى وَعِيسَى"...
وعنى بقوله: "أنْ أقِيمُوا الدّينَ" أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض، كما قد بينا فيما مضى قبل في قوله: أقِيمُوا الصّلاة...
وقوله: "وَلا تَتَفَرّقُوا فِيهِ" يقول: ولا تختلفوا في الدين الذي أُمِرتُم بالقيام به، كما اختلف الأحزاب من قبلكم...
وقوله: "كَبُرَ على المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُم إلَيْهِ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كبر على المشركين بالله من قومك يا محمد ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله، وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد... وقوله: "اللّهُ يَجْتَبي إلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ" يقول: الله يصطفي إليه من يشاء من خلقه، ويختار لنفسه، وولايته من أحبّ... عن مجاهد، قوله: "اللّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ" يقول: ويوفق للعمل بطاعته، واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحقّ من أقبل إلى طاعته، وراجع التوبة من معاصيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا} الدين الذي يُذكر ويراد به الجزاء، وهو قوله تعالى: {ملك يوم الدين} [الفاتحة: 3] أي يوم الجزاء، أو يُذكر، ويراد به الحكم، كقوله تعالى خبرا عن يوسف عليه السلام: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} [يوسف: 76] أي في حكم الملك، ويُذكر ويراد به المذهب والمعتقد كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] وقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] فكان المعنى من قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا} هو المذهب، وما يُعتقد.
وقد ذكر الدين مُعرّفا بالألف واللام وإنه للجنس، فيكون كأنه قال: شرع لكم من الأديان جملة الدين الذي وصّى به نوحا ومن ذكر من الأنبياء، وهو التوحيد لله تعالى والعبادة له، والأنبياء والرسل جميعا إنما بُعثوا للدعاء إلى توحيد الله وجعل العبادة له، وإن اختلفت شرائعهم وأحكامهم، وذلك قوله: {لكل جعلنا منكم شِرعة ومنهاجا} [المائدة: 48].
ومن الناس من يكون {شرع لكم من الدين} ويجعل {من} صلة زائدة فيه، أي شرع لكم الدين الذي {وصّى به نوحا} ومن ذكر، والوجه فيه ما ذكرنا...
فإن قيل: ما معنى تخصيص نوح ومن ذكر من ذكر الأنبياء عليهم السلام والكل بُعثوا للدعاء إلى هذا الدين، وقد وصّى الكل بهذا الدين؟
فنقول ما قال بعضهم: إنما خصّ نوحا ومن ذكر بهذا؛ لأن التحليل والتحريم لم يكن قبل زمن نوح عليه السلام وإنما جاء ذلك في زمن نوح، لذلك خصّ نوحا بما ذكر.
ويحتمل أن يكون ذكر هؤلاء لا تخصيصهم بذلك من بين الأنبياء، ولكن ذكر بعضا ههنا، وترك ذكر البعض ليس أنه شرع له ما وصّى به نوحا ومن ذكر من الأنبياء، ولم يشرع له ما وصّى به غيرهم، بل شرع ما وصّى به هؤلاء وغيرهم من الدين كقوله تعالى: {فبهُداهم اقتده} [الأنعام: 90].
ويحتمل تخصيص هؤلاء بالذكر لمعنى لم يُطلعنا الله على ذلك كما خص إبراهيم بالصلاة عليه على ما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (كما صلّيت على إبراهيم) [البخاري 3370 ومسلم 405] لمعنى لم يُطلعنا على ذلك. والله أعلم...
{ولا تتفرّقوا فيه} يحتمل وجهين: أحدهما: {ولا تتفرّقوا فيه} أي في عبادة الله تعالى، أي اعبدوه جميعا.
والثاني: {ولا تتفرّقوا فيه} أي الدين الذي ذكر، وهو التوحيد...
{ويهدي إليه من يُنيب} أي هو يهدي من يطلب منه ما به يكون الهدى، وهو التوفيق، أي من لم يطلب منه ذلك ولم يسأل فإنه لا يهديه ولا يُوفّقه.
وقال بعضهم: {ويهدي إليه من ينيب} تفسير قوله تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء} أي يجتبي للهداية من يُنيب إليه. فأما من لم يُنب إليه فلا يجتبيه للهداية، لكن المراد من الهداية ههنا ليس هدى البيان؛ لأن هدى البيان قد كان عامّا لمن أناب إليه، ومن لم يُنب؛ ولكن الهدى ههنا هو هدى الرحمة وهدى النعمة والمنّة. سمّى التوحيد والإيمان مرة رحمة كقوله تعالى: {ولكن يُدخل من يشاء في رحمته} [الشورى: 8] وسمّاه نعمة كقوله {صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 7] وسماه مِنّة كقوله تعالى: {بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} [الحجرات: 17] وسماه نورا كقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر: 22]. فلذلك قلنا: إن الهدى المذكور ههنا ليس هو هدى البيان ولكن سواه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{مِّنَ الدِّينِ} أراد به أصول الدين؛ فإنها لا تختلف في جميع الشرائع، وأمَّا الفروع فمختلفة، فالآية تدلُّ على مسائلَ أحكامُها في جميعِ الشرائعِ واحدَةٌ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أَيْ اجْعَلُوهُ قَائِمًا، يُرِيدُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا، مَحْفُوظًا مُسْتَقِرًّا، من غَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ، وَلَا اضْطِرَابٍ عَلَيْهِ. فَمِن الْخَلْقِ مَنْ وَفَى بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَكَثَ بِهِ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
لما كان أول الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال: {ما وصى به نوحاً والذين أوحينا إليك}، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم، إذ كان أبا العرب، ففي ذلك هزلهم وبعث على ابتاع طريقته، وموسى وعيسى صلوات الله عليهم؛ لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان السياق للدين، وكانوا هم المقصودين في هذا السياق بالأمر به؛ لأن الشارع لهم قد أنتجه، وكانوا لتقليدهم الآباء يرون أن ما كان منه أقدم كان أعظم وأحكم ذكر لهم أول الآباء المرسلين إلى المخالفين فقال: {ما} أي الذي {وصى به} توصية عظيمة بعد إعلامه بانه شرعه.
{نوحاً} في الزمان الأقدم كما ختم به على لسان الخاتم، وأرسل به من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير؛ لأنه لا يرضيه سواه، فإن كنتم إنما تأنفون من الدخول في هذا الدين لحدوثه؛ فإنه أقدم الأديان وكل ما سواه حادث مع أنه ما بعث نبياً من أنبيائكم ولا من غيرهم إلا به، ومع أنه توفرت على الشهادة به الفطر الأولى دائماً، والفطر اللاحقة حتى من القلوب العاتية في أوقات الشدائد أبداً فأدخلوا فيه على بصيرة.
ولما كان الإعجاز خاصاً بنا، أبرزه في مظهر العظمة معبراً بالوحي، وبالأصل في الموصلات، ودالاً على زيادة عظمته بتقديمه على من كانوا قبله مع ترتيبهم عند ذكرهم على ترتيبهم في الوجود فقال: {والذي أوحينا إليك} وأفرد الضمير زيادة في عظمته دلالة على أنه لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم، ودل على عظمه ما كان لإبراهيم وبنيه بما ظهر من آثاره بمظهر العظمة، وعلى نقصه عما إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بالتعبير بالوصية فقال: {وما وصينا} أي على ما لنا من العظمة الباهرة التي ظهرت بها تلك المعجزات.
{به إبراهيم} الذي نجيناه من كيد نمرود بالنار وغيرها ووهبنا له على الكبر إسماعيل وإسحاق، وهو أعظم آباء العرب وهم يدعون أكبر بالآباء فليكونوا على ما وصيناه به.
{وموسى} الذي أنزلنا عليه التوراة موعظة وتفصيلاً لكل شيء.
{وعيسى} الذي أنزلنا عليه الإنجيل فيه هدى ونور وموعظة، ودخرناه في سمائنا لتأييد شريعة الخاتم الفاتح.
ولما اشتد تشوف السامع إلى الموحى الموصى به، أبرزه في أسلوب الأمر فقال مبدلاً من معمول "شرع "أو مستأنفاً: {أن أقيموا} أي أيها المشروع لهم من هذه الأمة الخاتمة ومن الأمم الماضية {الدين}...
ولما عظمه بالأمر بالاجتماع، أتبعه التعظيم بالنهي عن الافتراق فقال:
{ولا تتفرقوا} أي تفرقاً عظيماً بما أشار إليه إثبات التاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد جاء في مطلع السورة: (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم).. فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر، ووحدة المنهج، ووحدة الاتجاه. فالآن يفصل هذه الإشارة؛ ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو -في عمومه- ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى. وهو أن يقيموا دين الله الواحد ولا يتفرقوا فيه. ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم، دون التفات إلى أهواء المختلفين. ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم، ودحض حجة الذين يحاجون في الله، وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد. ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).. وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة. حقيقة الأصل الواحد، والنشأة الضاربة في أصول الزمان ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن. وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد. فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام.. نوح. إبراهيم. موسى عيسى، محمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير. إنه سيستروح السير في الطريق، مهما يجد فيه من شوك ونصب، وحرمان من أعراض كثيرة. وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله. الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ. ثم إنه السلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد، السائرين على شرعه الثابت؛ وانتفاء الخلاف والشقاق؛ والشعور بالقربى الوثيقة، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم، ووصل الحاضر بالماضي، والماضي بالحاضر، والسير جملة في الطريق.
وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى. ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى؟ وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى؛ وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد؟ وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين؟ ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير؟ والوصية الواحدة الصادرة للجميع: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)؟ فيقيموا الدين، ويقوموا بتكاليفه، ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به؛ ويقفوا تحت رايته صفا، وهي راية واحدة، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -صلوات الله عليهم- حتى انتهت إلى محمد [صلى الله عليه وسلم] في العهد الأخير. ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها -وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم- كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفاً آخر: (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه).. كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم؛ وكانوا يريدون أن يتنزل (على رجل من القريتين عظيم) أي صاحب سلطان من كبرائهم. ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق الأمين، ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش. ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان! وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان؛ وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية. فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم. وكبر عليهم أن يقال: إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية؛ فتشبثوا بالحماقة، وأخذتهم العزة بالإثم، واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم، على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين. والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن الله هو الذي يصطفي ويختار من يشاء؛ وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه، ويتوب إلى ظله من الشاردين: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب).. وقد اجتبى محمداً [صلى الله عليه وسلم] للرسالة. وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أصل {شَرَعَ} جعل طريقاً واسعة، وكثُر إطلاقه على سنّ القوانين والأديان فسُمّي الدّين شريعة...
والتوصية: الأمر بشيء مع تحريض على إيقاعه والعمل به...
ولأن دين إبراهيم هو أصل الحنيفية وانتشر بين العرب بدعوة إسماعيل إليه فهو أشهر الأديان بين العرب، وكانوا على أثارة منه في الحجّ والختان والقِرى والفتوة. ودين موسى هو أوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام، وأما دين عيسى فلأنه الدّين الذي سبق دين الإسلام ولم يكن بينهما دين آخر، وليتضمنَ التهيئةَ إلى دعوة اليهود والنصارى إلى دين الإسلام. وتعقيب ذكر دين نوح بما أُوحي إلى محمّد عليهما السلام للإشارة إلى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان، فعطف على أول الأديان جمعاً بين طَرفيْ الأديان، ثم ذُكر بعدهما الأديانُ الثلاثة الأخَر؛ لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها. وهذا نسج بديع من نظم الكلام، ولولا هذا الاعتبار لكان ذكر الإسلام مبتدأ به كما في قوله: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده} [النساء: 163].
وذُكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل {وصى} وفي جانب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فعل الإيحَاء؛ لأن الشرائع التي سبقت شريعةَ الإسلام كانت شرائع موقتة مقدّراً ورود شريعة بعدها؛ فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه، وليقع الاتصال بين فعل {أوحينا إليك} وبين قوله في صدر السورة {كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم}
والتفرق: ضد التجمع، وأصله: تباعد الذوات، أي اتساع المسافة بينها ويستعار كثيراً لقُوّة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرّسول والكفر به، أي لا تختلفوا على أنبيائكم، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نِحَلاً وأحزاباً، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها، أي في أصوله وقواعده ومقاصده، فإن الاختلاف في الأصول يفضي إلى تعطيل بعضها فينخرم بعض أساس الدّين.
والمراد: ولا تتفرقوا في إقامته بأن ينشط بعضهم لإقامته ويتخاذل البعض، إذ بدون الاتفاق على إقامة الدّين يضطرب أمره، ووجه ذلك أن تأثير النفوس إذا اتفقت يَتوارد على قصد واحد، فيقوَى ذلك التأثير ويسرع في حصول الأثر؛ إذ يصير كل فرد من الأمة مُعِيناً للآخر، فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم.
أما إذا حصل التفرق والاختلاف فذلك مُفضٍ إلى ضياع أمور الدّين في خلال ذلك الاختلاف، ثم هو لا يلبث أن يُلقِيَ بالأمة إلى العداوة بينها وقد يجرّهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائرَ، ولذلك قال الله تعالى: {ولا تَنَازَعُوا فتفْشَلُوا وتَذهَبَ ريحُكم} [الأنفال: 46].
وأما الاختلاف في فروعه بحسب استنباط أهل العلم بالدّين فذلك من التفقّه الوارد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم « من يُرِدِ الله به خيراً يفقِهْه في الدّين».
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهذا التوجيه القرآني- وإن كان موجها بالأصالة إلى المسلمين- فإنه يمكن أن يمتد أثره حتى إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بل إلى نفس المشركين العرب، ما داموا يدعون أنهم من بقايا ملة إبراهيم، فهؤلاء جميعا إذا أنصفوا وراجعوا أنفسهم، وعادوا إلى المنبع الأول والصافي للدين الحق، يلتقون جميعا في نقطة واحدة، ويجتمعون على كلمة سواء، وهي كلمة الإسلام...
هذه الآية هي المذكرة التفصيلية أو التفسيرية للآية الثالثة في أول السورة: {كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3] والتفصيل بعد الإجمال أسلوب من أساليب القرآن الكريم.
قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ..} يعني سَنَّ لكم وبيَّن ووضَّح، ومن هذه المادة شَرَعَ شَرَّع وشريعة يعني طريقة واضحة، والإنسان فيه جانبان المادة والروح. فكما أن الحق سبحانه ضمن له بقاء حياة المادة بالماء والطعام والهواء، كذلك جعل له حياة لروحه حياة بالقيم والأخلاق.
هذه القيم هي منهج الله الذي نزل على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، وبهذا المنهج تحيا القلوب والأرواح كما تحيا الأبدان بالطعام والشراب، وهذا الشرع وهذه القيم ليست جديدة في موكب الرسالات، بل هي سنة الله فيمَنْ سبق كان لهم دين وشرع، كل بما يناسبه.
لذلك قال بعدها: {مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً..} يعني: ما أمر به نوحاً وألزمه من التكاليف، واختار نوحاً لأنه كان أول رسول في العموميات، وقد قال بعض العلماء أن نوحاً أُرسل كذلك للناس كافة على اعتبار أن الناس في زمنه كانوا هم ركاب السفينة، فعموميته خاصة بالموجودين معه على السفينة، أما عمومية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت عامة للناس في كل مكان على وجه الأرض.
ثم تأمل هنا دقة الأداء القرآني في {مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً..} ما هنا اسم موصول بمعنى الذي، وكان المنطق أن يقول بعدها: وما أوحينا إليك. باسم الموصول (ما) لكن هنا الكلام عن الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بالذي وهي أم الموصولات كلها، ومع غيره جاءت (ما) وهي كما يقول النحويون اسم موصول بمعنى الذي، ثم تلاحظ الفعل (وصى) هكذا بالمفرد، إنما مع رسول الله قال: {وَالَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ..} بنون الجمع ويسمونها نون العظمة.
ثم بعد ذلك يعود السياق إلى استخدام (ما) مرة أخرى: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ..} وهذه تدل على خصوصية لسيدنا رسول الله من بين سائر الرسل عليهم جميعاً السلام.
قوله تعالى شرع ووصى، بماذا؟ تأتي بعده (أنْ) ويسمونها أن التفسيرية، يعني: تفسر لنا مدلولَ شرع ووصى {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ..} ومثله قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ..} [القصص: 7] إذن: وصَّى الله هؤلاء الأنبياء بأن يقيموا الدين وبعدم التفرق فيه والاختلاف.
وإقامة الشيء أي جَعْله قائماً، والقيام هو العمدة في الدلالة على القوة والمقدرة، فالإنسان لا يقوم إلا حال قوته، فإن تعب من القيام قعد، فإنْ تعب من القعود يضطجع، فالحق يريد منا أنْ نجعل الدين قائماً يعني: نقوم به لا نقعد ولا ننام، فالقيام هنا كناية عن الاهتمام به والمحافظة عليه {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ..} نهى عن الاختلاف فيه...
إذن: قوله سبحانه: {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ..} لا تأخذوا أرباباً من دون الله، أو لا تتفرقوا في الدين شيعاً وأحزاباً، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ..} [الأنعام: 159] فساعة تتشتت الجماعة فِرَقاً اعلم أنهم جميعاً جانبوا الصواب، لأن الحق واحد يجب أنْ نلتفَّ جميعاً حوله.
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ..} كلمة كبُر بالضم يعني عَظُم عليهم وشَقَّ عليهم، أما كبَر بالفتح فتُقال للسنِّ فالمشركون عَظُم عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى، وشَقَّ عليهم أنْ ينطقوا بكلمة الشهادة لا إله إلا الله، وهم يفهمون جيداً معناها ومقتضاها، فهي عندهم ليستْ كلمة تقولها الألسنة إنما هي منهج حياة لها متطلبات، وإلا لكانوا قالوها.
عَظُم في أنفسهم وشَقَّ عليهم أنْ يكون الناسُ سواسيةً كأسنان المشط لا فرقَ بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهم السادة أصحاب السلطة الزمنية من قديم، فكيف يأتي الإسلام ويُسوِّي بين السادة والعبيد فكبُر عليهم ذلك، وعَظُم في أنفسهم.
لذلك وقفوا في وجه رسول الله وعادوه وأخذوا منه موقفَ اللدد والخصومة، لكن الحق سبحانه يُطمئن رسوله فيقول بعدها: {اللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}..
الحق سبحانه وتعالى يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم يقول له: لا تهتم بموقفهم العدائي لك ومصادمتهم لدعوتك، فهذا أمر طبيعي فَوُقُوفُهُم في وجهك شهادة لك أنك على حق، لأنك ستأخذ منهم وتسلبهم السيادة التي كانت لهم، وتمنع الفساد المنتشر في مجتمعهم وهم منتفعون بهذا الفساد، والناس مُستكينة لهم لأنهم مُستضعفون لا حيلةَ لهم.
إذن: عداؤهم لك أمر طبيعي، فهم يسيرون وفق طبيعتهم وأنت تسير وفق طبيعتك، يعني من شيمتهم الأعتداء والعناد والمكابرة، ومن شيمتك التحمُّل للأذى.
فكأنَّ قوله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} إشارة إلى أن هؤلاء الصناديد المعاندين للدعوة سوف يكون منهم أنصار لها وأعلام في سمائها، فلا تعجل ولا تحزن ولا تهتم، سوف نأخذهم إلى ساحة الإيمان واحداً تلو الآخر، وبالفعل صدق الله فيما أخبر به رسوله، فقد دخل في الإسلام عمر وخالد وعمرو وعكرمة وغيرهم.
كلمة (يجتبي) بمعنى يختار ويصطفي من عباده مَنْ يشاء لنصرة دينه، وهذا الاصطفاء كأنه مقدمة للهداية، لذلك قال بعدها: {وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} فيصطفيهم أولاً بأن يبعدهم عن عداوة الدعوة، ويحبِّب إليهم الإيمان كأنه يجهزهم لهذه المهمة...
وقبل أن نترك هذه الآية ينبغي أن نشير إلى الفتنة التي أثارها بعض المستشرقين حول قوله تعالى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ..} يقولون: ما الضرورة إذن لمجيء الرسالة الآخرة ما دامت الوصية لجميع الرسل واحدة، ثانياً: قالوا بوجود تعارض بين الآيات، لأن الله تعالى قال في موضع آخر: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً..} [المائدة: 48].
إذن: فلكل نبي شريعة، وعند محمد أشياء غير ما وصى به.
وللرد على الشبهة الأولى نقول: إن الحق سبحانه وتعالى له أشياء ضرورية، ألزم بها جميع الرسل في موكب الرسالات، فهم جميعاً متفقون في هذه الأمور، أولها التوحيد وعدم الشرك بالله، ثم الإيمان بالكتب السماوية وبالرسل، ثم الإيمان بالبعث.
فهذا قَدْر مشترك عند جميع الرسل لا يتغير، لأنها ثوابت الدين وأعمدته، وهي المرادة في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَالَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ..}.
فالوصية هنا بالأشياء الضرورية والثابتة في كل الأديان السماوية، فالتوحيد دعوة كل رسل الله، والصلاة وجدناها في كل الشرائع السابقة، وكذلك الزكاة، لذلك لا يمكن أبداً أنْ تخلو رسالة من الرسالات من هذين الأمرين...
كذلك اتفقت كل الأديان السماوية في تطهير النفس والجوارح من الآثام والمعاصي التي تضر بالنفس وبالمجتمع، لأن التخلية من الآثام تسبق التحلية بالطاعات.
خذ الجوارح من أول القلب إلى القدم تجد كل الأديان السماوية تدعو إلى تطهيرها، فالقلب وهو قائد الجوارح والأم بينها، لذلك قال عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا إن في الجسد مُضْغة إذا صَلُحَتْ صَلُح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ومطلوب للقلب عدة أشياء: أولاً: عدم الإشراك بالله، ثم عدم الإصرار على المعصية، ثم لا يأمن مكر الله ولا يقنط من رحمة الله. هذه كلها عقيدة ينبغي أن تستقر في القلب.
كذلك اللسان وهو عمدة البيان والتبليغ يجب أنْ يتطهر من عدة أشياء: أولها: شهادة الزور، ثم قَذْف المحصنات، ثم اليمين الغموس وهو يمين ليس له كفارة، ثم يتطهر اللسان من أنْ يقول الطلاسم التي يقولها السحرة.
تعالَ إلى البطن ينبغي أنْ تتطهر وتبرأ من عدة أشياء: شرب الخمر، أكل الربا، أكل مال اليتيم.
وكذلك اليدان تبرأ من السرقة ومن القتل. وكذلك العورات تبرأ من الزنا وغيره مما حرَّمه الله عليها، وكذلك الرِّجْلان تبرأ من التولي يوم الزحف، ومن السعي إلى كل ما هو محرَّم.
ومن هذه الثوابت عقوق الوالدين، فهو محرم في كل الأديان كذلك وهو عام في كل الجوارح، وقد حرمه الحق سبحانه لأن بر الوالدين تدريب ورياضة لطاعة الله، ذلك لأن الوالدين سبب الوجود المباشر، والحق سبحانه وتعالى سبب الوجود غير المباشر.
فكأن طاعة الوالدين وبرَّهما باب ومدخل لطاعة الله. وهذا البر محفوظ لهما، حتى وإنْ كانا مشركين: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً..} [لقمان: 15].
لذلك الحق سبحانه وتعالى يُعلِّمنا بر الوالدين في موكب الرسالات كلها... إذن: فالحق سبحانه يريد للجميع أنْ يكون نظيفاً طاهراً من كل هذه الآثام، لذلك طهَّر الجوارح كلها وجعلها أداة بناء ومودة وتراحم، وبنى المجتمع على أسس قويمة تكفل لأفراده الحياة السعيدة المطمئنة، وهذا قاسم مشترك في كل ديانات السماء، وهذه الأمور هي المرادة بقوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً..}
أما قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً..} [المائدة: 48] فيُراد بها الشرائع والأحكام الخاصة بكل ديانة، وهذه الشرائع تختلف باختلاف المجتمعات والبيئات والداءات الموجودة والآفات المنتشرة بين القوم، فالشرائع تأتي لمعالجة الآفات في مجتمعها ولذلك تختلف من دين لآخر...
من هذا نعلم أن اعتراض المستشرقين لا محلَّ له، فلكل آية موضوعها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} وذلك بالالتزام به، والانتماء له، والسير على منهجه، وتحويله إلى سلوكٍ عمليٍّ في الحياة، والوقوف عند ثوابته وجعلها منطلق وحدةٍ وملتقى موقف، لتصل الناس في كل مرحلةٍ من مراحل النبوّات بخط النبوّة التي سبقتهم، وينفتحوا على ما يأتي بعدهم من نبوّات.