قوله تعالى : { يوم يدعوكم } من قبوركم إلى موقف القيامة ، { فتستجيبون بحمده } ، قال ابن عباس : بأمره . وقال قتادة : بطاعته . وقيل : مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد . وقيل : هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين . { وتظنون إن لبثتم } ، في الدنيا وفي القبور ، { إلا قليلاً } ، لأن الإنسان لو مكث ألوفاً من السنين في الدنيا وفي القبر عد ذلك قليلاً في مدة يوم القيامة والخلود . قال قتادة : يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة .
{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } للبعث والنشور وينفخ في الصور { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي : تنقادون لأمره ولا تستعصون عليه . وقوله : { بحمده } أي : هو المحمود تعالى على فعله ويجزي به العباد إذا جمعهم ليوم التناد .
{ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا } من سرعة وقوعه وأن الذي مر عليكم من النعيم كأنه ما كان .
فهذا الذي يقول عنه المنكرون : { متى هو } ؟ يندمون غاية الندم عند وروده ويقال لهم : { هذا الذي كنتم به تكذبون }
ثم بين - سبحانه - أحوالهم عندما يُدْعَوْن فى هذا اليوم الهائل الشديد فقال : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ . . . } .
والظرف { يوم } منصوب بفعل مضمر أى : اذكروا يوم يدعوكم . . ويجوز أن يكون منصوبا على البدلية من { قريبا } .
والداعى لهم هو " إسرافيل " - عليه السلام - عندما يأذن الله - تعالى - له بالنفخ فى الصور ، كما قال - تعالى - : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } وكما قال - سبحانه - : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } وقوله { بحمده } حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار ، والباء للملابسة .
أى : اذكروا - أيها المكذبون - يوم يدعوكم الداعى إلى البعث والنشور فتلبون نداءه بسرعة وانقياد ، حال كونكم حامدين الله - تعالى - على كمال قدرته ، وناسين ما كنتم تزعمون فى الدنيا من أنه لا بعث ولا حساب .
وقوله [ تعالى ]{[17595]} : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } أي : الرب تعالى { إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] أي : إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يُخالَف ولا يُمَانع ، بل كما قال [ تعالى ]{[17596]} { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] وقال { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ . فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [ النازعات : 13 ، 14 ] أي : إنما هو أمر واحد بانتهار ، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها{[17597]} كما قال : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي : تقومون{[17598]} كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي : بأمره . وكذا قال ابن جريج .
وقال بعضهم : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي : وله الحمد في كل حال ، وقد جاء في الحديث : " ليس على أهل " لا إله إلا الله " وحشة في قبورهم ، وكأني{[17599]} بأهل " لا إله إلا الله " يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم ، يقولون : لا إله إلا الله " . وفي رواية يقولون : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [ فاطر : 34 ] وسيأتي في سورة فاطر [ إن شاء الله تعالى ]{[17600]} .
وقوله : { وَتَظُنُّونَ } أي : يوم تقومون من قبوركم { إِنْ لَبِثْتُمْ } [ أي ]{[17601]} : في الدار الدنيا { إِلا قَلِيلا } ، وكما قال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] وقال تعالى : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا } [ طه : 102 - 104 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } [ الروم : 55 ] ، وقال تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون : 112 - 114 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنّونَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً * وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ الشّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مّبِيناً } .
يقول تعالى ذكره : قل عسى أن يكون بعثكم أيها المشركون قريبا ، ذلك يوم يدعوكم ربكم بالخروج من قبوركم إلى موقف القيامة ، فتستجيبون بحمده .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : فتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ فقال بعضهم : فتستجيبون بأمره . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ يقول : بأمره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قال : بأمره .
وقال آخرون : معنى ذلك : فتستجيبون بمعرفته وطاعته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ : أي بمعرفته وطاعته .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : معناه : فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته ، ودعائه إياكم . ولله الحمد في كلّ حال ، كما يقول القائل : فعلت ذلك الفعل بحمد الله ، يعني : لله الحمد عن كلّ ما فعلته ، وكما قال الشاعر :
فإنّي بِحَمْد الله لا ثَوْبَ فاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنّعُ
بمعنى : فإني والحمد لله لا ثوب فاجر لبست .
وقوله : وَتَظُنّونَ إنْ لَبثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً يقول : وتحسِبون عند موافاتكم القيامة من هول ما تعاينون فيها ما لبثتم في الأرض إلا قليلاً ، كما قال جلّ ثناؤه قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْض عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسألِ العادّينَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَتَظُنّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً : أي في الدنيا ، تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلّت ، حين عاينوا يوم القيامة .
{ يوم } : بدل من قوله { قريباً } [ الإسراء : 51 ] ، ويظهر أن يكون المعنى : هو يوم ، جواباً لقولهم : { متى هو } [ ذاته ] ويريد : يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور ، لقيام الساعة ، وقوله { فتستجيبون } أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة ، وقوله : { بحمده } ، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال معناه : بأمره ، وكذلك قال ابن جريج ، وقال قتادة معناه : بطاعته ومعرفته ، وهذا كله تفسير لا يعطيه اللفظ ولا شك أن جيمع ذلك بأمر الله تعالى وإنما معنى { بحمده } : إما أن جميع العالمين ، كما قال ابن جبير ، يقومون وهم يحمدون الله ويحمدونه لما يظهر لهم من قدرته ، وإما أن قوله { بحمده } هو كما تقول لرجل خصمته وحاورته في علم قد أخطأت بحمد الله{[7597]} ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم في هذه الآيات : عسى ، أن الساعة قريبة ، يوم يدعون فيقومون بخلاف ما تعتقدون الآن ، وذلك بحمد الله على صدق خبري ، نحا هذا المنحى الطبري ولم يخلصه ، وقوله تعالى { وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً } يحتمل معنيين : أحدهما أنه أخبر أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة ، وتصرف الأجساد ، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلاً لمغيب علم مقدار الزمن عنهم ، إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا ، إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين ، وعلى هذا التأويل عول الطبري ، واحتج بقوله تعالى : { كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أبو بعض يوم }{[7598]} ، والآخر : أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال لهم : يوم تدعون فتستجيبون بحمد الله ، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلاً ، من حيث هو منقض منحصر ، وهذا كما يقال في الدنيا بأسرها : متاع قليل ، فكأنه قلة قدر على أن الظن بمعنى اليقين يقلق ها هنا لأنه في شيء قد وقع ، وإنما يجيء الظن بمعنى اليقين فيما لم يخرج بعد إلى الكون والوجود ، وفي الكلام تقوية للبعث ، كأنه يقول : أنت أيها المكذب بالحشر ، الذي تعتقد أنك لا تبعث أبداً ، لا بد أن تدعى للبعث ، فتقوم ، وترى أنك إنما لبثت قليلاً منقضياً منصرماً . وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة احتقروا الدنيا فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلاً .